هل يُمكن الدفاع عن الحزن السوداني النبيل؟!
فيصل علي سليمان الدابي
24 June, 2011
24 June, 2011
أرسل لي أحد السودانيين ، من المقيمين في المهاجر البعيدة ، إيميلاً اشتمل على لائحة اتهام طويلة للشخصية السودانية وقد وردت الاتهامات في شكل ملاحظات واسئلة حول ادمان السودانيين على الأحزان والمشاكل منها على سبيل المثال لا الحصر:
(1) إن الشعب السوداني هو شعب مدمن على الأحزان بصورة مرضية لا تخطئها العين ولعل أكبر الشواهد الواقعية على ذلك هي:
(أ) إن أغاني الشايقية ، وهم أكثر أهل السودان إبداعاً في مجال الغناء ، عبارة عن مناحات حزينة وشكاوى مرة وأنه من الصعب جداً إن لم يكن من المستحيل العثور على أغنية شايقية واحدة مفرحة ، بإمكانك أن تستمع لعشرات الأشرطة التي تحتوي على أغنيات الشايقية القديمة والجديدة وستكتشف دون بذل أي جهد أن الشعراء والملحنين والمغنين الشوايقة مسكنون بالحزن بصورة ملفتة للنظر فهم قد غنوا وصفقوا ورقصوا للحزن وللفراق ، وشكوا لطوب الأرض من ظلم الدنيا لكنهم لم يغنوا مطلقاً للفرح ، فلماذا كل هذا الإدمان على الحزن في غناء الشايقية بشكل خاص وغناء أهل الشمال بشكل عام ؟! هل يرجع ذلك للطبيعة الصحراوية القاحلة الباعثة للكآبة في النفوس والتي تعجز ضفاف النيل وخضرة النخيل المحدودة المساحة في التخفيف من درجة سوداويتها؟! هل يمتد حزن انسان الشمال بامتداد الصحاري الشاسعة ويهب مع رياح السموم الصافعة للوجوه ويزحف للمشاعر مع رمال الزحف الصحراوي العنيدة التي تحاصر بيوت الجالوص كما تحاصر المشاعر الانسانية من كل الجهات؟! هل نغمات الطمبور في حد ذاتها هي مجرد دندنات وترية موغلة في الحزن والكآبة ومعادية بطبيعتها الرفيعة الحادة لكل أنواع الفرح؟!
(ب) إن أكثر من 99% من الأغنيات السودانية القديمة والجديدة في مكتبة الإذاعة السودانية التي تقبع بين خضرة النيلين تعج بالأحزان والشكاوى المريرة بصورة لا تخفى على أي مستمع محايد ، فلا يُوجد أي فنان سوداني يرفع عقيرته بالغناء القديم أو الحديث إلا وكان موضوعه الوحيد هو الهجران والحزن والشكوى من مشاكل الحياة ومن غدر الحبيب ، فلماذا تخصص غناء أهل وسط السودان في الحزن رغم خضرة الطبيعة النيلية وامتدادها الجمالي الشاسع؟! لماذا يُجاز ويبث هذا الكم الهائل من الأغاني الحزينة المحبطة للنفس الانسانية؟! وإذا كان حالنا السوداني بائساً بحكم الأمر الواقع فلماذا نزيده بؤساً بترديد الأغاني البائسة؟! لماذا لا توجد لدينا أشعار وأغنيات تدعو إلى الكفاح من أجل تغيير الواقع بكل الأساليب الجمالية الممكنة؟! هل هناك خلل فطري في الوجدان السوداني؟! هل أذن المستمع السوداني لا تطرب إلا لصوت الحزن وتمتعض من صوت الفرح (إن وجد) ؟! لماذا اخترع المثقفون السودانيون تعبير "الحزن النبيل" وهل يُوجد في الدنيا حزن نبيل وحزن خسيس ؟! ألا تتساوى الأحزان كلها في احباطها للنفس وعدم فائدتها للوجدان؟! ألا يدل الحزن على كفر وجودي بكل النعم الدنيوية الجميلة التي خلقها الله لاسعاد البشر؟! كيف يُمكن لانسان سليم العقل والوجدان أن يترك بهاء الشروق والغروب وخرير المياه وزقرقة العصافير وضحكات الأطفال ويركز فقط على نقطة سوداء واحدة لا توجد إلا في جمجمته البائسة؟! ألا يدل الحزن على تشاؤم مزمن وتفكير سلبي يركز على نصف الكوب الفارغ ولا يرى النصف الآخر الممتليء؟! ألا يدل انعدام التفكير الايجابي وانعدام الرغبة في تغيير الواقع على نوع من الجبن الفكري والسلوكي المدمر؟!
(ت) إن سلوك معظم السودانيين في المناسبات التي يفترض أن تكون سعيدة ومفرحة كحفلات الزواج ينطوي على قدر كبير من التشبث بالحزن، بل أن معظم الفنانين السودانيين يفتقرون للذكاء الفني الميداني ، فما معني أن يغني فنان سوداني أغنيات حزينة من قبيل أغنية "مسكين أنا" في حفل زفاف سوداني؟! ألا يصيب هكذا غناء العريس والعروس بإحباط قاتل؟! حتى أغاني البنات التي تردد أثناء السيرة أو قطع الرحط أو الحناء لا تخلو في معظمها من حضور الأحزان والشكاوى وخطف رجال النساء الأخريات وحتى التحرش بأم العريس ومكايدتها! لماذا تصدر أغرب السلوكيات من مذيعات قناة النيل الأزرق اللائي يقدمن برنامج أفراح أفراح الذي يبث كل يوم خميس رغم جمالهن الملفت للنظر ورغم اناقتهن السودانية المميزة للغاية؟! لماذا يتطرقن بإصرار عنيد لمشاكل الحياة الزوجية في برنامج يفترض أنه ينقل الأفراح السودانية فقط لا غير؟! ألا يؤدي التكرار الممل لسيرة مشاكل الحياة الزوجية في لحظات يفترض أن تكون مخصصة للفرح إلى تحويل برنامج أفراح أفراح إلى برنامج أحزان أحزان؟! لماذا الاصرار على قتل الفرح مع سبق الإصرار والترصد حتى في تلك اللحظات النادرة التي من المفترض أن تكون مكرسة لاسعاد الجميع؟!
(2) إن ملامح السودانيين ، سواء أكانوا زعماء سياسيين أم مواطنين عاديين وسواء أكانوا مثقفين أم أميين، تدل على وجود مشكلة كبرى في تركيبة الشخصية السودانية ، ويكاد التجهم ولوي البوز والاحتداد غير المبرر في الكلام والسلوك يكون من العلامات الفارقة في الشخصية السودانية ، فهل السودانيون مشكلجيين بالفطرة نكديين بالغريزة؟! هل يتوهم السوداني أن التجهم يكسبه قدراً من الاحترام أو الاعجاب في نظر الآخرين؟! كيف يكون التجني على النفس وتكديرها وحرق اعصابها سبيلاً لنيل احترام أو اعجاب الآخرين؟! أليس هناك شذوذ نفسي وفكري في هذا التصور غير السوي وغير المفهوم؟! لماذا نتشنج عندما نشجع هذا الفريق الرياضي أو ذاك ونحول صفحات جرائدنا الرياضية إلى ساحات حرب رغم أن المسألة كلها لا تخرج عن كونها مجرد لعبة صغيرة يفترض أن تسود الروح الرياضية في كل جوانبها؟! لماذا نتعصب لرأينا الشخصي في أي مناقشات سياسية أو اجتماعية أو فنية أو ثقافية أو دينية تدور بيننا وبين الآخرين؟! هل يُوجد أي رأي شخصي مسجل كملك حر في ذهن أي إنسان؟! أليس الرأي الشخصي الذي نعتقد أننا نملكه هو رأي صدر أساساً من أشخاص آخرين وتسلل إلى أذهاننا دون أن نشعر بذلك؟! ألا تشكل مدافعة الانسان بشراسة عن وجهة نظر لا يملكها أصلاً ضرباً من ضروب الخيانة الذهنية البالغة ؟! هل العجز عن تحديد الهوية السودانية والانهماك في صراع بيزنطي حول الأصل العربي أو الزنجي هو أحد الأسباب المفضية إلى ذلك؟! ألا يدل وجود صراع حول أيهما جاء أولاً الدجاجة أم البيضة على نوع من أنواع الغباء الوجودي المثير للرثاء ويثبت في ذات الوقت مقولة البرت اينشتاين التي مفادها أن هناك شيئان لا حدود لهما هما الكون والغباء البشري؟! لماذا يمشي السوداني في شوارع الدنيا وهو مبرطم ومنكف إلى الأمام وكأنه يمشي وراء جنازة غير مرئية؟! لماذا تكون ردود معظم السودانيين عدائية وصارمة إزاء المقالب المزعجة التي تدبرها برامج الكاميرا الخفية بينما تميل ردود أفعال معظم الشعوب الأخرى إلى الابتسام أو الضحك؟! لماذا يخرج علينا حكام السودان من وقتٍ لآخر بتصريحات مشكلجية تثير الكثير من المشاكل الداخلية والخارجية للسودان الذي فيه ما يكفيه من مشاكل؟! لماذا صرح البشير مؤخراً بأن نفط الجنوب لن يمر عبر الشمال إلا إذا وافق الجنوب على منح الشمال نصف العائدات النفطية؟! ألا يعرف الطبيعة الحادة للسودانيين الجنوبيين الذين قاتلوا أهل الشمال لعقود من الزمان لأسباب سياسية واجتماعية عديدة؟! ألا تؤدي هكذا تصريحات للإضرار بمصالح أهل شمال السودان وجنوب السودان معاً إذا ركب الجنوبيون رأسهم وقاموا بنقل بترولهم عبر يوغندا الطامعة في ذلك؟! أين الكياسة والسياسة في هكذا تصريحات؟!
انتهت لائحة الاتهام الطويلة، لكنني ولأول مرة في حياتي، قررت عدم الرد على هكذا اتهامات وفضلت الانسحاب بدون تعليق لأنني كنت وما زلت أومن بأن الدفاع عن القضايا الخاسرة هو مجرد مضيعة للوقت ، فلا أحد يستطيع أن يدافع عن الحزن أياً كانت مسمياته ولا أحد يستطيع أن يدافع عن التجهم أياً كانت أسبابه ، ويبقى التحدى الأكبر والأصعب هو أن يدحض السودانيون القرينة الواقعية التي تقول إن السوداني حزين وحاد إلى أن يثبت العكس!
فيصل علي سليمان الدابي/المحامي