هل يُحدث اتفاق السلام توازنًا عسكريا؟
صحيفة التيار 4 سبتمبر 2020
على الرغم مما أحاط باتفاق سلام جوبا بين الجبهة الثورية والحكومة الانتقالية من تحفظاتٍ وتوجسٍ من قبل البعض واحتفاءٍ عارمٍ من قبل آخرين، تبقى لهذا الاتفاق، على المستوى النظري على الأقل، مزايا لا تخطئها العين. فهو يوجد قدرًا من التوازن العسكري بين القوى الفاعلة في المشهد السياسي الحالي المتسم بالهشاشة. لقد أوجد الرئيس المخلوع قوات الدعم السريع، وفقا لما جرى الترويج له حين نشأتها، بأنها ستكون الذراع العسكري الأخف حركة لنظام الانقاذ العسكري الذي تقمع به الحركات المسلحة الناشطة في مختلف أقاليم البلاد. كما أن لها غرضًا آخر غير مذاع وهو أن تكون رادعًا للجيش، لكيلا ينقلب على البشير ودائرته الصغيرة التي احتكرت السلطة وأقصت الجميع . وأصبح حتى الإسلاميون أنفسهم، مجرد ديكور يزيِّن أطراف بنية النظام، على تفاوتٍ بين فصائلهم. بطبعه لا يأمن الديكتاتور الفاسد أحدًا على كرسيه. لذلك فهو يضحي بحلفائه، متى ما أحس أنهم أضحوا خطرًا عليه. يفعل ذلك مهما كانت الروابط التي ربطته بهؤلاء الحلفاء.
لقد سارت الأمور على خلاف ما خطط له الرئيس المخلوع. فقوات الدعم السريع أُنشئت أصلًا لتصبح أداةً لإضعاف الحركات المسلحة، ولتصبح، في نفس الوقت، رادعًا استباقيًا للجيش ولمن يقف وراءه من الإسلاميين المتململين. لكنها تحوَّلت عبر تسارع مجريات أحداث الثورة، فكانت هي قطعة المعضلة التي أدى استقلالها بقرارها إلى الانهيار السريع للنظام. فالأمور لم تجر وفقًا لما خطط له الرئيس المخلوع، ولما سعى إليه الإسلاميون عبر جهودهم المنسقة التي تسببت في حالة الانكشاف الاقتصادية والأمنية الخطيرة الشاملة التي حدثت مع بداية الثورة. والآن يأتي اتفاق جوبا ليخلق ترتيبًا جديدًا للمشهد. ففي الوقت الذي أخذت تخرج فيه من أفواه العسكريين تصريحات تشي بالتفكير في القيام بانقلاب عسكري على الفترة الانتقالية، جرى التوقيع على اتفاق جوبا الذي سيدمج قوات الحركات المسلحة في بنية الجيش. أو على الأقل، يشرعن وجودها ضمن المنظومة العسكرية القائمة.
المشهد الراهن مليء بالشقوق. فحركة العدل والمساواة كانت منخرطة على نحو ما في صراع الإسلاميين فيما بينهم، وربما لا تزال لها صلة ببعضهم. أما الحركة الشعبية قطاع الشمال، فقد انشقت على نفسها وانفصل فيها النيل الأزرق عن جبال النوبة. كما برز من شظيتها الأصغر حجمًا هذه، والأقل قوةً، طرفٌ أخر يمثله التوم هجو، الذي وقع في اتفاق جوبا عن الوسط النيلي، بلا تفويض من أهل الوسط النيلي، بل، وبلا قواتٍ عسكريةٍ أصلا.
جملة القول، لربما تكون إحدى مزايا اتفاق جوبا أنه، رغم الحديث عن إدماج كل قوات الحركات المسلحة في بنية الجيش، فإنه قد خلق، بطريقةً ما، أقطابًا عسكريةً جديدة، ربما تقطع الطريق على التفكير في القيام بانقلاب عسكري على الفترة الانتقالية. ويقدم ما جرى من اعتداء على شرائح غرفة الأخبار في تلفزيون السودان في الليلة السابقة لتوقيع اتفاق السلام، دليلا على كره قطاعٍ من الإسلاميين لهذا الاتفاق، بل وحالة يأس من جملة الأوضاع. فدافع سرقة الشرائح وتخريب الأجهزة يدل على الشعور بأن هذا الاتفاق قد أبعد احتمال حدوث الانقلاب العسكري. بهذا الاتفاق تعددت الروادع العسكرية الاستباقية، كما اقترب أوان استكتمال أجهزة الحكم الانتقالي وملء الشواغر في السلطة التنفيذية. هذا فيما يتعلق بالتوازن العسكري، أما التوازن العسكري المدني، فله دينامياته المختلفة.