أجرت صحيفة التيار حواراً الأسبوع الماضي مع القيادي في جماعة الأخوان المسلمين الدكتور عصام أحمد البشير برَّر فيه تبدُّل مواقفه تجاه حكومة "الإنقاذ",و تحدَّث عن الفساد و هيمنة الدولة على المجتمع وضخامة الشعارات التي رفعتها الحكومة, كما عبَّر في أكثر من موضع عن إعجابه بتجربة حركة النهضة التونسية. آراء الدكتور عصام حول الفساد وهيمنة الدولة على المجتمع وضخامة الشعارات, وكذلك تبريره لمواقفه المتقلبة تجاه حكومة الإنقاذ سأفرد لها مقالاً منفصلاً, وأركز في هذا المقال على مناقشة الآراء التي ذكرها بخصوص حركة النهضة التونسية وزعيمها "راشد الغنوشي".
قال الدكتور عصام بضرورة الإعلاء من شأن "التوافق" الوطني, وأستشهد بمقولة : ( إن الشرعية الانتخابية لابد لها من شرعية توافقية), وأضاف عليها ( فما هي قيمة أن أتصدر المشهد السياسي، ويكون المجتمع قد إنقسم وفق هذا الاستقطاب مدة ؟ أعجبني في الشيخ راشد الغنوشي أنه ارتضى نهج تغليب الشرعية التوافقية على الشرعية الانتخابية رغم أنه حازعلى الأغلبية تقديراً, لأن الواقع التونسي لا يحتمل هذا التصدر).
وكذلك أبدى إعجابه بموقف الغنوشي الساعي لتغليب "مصلحة الوطن" على الكسب الحزبي, ذلك لأنَّ السلطة بالنسبة للحركة لا تمثل غاية في حد ذاتها بل وسيلة, وقال ( وأعجبتني عبارة الشيخ راشد الغنوشي الذي قال:إن خسرت النهضة بعض مواقعها فقد كسب الوطن، وأن يربح الوطن أعظم من أن تخسر الحركة).
يتفق كاتب هذه السطور مع الدكتور عصام في إعجابه بمواقف حركة النهضة وزعيمها, بغض النظر عن الدوافع التي وقفت وراء تلك المواقف, ولكن ما يهم في هذا الإطار هو الأفكار "الكلية" الجريئة التي جهرت بها قيادات النهضة بينما عجزت بقية فروع "الأخوان المسلمين" في نسخها المختلفة عن الإقتراب منها.
كنا نتوقع من الدكتور عصام, وهو يطرح نفسه كداعية مُجدِّد وخطيب معاصر أن لا يكتفي بإبداء الإعجاب بمواقف الغنوشي, بل تكون لديه نفس الجرأة ليصدح بمثل آراءه في قضايا الشريعة والدستور والقوانين.
عندما سئل الشيخ الغنوشي في حوار سابق عن السبب الكامن وراء النجاح النسبي الذي حققتهُ حركة النهضة حتى الآن، أجاب بالقول : ( لقد أدركنا أننا "مُكوِّنٌ واحدٌ فقط" من مكونات المنظومة السياسية التونسية ولسنا "المُكوِّن الوحيد"، وكذلك تعلمنا الا نستخدم قوة الدولة في فرض توجهاتنا، لذا لم نطالب بتطبيق الحدود، أو إلغاء السياحة، أو فرض الحجاب، وتركنا كل ذلك لحركة المجتمع لتقرِّر بشأنه ).
إنَّ "التوافق الوطني" عند الغنوشي يتجاوز قضية تطبيق "الحدود" وفرض الحجاب ومنع السياحة, فالرجل يقول بوضوح إنَّ "الدولة" يجب أن لا تتدخل في هذه الأمور وتتركها "لحركة المجتمع" ليقرر فيها, فهل يستطيع الدكتور عصام وإخوانه في السودان أن يجهروا بمثل هذا الرأي ؟
إذا تجرأ كاتب أو مفكر في بلدنا المنكوب على طرح ما ينادي الغنوشي لإنتاشته سهام أهل الإسلام السياسي جميعاً ووضعتهُ في خانة "أعداء الشريعة" الذين لا هم لهم سوى "محاربة الدين", ولو قال شخص ما أنَّ التفكير في وحدة "الوطن" وسلامة أبناءه يجب أن يُقدَّم على ما سواه, إذاَ لإنطلقت في مواجهته حملات "التكفير" وإتهامات "الردة" من أخوان الدكتور عصام وجماعته في الحكم.
ليس الغنوشي وحده من قال بمثل هذا الحديث, بل هاهو نائبه "عبد الفتاح مورو" يمضي أبعد منه ليقول : بأنَّ ( الأمة ليس لها كيان وطني، فإيجاد الكيان الوطني مُقدَّمٌ على تطبيق الشريعة، القضية ليست تطبيق القانون الأهم هو بناء دولة العدالة، فليست القضية قطع يد أو قطع رأس أو إقامة حد، بل بناء دولة المواطنين).
قد إستطاع عبد الفتاح مورو الولوج لجوهر القضية والمتمثل في إقامة دولة "العدالة" والتي بدورها لن تتأتي إلا في ظل "الحرية"، وليس مُجرَّد تطبيق القوانين، حيث يقول الرجل أنَّ : ( من يريدون تحكيم الشريعة، يريدون تطبيق القانون فقط، و يختزلون القضية في النص القانوني )، ويتساءل : ( وهل مشكلتنا هي النص القانوني المستمد من الشريعة ؟
ثم هاهو مورو يضع إصبعه على العلة الأساسية وراء التخلف الإسلامي فيقول : (بالطبع ليست المشكلة في القوانين, إنَّ تخلف العالم الإسلامي أكبر من ترك الصلاة، وعدم لبس المرأة للحجاب الشرعي، وعدم إطالة اللحية، أو تقصير الثياب، أو عدم تطبيق الحدود، فالعالم الإسلامي تخلف لأنه لم يستطع الحفاظ على القيم الأخلاقية التي تحمي حقوق الناس وكرامتهم ).
ومن المعلوم أنَّ تونس أجازت دستورها بموافقة "حركة النهضة" دون أن ينص على أنَّ الشريعة هى مصدر القوانين والتشريعات، و "الحدود الشرعية" غير مطبقة في تونس اليوم كما كانت غير مُطبقة منذ الإستقلال ومع ذلك لم يعترض الشيخ الغنوشي أو حركته ولم يصدروا فتاوى تكفر الدولة والمجتمع كما يفعل إخوانهم من بقية جماعات الإسلام السياسي في الدول الأخرى.
أين الدكتور عصام وجماعته من هذا الحديث, أليسوا هم من تخصصوا في إطلاق مقولة ( الشريعة خط أحمر) لن نسمح بالمساس بها ؟ يطلقون مثل هذه العبارات بينما الوطن نفسه ينسرب من بين الأيادي وحينها لن يجدوا شعباً يطبقون فيه الشريعة.
أمَّا القيادي البارز في حركة النهضة سيِّد الفرجاني فقد سبق له القول إنَّ هناك : ( نقاش جار حول الشريعة في الشارع التونسي. إنَّ الحركة (النهضة) تريدُ، بحسب المفهوم الخلدوني، القطع مع نظام الإستبداد، وأن يكون نظامنا نظاماً عقلياً يؤدي الحقوق ويكون نظاماً ديمقراطياً متميزاً). إنتهى
هذه النظرة تنفذ إلى لبِّ الشريعة الإسلاميِّة وجوهرها : الحُريَّة . وهى نظرة ترَّكز على (العقل) في بناء النظام, وعلى أداء (الحقوق), وهذه هى العناصر التي يقوم عليها النظام الديموقراطي. ويمضى في قوله ليؤكد أنّ :َ ( الحُريِّات والمعرفة هي شروطٌ للدين الإسلامي وللعبادة بمعنى أنَّ الحُريِّات قبل الشريعة ).
ماهو رأيك – يادكتور عصام – في هذا القول : الحُريات قبل الشريعة , وأين هى الحريات في بلدنا الذي تدعي حكومته أنها تطبق الشريعة ؟
يتوقع المرء من الأشخاص الذين يتصدرون المشهد الديني, ويصنفون أنفسهم في مرتبة "العلماء" ويترأسون الهيئات الدينية مثل "مجمع الفقه الإسلامي" أن يمتلكوا الجرأة في إصدار آرائهم وهم يرون أوطانهم تتفكك وشعوبهم يطحنها الفقر والمرض, وتقتلها الحروب العبثية, وأن لا يكتفوا فقط بالأكذوبة المًسماة "المناصحة".
هُم كذلك مطالبون بإمتلاك الشجاعة الكافية لقول الحقيقة فيما يتعلق بالأولويات التي يجب أن تراعيها الحكومات التي أدمنت خداع الشعوب والمتاجرة بإسم الدين, فهاهو مثال آخر للمصداقية يُجسده القيادي في "الجماعة الإسلامية" بمصر, الدكتور ناجح إبراهيم, الذي سُئل عن تطبيق الحدود فقال إنَّ ( تطبيق الحدود يتحدَّد حسب طبيعة كل مجتمع و أنَّ المجتمع المصري لا يتلاءم مع تطبيق الحدود الآن).
وأضاف : ( تطبيق الحدود في الإسلام يأتي وفقاً للسعة المجتمعية لتحمل هذه الحدود )، شارحاً أنَّ ( كل أحكام الشريعة الإسلامية مرتبطة بالوسع الاجتماعي على قواعد صحيحة ).
ثم ردَّد نفس القول الذي قاله مورو في الأولويات التي يحتاجها الشعب : ( الشعب المصري في الوقت الحالي يحتاج إلى العدل، وإرساء مبادئ العدل السياسي والعدالة الاجتماعية والحريات العامة، ثم البدء في إقرار القانون المدني ومعالجة حالات الفقر وما إلى ذلك ).
إنَّ وطننا يقفُ على المحك بعد أكثر من ربع قرن من الحكم "بالشعارات" وقد آن الأوان لتغيير الفكر السقيم وتبديل المنهج العقيم الذي أوصلنا إلى الحال الذي نحنُ عليه الآن, ولن يتحقق ذلك ما لم نضع السودان نصب أعيننا ونتخلى عن "الأوهام" التي لم نجن من ورائها شيئاً سوى الدمار والتخلف وإنحطاط الاخلاق.