واجب الشباب إيجاد المشروع الوطني التوافقي

 


 

 

 

 

أرضى غروري إن جاز قول ذلك، أن يكون سعادة السفير عبد الوهاب الصاوي تصفح بعض مقالاتي ضمن قرأته الأسبوعية، ثم تفضله بلفت نظري لضرورة التركيز على اقتراح حلول واقعية والبعد عن التنظير بعد الإسهاب في تحليل مشاكل السودان!!!

كنت قد أشرت في مقال سابق بعنوان "ضرورة غلق "الباب الدوار" مدنية وعسكرية في السودان" إلى ضرورة الفصل بين مجالي الحوكمة والإدارة المدنية مع العسكرية كمهن، وقبله كنت قد أشرت في عدة مقالات لغياب الرؤية التوافقية عن قيادات الأحزاب السياسية في السودان وأرجعت ذلك للتحاسد السياسي الذي يمنع من التنازل للآخرين سعيا لتحقيق المصلحة الوطنية العليا..وهو دليل على عدم وجود "وجيع" على السودان يقبل شيء من التضحية والتنازل عن المصالح الشخصية و الحزبية الضيقة.
هذا الصراع بين قادة الأحزاب السياسية ظهر حتى قبل استقلال السودان، فكثير منهم لم يفكروا في تقديم المصلحة الوطنية على المصلحة الحزبية و المناطقية والقبلية و الأسرية. بل استغلوا استغلال سيء جداَ، وجود شعب به درجة عالية من الأمية والجهل والصراع على الأرض والانتقام والثار "المسترسل" بين القبائل بلا توقف!

أهدف من هذا المقال تنوير الشباب وهم الشريحة التي ستشكل مستقبل السودان، حتى يتفادوا الأخطاء التي حدثت في ماضي السودان السياسي، والتي كانت أسوءاها تجربة حكم نظام الإنقاذ البائد، خاصة مع تمسحه بشعارات دينية - "هي لله..هي لله" - خلال الثلاثين سنة الماضية، ومغة توفر المال والسلطة والسلاح له.
نعم، كان يمكن لنظام الانقاذ المخلوع إحداث نقلة نوعية في درجات الوحدة الوطنية ولكنه على العكس تماما، أعاد بعث القبلية البغيضة التي كانت قد ضعفت بعض الشيء خلال الثلاثين عام الأولى بعد استقلال السودان في 1956م .

كذلك كان يمكن لنظام الإنقاذ البائد تطوير الزراعة والصناعة عند رفعه لشعار "نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع"، وتنمية الثروة الحيوانية، ولكنه بدل من ذلك دمر مشروع الجزيرة وكل المشاريع الزراعية الأخرى كمصانع السكر، بل حاول تدمير الثروة الحيوانية بتصدير الآلاف من إناث الإبل والبقر والغنم!
كان يمكن لنظام الانقاذ الفاسد استثمار كل عائدات البترول في إنشاء بنية تحتية لكل الاقتصاد السوداني من طرق وسكك حديدية وغيرها للربط بين مناطق الإنتاج والاستهلاك والتصدير، ولكنه أهدر كثير من أموال السودان في الحروب العبثية أو في فساد مالي وإداري شهد به شيخهم المرحوم د. الترابي قبل غيره.

الذي يجب على الشباب الآن، فعله هو التغيير والتجديد مقارنة بأجيال الإباء والأجداد، بمعنى الانعتاق من التبعية للأحزاب الطائفية والانفكاك من الولاء للأحزاب العقائدية، وذلك من خلال العمل الجاد على فرض مؤتمرات قاعدية وانتخابات داخلية وتجديد الدماء في تلك الكيانات الحزبية، وكذلك من خلال خلق تنظيماتهم الحزبية الجديدة، و منظمات العمل المدني، و لجان المقاومة أو أي تسميات لتجمعات شبابية أخرى.
عليهم الانتباه لضرورة وجود مشروع وطني للخروج من مأزق "التعاكس" والإفشال المتبادل للبرامج السياسية بل كسر العظم الذي مارسته الأحزاب السودانية في الماضي والتي "تقوقعت" لنصرة مصالح تقليدية طائفية أوبرامج عقائدية صارخة! هذه المسميات القديمة يجب إبعاد عناصرها من التغلغل في القوات النظامية وغير النظامية كالقوات المسلحة و قوات الدعم السريع والأجهزة الأمنية. يجب تثبيت عقيدة وطنية كبرى للقوات النظامية وغير النظامية، كما يجب تثبيت أن المصلحة الشخصية من ناحية الامتيازات المادية لكل جندي وضابط هي أفضل من مميزات السياسي، بل اعتبار انتماء أي جندي أو ضابط لحزب سياسي هو نوع من الخيانة المهنية تستوجب محاكمته العسكرية ثم إبعاده من الخدمة بعدها مباشرة بدون أي حقوق.

سبق وان قلت أن السياسة أحيانا تصبح مهنة من لا مهنة له، ولذلك يجب تشديد الرقابة المالية والإدارية لكل من يتولاها، وان يكون المدخول المادي منها وامتيازاتها أقل من راتب أي معلم ناهيك عن بقية غير المهن.

أن تحقق هذا الحلم هو الخطوة الأولى في البناء، ثم يجب الفصل بين الدولة والحكومات المتعاقبة أي فصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية والاحتفاظ بحرية الإعلام دون أي رقابة قبلية أو بعدية. أيضا كما أصررت سابقا، يجب جعل المنصب الحزبي أو السياسي غير جذاب وذلك بتشديد الرقابة المالية وإبراء الذمة على كل من يرتاده ورفع أي حصانة له بصورة فورية وتقديمه للمحاكمة الفورية لأي شبهة فساد مالي أو إداري يقوم به. تخفيض إمتيازات المناصب السياسية المالية بحيث تصبح غير مغرية تماما، فتكون مخصصات الوزير أو النائب البرلماني اقل من راتب الأستاذ الجامعي وكبار الموظفين.
نقطة مهمة ألا وهي أن يكون التنافس بين الأحزاب على تقديم أفضل البرامج الانتخابية الواقعية للإصلاح الاجتماعي والاقتصادي، مع إمكانية أن ينتقد كل حزب برنامج الحزب الأخر ويبين عوراته و ثغراته للشعب. وبعدها يترك للشعب حرية الاختيار.

سبقني آخرين في تقييد نجاح التجربة الديمقراطية في درجة الارتقاء "بمستوى أداء الطبقة السياسية السودانية، وما تحرزه من تقدم في المحاور الأربعة: تهيئة المناخ السياسي؛ تعزيز الوحدة الوطنية؛ إعادة صوغ البنية الدستورية والقانونية للدولة على قيم الديمقراطية؛ وضمان كفاءة الأداء التنفيذي للدولة". وهو أمر يتطلب توقيع ميثاق شرف برفض كل الأحزاب لانتماء أي جندي نظامي أو ضابط لها أثناء فترة خدمته، وكذلك توقيع الاحزاب ميثاق شرف برفض أي انقلاب عسكري من أي جهة جاء، ورفض أي تزوير في الانتخابات والعمل على التداول السلمي للسلطة.

نقطة مهمة إلا وهي صحيح انه فشلت كل الحكومات السابقة مدنية أو عسكرية في الوصول لدستور دائم للسودان ولكن النقطة الايجابية في الأمر هو وجود مجموعة كبيرة من مسودات الدستور منذ الاستقلال يمكن جمعها مع كل المسودات التي تقترحها الأحزاب الموجودة على الساحة ، مما يمكن معه تشكيل لجنة من كل الأحزاب الأساسية ويمكن لهذه اللجنة المقاربة بين تلك المسودات والتوفيق بينها بكل سهولة وإذا تم الاختلاف حول بعض النقاط يمكن أن تطرح للتصويت الشعبي. ويجب أن تتواضع الأحزاب من البدء بأن الوصول لاتفاق حول الدستور هو هدف وطني يحتاج تنازل من الجميع.

ثورة ديسمبر 2019م، أوضحت إمكانية توحد الشباب دون الأربعين تحت شعارات وطنية كبرى منها رفض القبلية والجهوية مثل "يا عسكري ومغرور كل البلد دارفور" ، وشعار "حرية، سلام وعدالة".
ان الوصول لهذه المرحلة من الاتفاق أو حتى التوافق بين الشباب على الأهداف الوطنية الكبرى يسهل عليهم جميعا توجيه المسار الوطني ويضمن لهم تبادل سلمي للسلطة دون إراقة الدماء واستقرار سياسي يؤدي للبدء في البناء والعمران.

أنشدت الدكتورة الشاعرة مروة بابكر
" حنبنيهو ولا كلامنا عدا خلاص
حنمسك مسطرة وكراس
ونحفر لي بلدنا أساس
نعلي بناؤا
...
فأيه يأخي فائدة التنظير
ولسع في البلد كيزان وألف بشير
وراءنا كثير
وراءنا التنمية التعمير
صناعة ...زراعة
نهضة وري
أرح ندعم النقابة سوا
وندعم لجان الحي
...
حنبنيهو حنرمي بعيد
وأيد في أيد
حنتكاتف حكومة وشعب
ونصنع كلنا الأحداث
ونمسك دفة التغيير لحدي نصل
نعيده بلدنا زي أول
بروح الثورة نحميه
حنبنيهو ..حنبنيهو".

wadrawda@hotmail.fr

 

آراء