هل نحن مستقلون حقا؟ (2/2)
صحيفة التيار 3 يناير 2021
قلت في المقال السابق أننا غير مستقلين حقا، بسبب جرنا واستقطابنا، بمختلف القوى الخارجية، في مختلف مراحل تكوين الدولة السودانية الحديثة. وكانت ضربة البداية الملموسة للانجرار والاستقطاب، الغزو الخديوي المصري للسودان في عام 1821. كتب طه جابر العلواني، في مقدمته لكتاب غريغوار مرشو، الموسوم: "من الاستتباع إلى الاستبداد: حفريات في آليات احتلال العقل"، أن الأمم التي توسعت على حساب غيرها شيدت حقولا معرفية كاملة بغرض استخدامها كأداة مسوغة لفرض الهيمنة والاستتباع. من ذلك تدبيج خطاب جديد من المعارف التاريخية والجفرافية والجيوسياسية والأيديولوجية، ليصبح ذلك الخطاب ذراعا ثقافية قاهرة، تسير في مقدمة مكونات القوة الغازية، كالتجارة والجيش. وهذا هو ما قام به محمد علي باشا حين غزا السودان. فقد أرسل مع جيشه الغازي ثلاثة من علماء الدين، يمثلون المذاهب الإسلامية، بإستثناء المذهب الحنبلي. هؤلاء العلماء الثلاثة هم من بذروا بذور المؤسسة الدينية الرسمية الداعمة للحاكم، والحاضة على طاعته وقبول استبداده. هذا الأثر الخديوي ظهر جليا حين عارض العلماء السودانيون، الذين تعلموا على أيدي علماء الخديوي، الدعوة المهدية الاستقلالية التحررية، وانحازوا إلى صف المحتل الأجنبي. ولقد استمر هذا التأثير، إلى يومنا هذا، في المؤسسة الدينية الرسمية السودانية، المنحازة دوما للحاكم المستبد، المبررة لتجاوزاته. وكان الخطاب الديني الفقهي الأزهري، الذي غير المزاج الديني السوداني الصوفي السناري، بمثابة التربة الصالحة التي نبتت عليها لاحقا حركة الإخوان المسلمين السودانية، التي أربكت الحياة السياسية السودانية، وأضاعت على السودان والسودانيين ثلاثين عاما عزيزة، حين وصلت إلى الحكم عن طريق الانقلاب العسكري. كما جاءتنا مم مصر، أيضا، الحركة الشيوعية. لتصبح بؤرة أخرى من بؤر الانجرار إلى الخارج.
حين فقدت مصر فرصة انضمام السودان إليها عقب خروج البريطانيين ونيل الاستقلال، اتجهت إلى القوة الناعمة وتكثيف جهودها من أجل مواصلة الاحتلال العقلي للسودانيين. فأنتج الأكاديميون المصريون، (الموجهون استخباراتيا)، أدبيات ثرة، ركزت على إثبات عروبة السودان. وبما أن مادتي اللغة العربية والتربية الإسلامية قد أسند البريطانيون تدريسها في كلية غردون للمصريين، فقد نتج عن ذلك صياغة عقول طلائع المثقفين السودانيين عروبيا ومصريا. وهذا هو الذي جعل انقياد نخبنا للمصريين سلسا، بعد أن ترسخت فيهم عقدة الدونية والشعور بالتبعية. أيضا، كان منهج اللغة العربية والتربية الإسلامية في المدارس الثانوية والمتوسطة السودانية، منهجا مصريا صرفا. أضف إلى ذلك إنشاء البعثة التعليمية العربية الممولة والمدارة مصريا، مدارس ثانوية في غالب المدن السودانية الكبرى . كما جرى إنشاء جامعة القاهرة فرع الخرطوم. وجرى تقديم منح دراسية بالغة الكثرة، على مدى عقود، للسودانيين في الجامعات المصرية. وفي مجال الإعلام الموجه، جرى انشاء إذاعة ركن السودان من القاهرة. كل ذلك كان امتدادا للجهد الخديوي في احتلال العقل السوداني واستتباعه. وهو احتلال آتى أكله، فقد جعل النخب السياسية السودانية تعمل في خدمة مصر والأمة العربية، بأكثر مما تعمل في خدمة السودان. من أمثلة ذلك ترحيل أهالي حلفا، وغمر الآثار السودانية والمدن والقرى ومئات الآلاف من أشجار النخيل، لتنشئ مصر السد العالي. ومن ذلك الانشغال بمآسي الفلسطيين وإغاثة أهل غزة أكثر من الانشغال بمآسي مشردي دارفور وإغاثتهم. وغير ذلك كثير. وحتى بعد أن احتلت مصر بالقوة حلايب وشلاتين، صمتت نخبنا المتنفذة، صمت القبور. والسبب في تقديري هو هذا الاحتلال العقلي، والتخدير المستمر بالجيرة والأخوة الكذوبة. وحين جيشنا الجيوش لوضع ايدينا على أراضينا في الفشقة، لم نجرؤ حتى على طلب التحكيم الدولي في احتلال مصر لحلايب وشلاتين.
لقد انجررنا لعقود وراء جمال عبد الناصر والقومية العربية. وقد قادنا ذلك إلى الانجرار في إلى مخططات الشيوعية الدولية. تراجع اليسار العربي وصعدت الدول العربية النفطية، فأصبحنا، بفعل الفشل الاقتصادي والحاجة للعون الخارجي، منجرين وراء السعودية. ومؤخرا وراء المحورين القطري التركي، الداعم للحركة الإسلامية السودانية، والمحور الإماراتي السعودي المصري، المناهض لحركات الإسلام السياسي. وبين هذا وذاك جرنا نظام البشير إلى ركب إيران لسنوات. وحاليا يمكن القول بلا تردد أن السياسة الخارجية السودانية يجري رسمها خارج الحدود. بل هناك طمع خارجي حتى لرسم السياسة الداخلية للسودان، أيضا. نحن بحاجة لمراكز بحوث مستقلة حقا، ولتعليم جديد غير مفخخ بحبائل الاستتباع، ولإعلام يعرف حقيقة وظيفته. إلى جانب ذلك، نحن بحاجة إلى نهضة اقتصادية تعصمنا من مد أيدينا للأجانب. فقديما قالوا: "الحاجة رق"، كما قالوا: "من لا يملك قوته لا يملك قراره". وبعبارة أخرى: لا يملك استقلاله.