وداعا أستاذنا الأعظم
معتصم أقرع
16 September, 2022
16 September, 2022
غرارة وعبوس دار الكمالو نقاص دوبة حليل ابوي اللي العلوم دراس.
نعي الناعي رحيل أعمق واعظم وأشرف عالم اقتصاد سوداني, الأستاذ الفذ علي عبد القادر الذي زاوج التبحر العلمي بالوطنية التي لا تساوم والاعتداد بالذات وبالشعب السوداني ولم يبوس أي خلفية مهما كانت مرتفعة أو بيضاء أو نافذة أو سالطة فكان مدرسة في علوم الاقتصاد وأيضا في الوطنية وفي الشجاعة وفي النقاء الإنساني. كم كان رائعا ونبيلا وكريما يبر تلاميذه ويشعرهم بأنهم البررة فهو رجل يعطيك ويشعرك بانك المعطي. ومن له وصول لكتاباته الأكثر اكاديمية يري فيها شعرية عميقة الجمال في تقشفها المدافع عن معاش البسطاء بالمعادلات الرياضية والمفردات الناشفة.
في جمعة رحيله لا املك أكثر من ان اعيد ما كتبته قبل عام في 2021 كمقدمة لإصدارة كتابه "من التبعية الي التبعية: صندوق النقد الدولي والاقتصاد السوداني". أمانة يا المقابر ما جاكي وتد.
الجمعة 16 سبتمبر 2022
مقدمة لكتاب علي عبد القادر: من التبعية الي التبعية: صندوق النقد الدولي والاقتصاد السوداني.
التاريخ يعيد نفسه كمأساة:
26 يونيو 2021
رغم أن الطبعة الأولى من هذا الكتاب الهام قد تم نشرها للمرة الأولى في عام 1990؛ إلا أنه يظل طازجا ومواكبا لأن سطوره تطعن في قلب الحدث الاقتصادي المعاصر وكأنه تم تأليفه الشهر الماضي كتحليل للسياسة الاقتصادية في حقبة ما بعد ثورة ديسمبر 2018.
الدراسات التي يحتويها هذا الكتاب لا غنى عنها لمن شاء ان يدرك النتائج الحتمية وجوهر التوجه الاقتصادي الذي بدأ تنفيذه مع تولي الحكومة الحالية السلطة في سبتمبر 2019. ومن الممكن صياغة أعمق تحليل نقدي للبرنامج الاقتصادي الذي تم تبنيه مؤخرا تحت إشراف صندوق الدولي عن طريق تحديث أرقام هذا السـِّـفْر : عليك فقط ملاحظة تعمق بؤس الفكر الاقتصادي وارتفاع مؤشرات التبعية التي تم التطبيع معها حتى لم تعد مما يصيب أهل الحُكــم بالحرج ثم إضافةً الي ذلك تغيير أسماء صناع القرار مع الاحتفاظ بأسماء المؤسسات المحلية والدولية التي يمثلونها.
هناك سببان لاستمرار أهمية محتوى هذا الكتاب الرائع عبر العقود. يتعلق السبب الأول بحقيقة أن موضوعه هو موضوع الساعة في الوطن: إخضاع الاقتصاد السوداني كاملا لبرنامج صندوق النقد الدولي والبنك الدولي؛ ذلك البرنامج الذي يتجلى كعقيدة أصولية صالحة لكل زمان ومكان ولا تتبدل مع حركة السياقات وتعاقب الحقب. وكفقه أصولي لا يحفل هذا البرنامج كثيرًا بالأدلة المتراكمة عبر السنين في السودان وحول العالم على فشله في إرساء قواعد تنمية حقيقية أو حتى نمو مستدام قادر علي انتشال الدول التي تتبناه من أتون الفقر والتخلف والحرمان. كما لا يأبه البرنامج بدوره الفاعل في إعادة توزيع الثروة القومية المجتمعية لمصلحة شريحة طفيلية ضيقة، هذا إذا أخذنا في الاعتبار هذه الخاصية المتصلبة الجامدة. ربما كان صادما ولكن ليس مفاجئا أن نفس الوصفة الاقتصادية التي فُرضت على السودان في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي وتواصل تطبيقها الي سقوط نظام الإنقاذ في ابريل 2019 - والتي يُشَرِّحها هذا الكتاب بدقة وعن معرفة واسعة وبصرامة منهجية - يتم تطبيقها مرة أخرى، وبحماس غير مسبوق ، منذ اعلان أول موازنة للحكومة في خواتيم 2019.
السبب الآخر وراء استمرار الأهمية المركزية لهذا الكتاب هو أن مؤلفه أستاذ الاقتصاد علي عبد القادر علي، قامة فكرية سامقة بكل المقاييس، وهو بلا شك أرفع الاقتصاديين في تاريخ السودان وأكثرهم تميزًا كعالم منقطع النظير يتمتع بعمق معرفي فريد يزينه التزام لا يتزعزع بقيم سامية من الوطنية والغيرة على مصلحة السودان وسيادته واستقلال قراره وحق طبقاته الدنيا والوسطى في حياة كريمة لا يشك في انها ممكنة.
يكشف هذا الكتاب أنه في خلال أربعة عقود من التطبيق المتواصل لنفس البرنامج الاقتصادي ظل تحليل القوى الداخلية والخارجية التي تدفع به لجذور المشكلة كما هو ولم تتغير الوصفة العلاجية وظلت كما هي في 1978 أو في 1997 أو 2020 لا فرق. لم يتغير الإخراج السياسي ولا حملات التسويغ الإعلامية و لم تتغير مزاعم ما بعد الحقيقة بأن الوصفة تعبر عن رؤية وطنية مستقلة وأنه لا يوجد بديل لها . وكأن العناية الإلهية استنسخت عقل الفكر الاقتصادي الحكومي المستقل في سبعينات وثمانينيات القرن الماضي وأولجته بلا تعديل في عقلها المستقل في الربع الأول من القرن الواحد وعشرين فأخرجته بنفس اللغة ونفس المفردات ونفس المبررات ونفس الدفوعات وكأن تطابق الفكر الحكومي مع برنامج الصندوق كان محض صدفة على مر العقود. لكن الانصاف يفرض علينا التنبيه إلى بعض التباينات بين الفترتين، التباين الأول يتجلى في أن الحملات الإعلامية لتسويغ البرنامج جماهيريا صاحبتها هذه المرة أفلام الرسوم المتحركة التي تشرح مزاياه التي تصب في مصلحة الطبقات الفقيرة الموعودة بالعبور على أكتافه من العوز إلى الرفاهية. والتباين الثاني يتعلق بأن الرغبة في الحصول على تمويل خارجي من قروض ومنح كان هو الدافع الذي استُخدم لتسويغ البرنامج في المرة الأولى أما في المرة الثانية فقد كان تخفيف عبء نفس الديون التي تراكمت هو المبرر لإعادة تجريب المجرب دون فحص ثمار تطبيقه سابقا في ظل نظام مايو أولا وثانيا في فترة الديمقراطية التي أعقبته وثالثا تحت نظام الإنقاذ الذي ظل يطبق في نفس البرامج التي يراقبها الصندوق منذ 1997 الي يوم رحيله بعد ثورة أشعلها شباب يبحث عن مستقبل أفضل.
ومن المهم ملاحظة مركزية التمويل الأجنبي وتداعياته في اعتماد البرنامج وتنفيذه في كل الفترات. تتضح طبيعة الاقتصاد السياسي للتمويل الخارجي في كونه في الجولة الأولي الجزرة التي وعدت بتوفير الموارد الأجنبية لتمويل التنمية وسد عجز ميزان المدفوعات. أما في الجولة الثانية فكان تخفيف عبء الديون التي تراكمت جراء الركون للتمويل الخارجي هو العصا. هذا الانتقال من الجزرة الي العصا يوجز ويضيف إلى انهيار الموقف التفاوضي للسودان الذي حذر منه علي عبد القادر قبل عقود.
الخلاصات التي توصل اليها علي عبد القادر في نتائج الوصفة الاقتصادية المعنية تم تأكيدها في بحوث أكاديمية جادة على المستوى النظري وعلى مستوى الشواهد الاِمبيريقية وفي دراسات غطت تجارب شبيهة حول العالم. فعلي سبيل المثال أجرت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأفريقيا في 1990 جرد حساب لتقييم حصاد سياسات التكيف الهيكلي في أفريقيا ؛ تم نشرها في دراسة معروفة بعنوان " البديل الافريقي لبرامج التكيف الهيكلي - من أجل التعافي الاجتماعي -الاقتصادي والتحول" ؛ حيث خلصت الدراسة إلى أن الدول الافريقية التي طبقت هذه السياسات بإشراف الصندوق والبنك الدولي كانت أسوأ أدَاءً مقارنة بالدول التي امتنعت عن تطبيقه ؛ وأن رداءة الأداء الاقتصادي تناسبت طرديا مع حجم الجرعة التي طبقت الوصفة ، وأن الدول التي تجنبت حزمة سياسات التكيف الهيكلي كانت الأفضل أدَاءً بمقدار معتبر، وذلك قياسا على نمو الناتج المحلي ومعدلات الاستثمار وعجز الموازنة وغيرها من مؤشرات الاقتصاد الكلي الأساسية.
الخلاصات عميقة التحليل بعيدة النظر المسرودة في هذا الكتاب أيضا تم تأكيدها ودعمها لاحقا في دراسات عالم الاقتصاد المتميز ها-جون تشانغ أستاذ الاقتصاد بجامعة كامبردج واحد ألمع المفكرين الاقتصاديين - الذي ذهب الي ان التدهور الاقتصادي الذي عانت منه القارة الافريقية سببه انها كانت تدار عمليًا من قبل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي منذ ثمانينات القرن الماضي . وفي ركن آخر من العالم ذهب هـا-جون إلى انه بعد انفراط عقد الكتلة السوفيتية واستقلال جمهورياتها رفضت أوزبكستان الدوران في فلك البنك الدولي وصندوق النقد ؛ ورفضت العلاج بالصدمة ، ورغم أنها بلد غير ساحلي مرتين ( لا بحر لها ومحاطة بدول لا بحر لها) ورغم وابل الانتقادات الذي انهمر عليها من مؤسسات التمويل الدولية ، فقد كان أداؤها الاقتصادي أفضل بكثير من الجمهوريات السوفيتية التي تبنت وصفات الصندوق ، فقد نجحت أوزبكستان في أن تكون الأولي من بين الجمهوريات السوفيتية السابقة التي استعادت التوازن الاقتصادي وازدهرت فيها صناعة السيارات وتعززت رفاهية الشعب. وفي وجود علماء مثل علي عبد القادر لم يكن السودان في حاجة الي زرقاء يمامة ولا إلى علماء الخارج ومؤسساته لتفادي انزلاقٍ أعلن عنه في سلسة من الدراسات الأكثر رصانة؛ ولكن أهل الحكم كان لهم رأيٌ آخر أملته المصالح قصيرة النظر بعيدا عن التحليل العلمي.
كان بإمكان صانع السياسات العامة والأحزاب السياسية السودانية وقادة الرأي تجنب تكرار الفشل الموجع وكان بإمكانهم الإلمام بطبيعة التحدي التنموي وأهم جوانب تجربة السودان الاقتصادية تحت إشراف الخارج بـالاطلاع على التقييم الثري لتاريخها الوارد في مقالات هذا الكتاب والتي ظلت متوفرة منذ ثمانينات وتسعينات القرن الماضي. ولكن للأسف فان من لا يعرفون تاريخهم محكوم عليهم بتكراره؛ هذه المرة كمأساة مكتملة الأركان. يُنسب إلى أينشتاين القول بإن تعريف الجنون هو فعل الشيء نفسه مرارًا وتكرارًا وتوقع نتيجة مختلفة.
ولكن، ما زال بإمكان أهل الحل والعقد الالتفات الي الخلاصة التي توصل إليها علي عبد القادر بأن انقلاب 30 يونيو 1989 على الديمقراطية يمكن تفسيره جزئيا بفشل الحكومة الديمقراطية في التعامل مع الأزمة الاقتصادية السودانية ومساهمتها في تفاقمها ومن ثم استمرار حالة التبعية والانبطاح.
استنادا إلى تحليل عميق ومعرفة بموارد السودان وبطبيعة التمويل الخارجي يرهن علي عبد القادر الخروج من الجب إلى الاعتماد على الذات، ويلاحظ ان أن الأغلبية الساحقة من السكان "سوف لن تخسر شيئا إذ إنها قد ظلت تفعل ذلك طوال السنوات"، ثم يتساءل عن إمكانية تبني نهج الاعتماد على الذات من الأقلية ذات النفوذ الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. من نافلة القول ان استفسار الكاتب هو في الحقيقة اتهام، لذا يسارع بتذكير الأقلية المذكورة “إنه إذا ما جاء الطوفان فإنها ستكون الطبقة الاجتماعية الوحيدة التي ستخسر في نهاية المطاف مهما كبر حجم ما تراكم لديها من أصول مالية وعينية". فهل يسمعون في فرصتهم الاخيرة؟
ختاما نذكر مرة اخري بان الذي بين يديك هو الإصدارة الثالثة لكتاب تم نشره لأول مرة في عام 1990. ولكن تاريخ ميلاد يضلل بلا قصد، فهذا كتاب مواكب بكل ما تعني الكلمة، يستنطق التوجه الاقتصادي الحالي، ومنطقه، ومرتكزاته الفكرية وتمظهراته السياسية ونتائجه المتوقعة التي لن تختلف عما تنبأ به علي عبد القادر قبل أربعة عقود.
معتصم الأقرع
26 يونيو 2021
elagraa@gmail.com
//////////////////////
نعي الناعي رحيل أعمق واعظم وأشرف عالم اقتصاد سوداني, الأستاذ الفذ علي عبد القادر الذي زاوج التبحر العلمي بالوطنية التي لا تساوم والاعتداد بالذات وبالشعب السوداني ولم يبوس أي خلفية مهما كانت مرتفعة أو بيضاء أو نافذة أو سالطة فكان مدرسة في علوم الاقتصاد وأيضا في الوطنية وفي الشجاعة وفي النقاء الإنساني. كم كان رائعا ونبيلا وكريما يبر تلاميذه ويشعرهم بأنهم البررة فهو رجل يعطيك ويشعرك بانك المعطي. ومن له وصول لكتاباته الأكثر اكاديمية يري فيها شعرية عميقة الجمال في تقشفها المدافع عن معاش البسطاء بالمعادلات الرياضية والمفردات الناشفة.
في جمعة رحيله لا املك أكثر من ان اعيد ما كتبته قبل عام في 2021 كمقدمة لإصدارة كتابه "من التبعية الي التبعية: صندوق النقد الدولي والاقتصاد السوداني". أمانة يا المقابر ما جاكي وتد.
الجمعة 16 سبتمبر 2022
مقدمة لكتاب علي عبد القادر: من التبعية الي التبعية: صندوق النقد الدولي والاقتصاد السوداني.
التاريخ يعيد نفسه كمأساة:
26 يونيو 2021
رغم أن الطبعة الأولى من هذا الكتاب الهام قد تم نشرها للمرة الأولى في عام 1990؛ إلا أنه يظل طازجا ومواكبا لأن سطوره تطعن في قلب الحدث الاقتصادي المعاصر وكأنه تم تأليفه الشهر الماضي كتحليل للسياسة الاقتصادية في حقبة ما بعد ثورة ديسمبر 2018.
الدراسات التي يحتويها هذا الكتاب لا غنى عنها لمن شاء ان يدرك النتائج الحتمية وجوهر التوجه الاقتصادي الذي بدأ تنفيذه مع تولي الحكومة الحالية السلطة في سبتمبر 2019. ومن الممكن صياغة أعمق تحليل نقدي للبرنامج الاقتصادي الذي تم تبنيه مؤخرا تحت إشراف صندوق الدولي عن طريق تحديث أرقام هذا السـِّـفْر : عليك فقط ملاحظة تعمق بؤس الفكر الاقتصادي وارتفاع مؤشرات التبعية التي تم التطبيع معها حتى لم تعد مما يصيب أهل الحُكــم بالحرج ثم إضافةً الي ذلك تغيير أسماء صناع القرار مع الاحتفاظ بأسماء المؤسسات المحلية والدولية التي يمثلونها.
هناك سببان لاستمرار أهمية محتوى هذا الكتاب الرائع عبر العقود. يتعلق السبب الأول بحقيقة أن موضوعه هو موضوع الساعة في الوطن: إخضاع الاقتصاد السوداني كاملا لبرنامج صندوق النقد الدولي والبنك الدولي؛ ذلك البرنامج الذي يتجلى كعقيدة أصولية صالحة لكل زمان ومكان ولا تتبدل مع حركة السياقات وتعاقب الحقب. وكفقه أصولي لا يحفل هذا البرنامج كثيرًا بالأدلة المتراكمة عبر السنين في السودان وحول العالم على فشله في إرساء قواعد تنمية حقيقية أو حتى نمو مستدام قادر علي انتشال الدول التي تتبناه من أتون الفقر والتخلف والحرمان. كما لا يأبه البرنامج بدوره الفاعل في إعادة توزيع الثروة القومية المجتمعية لمصلحة شريحة طفيلية ضيقة، هذا إذا أخذنا في الاعتبار هذه الخاصية المتصلبة الجامدة. ربما كان صادما ولكن ليس مفاجئا أن نفس الوصفة الاقتصادية التي فُرضت على السودان في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي وتواصل تطبيقها الي سقوط نظام الإنقاذ في ابريل 2019 - والتي يُشَرِّحها هذا الكتاب بدقة وعن معرفة واسعة وبصرامة منهجية - يتم تطبيقها مرة أخرى، وبحماس غير مسبوق ، منذ اعلان أول موازنة للحكومة في خواتيم 2019.
السبب الآخر وراء استمرار الأهمية المركزية لهذا الكتاب هو أن مؤلفه أستاذ الاقتصاد علي عبد القادر علي، قامة فكرية سامقة بكل المقاييس، وهو بلا شك أرفع الاقتصاديين في تاريخ السودان وأكثرهم تميزًا كعالم منقطع النظير يتمتع بعمق معرفي فريد يزينه التزام لا يتزعزع بقيم سامية من الوطنية والغيرة على مصلحة السودان وسيادته واستقلال قراره وحق طبقاته الدنيا والوسطى في حياة كريمة لا يشك في انها ممكنة.
يكشف هذا الكتاب أنه في خلال أربعة عقود من التطبيق المتواصل لنفس البرنامج الاقتصادي ظل تحليل القوى الداخلية والخارجية التي تدفع به لجذور المشكلة كما هو ولم تتغير الوصفة العلاجية وظلت كما هي في 1978 أو في 1997 أو 2020 لا فرق. لم يتغير الإخراج السياسي ولا حملات التسويغ الإعلامية و لم تتغير مزاعم ما بعد الحقيقة بأن الوصفة تعبر عن رؤية وطنية مستقلة وأنه لا يوجد بديل لها . وكأن العناية الإلهية استنسخت عقل الفكر الاقتصادي الحكومي المستقل في سبعينات وثمانينيات القرن الماضي وأولجته بلا تعديل في عقلها المستقل في الربع الأول من القرن الواحد وعشرين فأخرجته بنفس اللغة ونفس المفردات ونفس المبررات ونفس الدفوعات وكأن تطابق الفكر الحكومي مع برنامج الصندوق كان محض صدفة على مر العقود. لكن الانصاف يفرض علينا التنبيه إلى بعض التباينات بين الفترتين، التباين الأول يتجلى في أن الحملات الإعلامية لتسويغ البرنامج جماهيريا صاحبتها هذه المرة أفلام الرسوم المتحركة التي تشرح مزاياه التي تصب في مصلحة الطبقات الفقيرة الموعودة بالعبور على أكتافه من العوز إلى الرفاهية. والتباين الثاني يتعلق بأن الرغبة في الحصول على تمويل خارجي من قروض ومنح كان هو الدافع الذي استُخدم لتسويغ البرنامج في المرة الأولى أما في المرة الثانية فقد كان تخفيف عبء نفس الديون التي تراكمت هو المبرر لإعادة تجريب المجرب دون فحص ثمار تطبيقه سابقا في ظل نظام مايو أولا وثانيا في فترة الديمقراطية التي أعقبته وثالثا تحت نظام الإنقاذ الذي ظل يطبق في نفس البرامج التي يراقبها الصندوق منذ 1997 الي يوم رحيله بعد ثورة أشعلها شباب يبحث عن مستقبل أفضل.
ومن المهم ملاحظة مركزية التمويل الأجنبي وتداعياته في اعتماد البرنامج وتنفيذه في كل الفترات. تتضح طبيعة الاقتصاد السياسي للتمويل الخارجي في كونه في الجولة الأولي الجزرة التي وعدت بتوفير الموارد الأجنبية لتمويل التنمية وسد عجز ميزان المدفوعات. أما في الجولة الثانية فكان تخفيف عبء الديون التي تراكمت جراء الركون للتمويل الخارجي هو العصا. هذا الانتقال من الجزرة الي العصا يوجز ويضيف إلى انهيار الموقف التفاوضي للسودان الذي حذر منه علي عبد القادر قبل عقود.
الخلاصات التي توصل اليها علي عبد القادر في نتائج الوصفة الاقتصادية المعنية تم تأكيدها في بحوث أكاديمية جادة على المستوى النظري وعلى مستوى الشواهد الاِمبيريقية وفي دراسات غطت تجارب شبيهة حول العالم. فعلي سبيل المثال أجرت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأفريقيا في 1990 جرد حساب لتقييم حصاد سياسات التكيف الهيكلي في أفريقيا ؛ تم نشرها في دراسة معروفة بعنوان " البديل الافريقي لبرامج التكيف الهيكلي - من أجل التعافي الاجتماعي -الاقتصادي والتحول" ؛ حيث خلصت الدراسة إلى أن الدول الافريقية التي طبقت هذه السياسات بإشراف الصندوق والبنك الدولي كانت أسوأ أدَاءً مقارنة بالدول التي امتنعت عن تطبيقه ؛ وأن رداءة الأداء الاقتصادي تناسبت طرديا مع حجم الجرعة التي طبقت الوصفة ، وأن الدول التي تجنبت حزمة سياسات التكيف الهيكلي كانت الأفضل أدَاءً بمقدار معتبر، وذلك قياسا على نمو الناتج المحلي ومعدلات الاستثمار وعجز الموازنة وغيرها من مؤشرات الاقتصاد الكلي الأساسية.
الخلاصات عميقة التحليل بعيدة النظر المسرودة في هذا الكتاب أيضا تم تأكيدها ودعمها لاحقا في دراسات عالم الاقتصاد المتميز ها-جون تشانغ أستاذ الاقتصاد بجامعة كامبردج واحد ألمع المفكرين الاقتصاديين - الذي ذهب الي ان التدهور الاقتصادي الذي عانت منه القارة الافريقية سببه انها كانت تدار عمليًا من قبل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي منذ ثمانينات القرن الماضي . وفي ركن آخر من العالم ذهب هـا-جون إلى انه بعد انفراط عقد الكتلة السوفيتية واستقلال جمهورياتها رفضت أوزبكستان الدوران في فلك البنك الدولي وصندوق النقد ؛ ورفضت العلاج بالصدمة ، ورغم أنها بلد غير ساحلي مرتين ( لا بحر لها ومحاطة بدول لا بحر لها) ورغم وابل الانتقادات الذي انهمر عليها من مؤسسات التمويل الدولية ، فقد كان أداؤها الاقتصادي أفضل بكثير من الجمهوريات السوفيتية التي تبنت وصفات الصندوق ، فقد نجحت أوزبكستان في أن تكون الأولي من بين الجمهوريات السوفيتية السابقة التي استعادت التوازن الاقتصادي وازدهرت فيها صناعة السيارات وتعززت رفاهية الشعب. وفي وجود علماء مثل علي عبد القادر لم يكن السودان في حاجة الي زرقاء يمامة ولا إلى علماء الخارج ومؤسساته لتفادي انزلاقٍ أعلن عنه في سلسة من الدراسات الأكثر رصانة؛ ولكن أهل الحكم كان لهم رأيٌ آخر أملته المصالح قصيرة النظر بعيدا عن التحليل العلمي.
كان بإمكان صانع السياسات العامة والأحزاب السياسية السودانية وقادة الرأي تجنب تكرار الفشل الموجع وكان بإمكانهم الإلمام بطبيعة التحدي التنموي وأهم جوانب تجربة السودان الاقتصادية تحت إشراف الخارج بـالاطلاع على التقييم الثري لتاريخها الوارد في مقالات هذا الكتاب والتي ظلت متوفرة منذ ثمانينات وتسعينات القرن الماضي. ولكن للأسف فان من لا يعرفون تاريخهم محكوم عليهم بتكراره؛ هذه المرة كمأساة مكتملة الأركان. يُنسب إلى أينشتاين القول بإن تعريف الجنون هو فعل الشيء نفسه مرارًا وتكرارًا وتوقع نتيجة مختلفة.
ولكن، ما زال بإمكان أهل الحل والعقد الالتفات الي الخلاصة التي توصل إليها علي عبد القادر بأن انقلاب 30 يونيو 1989 على الديمقراطية يمكن تفسيره جزئيا بفشل الحكومة الديمقراطية في التعامل مع الأزمة الاقتصادية السودانية ومساهمتها في تفاقمها ومن ثم استمرار حالة التبعية والانبطاح.
استنادا إلى تحليل عميق ومعرفة بموارد السودان وبطبيعة التمويل الخارجي يرهن علي عبد القادر الخروج من الجب إلى الاعتماد على الذات، ويلاحظ ان أن الأغلبية الساحقة من السكان "سوف لن تخسر شيئا إذ إنها قد ظلت تفعل ذلك طوال السنوات"، ثم يتساءل عن إمكانية تبني نهج الاعتماد على الذات من الأقلية ذات النفوذ الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. من نافلة القول ان استفسار الكاتب هو في الحقيقة اتهام، لذا يسارع بتذكير الأقلية المذكورة “إنه إذا ما جاء الطوفان فإنها ستكون الطبقة الاجتماعية الوحيدة التي ستخسر في نهاية المطاف مهما كبر حجم ما تراكم لديها من أصول مالية وعينية". فهل يسمعون في فرصتهم الاخيرة؟
ختاما نذكر مرة اخري بان الذي بين يديك هو الإصدارة الثالثة لكتاب تم نشره لأول مرة في عام 1990. ولكن تاريخ ميلاد يضلل بلا قصد، فهذا كتاب مواكب بكل ما تعني الكلمة، يستنطق التوجه الاقتصادي الحالي، ومنطقه، ومرتكزاته الفكرية وتمظهراته السياسية ونتائجه المتوقعة التي لن تختلف عما تنبأ به علي عبد القادر قبل أربعة عقود.
معتصم الأقرع
26 يونيو 2021
elagraa@gmail.com
//////////////////////