وفى لاهاى.. سطع نجم الإمام الأكبر! …. بقلم: محمود عثمان رزق

 


 

 

morizig@hotmail.com

 

 فى لاهاى إحدى المدن الهولندية وفى عام 1937 بالتحديد عقد مؤتمرا عالميا لدراسة القانون الدولي المقارن دعيت إليه الوفود من كل فج عميق فلبت نداءه وفود وعلماء من كل بلاد العالم، وحضره كذلك وفد من مصر يرأسه الدكتور عبد الرزاق السنهوري وهو رجل قانون بينما أوفد الأزهر عدد من العلماء برئاسة الشيخ محمود شلتوت وكان شابا فى أول الأربعينيات من عمره، وقد تقدم الشيخ شلتوت ببحث تحت عنوان : " المسئولية المدنية والجنائية في الشريعة الإسلامية " وضّح فيه معنى المسئولية في الإسلام وشرح فيه النصوص والمصطلاحات الفقهيه في الضمان الإجتماعى والقانونى فى نظر الشريعة الإسلامية، وقد أذهل الشيخ شلتوت الحضور بما فيهم أعضاء الوفد المصرى الحكومى والأزهرى بغزارة علمه، وقوة منطقه، وترتيب أفكاره بالرغم من صغر سنه!  وبسبب هذا البحث إعترف المؤتمر بصلاحية الشريعة الإسلامية كمصدر من مصادر التشريع الحديث، كما اعتبر اللغة العربية لغة رسمية من لغات المؤتمر.ولد الشيخ شلتوت في مصر يوم 23 أبريل من عام 1893 ببلدة منية بمحافظة البحيرة، وحفظ القرآن الكريم وهو في الثانية عشرة من عمره، وفي عام 1906 التحق بالمعهد الديني في الإسكندرية حيث بدأت تظهر عليه علامات النبوغ فأحبه شيوخه ووصفه أصحابه بالذكاء الحاد وتنوع الاطلاع.  فى عام 1918 نال الشاب شلتوت شهاد العالمية (البكلاريوس) من الجامع الأزهر. والجدير بالذكر أن ترتيبه كان الأول دائما طوال سنوات مراحله الدراسيه وحتى تخرجه من الجامع الأزهر.

وفى عام 1919 عيّن أستاذا فى معهد الإسكندرية وفى نفس العام تفجرّت الثورة الكبرى ضد الإستعمار الإنجليزى بقيادة سعد زغلول و كان عمر  صاحبنا شلتوت آنذاك 26 عاما تفيض حيوية وثورية. فرأى الفتى بحسه الدينى والوطنى أن لزاما عليه أن يناصر الثورة بنفسه و قلمه و لسانه لتحرير بلاده من ذل الإستعمار.  وفى عام 1927 عيّن أستاذا بالجامع الأزهر لتدريس مادة أصول الفقه و كان متأثرا بدعوة الشيخ المراغي ومنهجه فى الإصلاح الأكاديمى و التجديد الفقهي من أجل أن تتفاعل الشريعة الإسلامية مع العصر وعلومه فتقوم بحاجة المجتمع فتسند الصحيح، وتقوّّم المعوج، وتهدم الباطل. وكان ثمن هذا التأثر الفكرى بالشيخ المراغى ومناصرة دعوته التجديدية هو فصله من منصبه كأستاذ للفقه وكان ذلك فى عام 1931!! ولكن الحق دائما يعلو ولا يعلى عليه، فقد أرجع الشيخ المراغى ذلك المجدد الثائر شيخا للأزهر مرة أخرى بعد أن تقدم باستقالته احتجاجا على وضع العراقيل أمامه لإصلاح الأزهر الشريف. فأول شئ فعله الشيخ المراغى بعد رجوعه لمنصبه أن أصدر قرارا بإرجاع الشيخ شلتوت للجامع الأزهر بمنصب وكيل كلية الشريعة الإسلامية ليشرف على خطة الإصلاح فيها وكان ذلك فى عام 1935. وفى عام 1957 عيّن وكيلا للأزهر، وبعد عام واحد أصبح شيخا للأزهر!!  واستمر الشيخ شلتوت شيخا للأزهر حتى أغسطس من عام 1963 عندما قدم إستقالته للرئيس جمال عبد الناصر محتجا على قرار أصدرته حكومة الرئيس عبد الناصر ينص على أن يكون منصب شيخ الأزهر فى تلك المؤسسة دينيا فقط لا علاقة له بالسلطات الإدارية فيها!.. وبالطبع رفض الشيخ شلتوت القانون وعدّه مؤامرة واضحة من جمال عبد الناصر ضد الأزهر وخاض بسببه معركة عنيفة أبدى فيها شجاعة وشموخا وثباتا كثبات الجبال.. وفى هذا الصدد كتب رسائلا شجاعة إلى الرئيس جمال عبد الناصر وإلى رئيس مجلس الوزراء يوضح لهم فيها خطأ قرارهم وأثره المدمر فى المدى القريب والبعيد على الأزهر.  وعندما لم يجد أذنا صاغية قدم إستقالته فى أغسطس من عام 1963 قائلا فيها : " ولذلك، فليس أمامي إلا أن أضع استقالتي من مشيخة الأزهر بين يديكم، بعد أن حيل بيني وبين القيام بأمانتها"  وكما أن الرئيس ناصر حال بينه وبين منصبه حالت المنية بينه وبين العالم الإسلامى، فبعد خمس أشهر من إستقالته وبالتحديد فى يوم 12  ديسمبر من عام 1963 إقتنصه الموت ليحرم الأمة الإسلامية من رجل نابغة كان حريا بأن يملأ الأرض علما كما ملئت جهلا!  لقد فاضت روح إمامنا الطاهرة إلى ربها تاركة وراءها 26 مؤلفا ترجمت لعدد من اللغات الحيّة صدقة جارية ينتفع بها يوم لا ينفع مال ولا بنون!!وبالرغم من تلك الفترة القصيرة التى قضاها الإمام شلتوت شيخا للأزهر إلا أنّه ترك أثرا كبيرا ومدويا حاز به لقب الإمام الأكبر ، وهو لقب أستحدث لأول مرة فى تاريخ هذه المؤسسة العريقة من أجله.  فلذلك عندما تسمع علماء الأزهر يقولون: " قال: الإمام الأكبر كذا وكذا." ولا يضيفون إسما أمام هذا اللقب فهم يعنون الإمام محمود شلتوت تحديدا وحصرا!  ولم يحترمه العلماء فقط بل كان للرجل هيبة ومكانة خاصة فى قلوب كثير من رؤساء الدول منهم الرئيس الفلبينى الذي وضع طائرته الخاصة تحت تصرفه عندما زار الشيخ الفلبين، ومنهم الرئيس الجزائري المشهور أحمد بن بيلا الذي كان يزوره فى منزله.  وكذلك كان يزوره الرئيس العراقي عبد السلام عارف وغيرهم من الرؤساء العرب والمسلمين.  وتقديرا لعلمه، وإنجازاته، ومنهجه التجديدى، وأبحاثه العلمية قامت أربع دول بمنحه الدكتوراه الفخرية، كما قامت أكاديمية شيلى بأمريكا الجنوبية بمنحه درجة الزمالة الفخرية.  و من الإصلاحات التى أدخلها الإمام شلتوت فى الأزهر نذكر على سبيل المثال لا الحصر الآتى:كوّن مكتبا علميا للرد على مفتريات أعداء الأسلام وتنقية كتب الدين من البدع والضلالات وكان ذلك المكتب هو النواة التى انبثق منها مجمع البحوث الإسلامية.أسس مع عدد من كبار علماء الشيعة والسنة في مصر وإيران دارا للتقريب بين المذاهب الإسلامية فى عام 1948، ثم ألحقها بفتوى شرعية - وهو فى منصب شيخ الأزهر - تعترف بالمذهب الشيعى الإمامى الإثنا عشرى مذهبا خامسا يجوز الأخذ بأرائه فى العبادات والمعاملات وغيرها.أمر بتدريس الفقه الشيعى وغيره من فقه المدارس الأخرى جنبا إلى الفقه السنى حتى يكسر حاجز التعصب والجمود بين أهل المذاهب الإسلامية. وفي عهده صدر قانون تطوير الأزهر وإصلاحه، وهو القانون الذي بموجبه تحول الجامع الأزهر إلى جامعة الأزهر وأضاف للكليات القديمة كليات حديثة تدرس العلوم الطبيعية والسياسية والإقتصادية الحديثة جنبا بجنب مع العلوم الشرعية. في عهده أيضا دخلت المرأة لأول مرة معاهد الأزهر وكلياته بعد أن كان حصرا على الرجال. وفى عهده حدث إنقلاب فى مناهج الدراسة فوضعت مناهج جديدة ساعدت فى تخريج كثير من العلماء المبرزين ذوى المواهب العالية فى البحث والإجتهاد.  وبالإضافة لتلك الإنجازات فللشيخ فتاوى علمية رصينة وجدت  قبولا كبيرا، وفتاوى أخرى أثارت جدلا عنيفا مثل رأيه فى نزول المسيح عيسى بن مريم  الذى وضحه بقوله: " أنه ليس فى القرآن الكريم، ولا السنة المطهرة مستند يصلح لتكوين عقيدة يطمئن إلييها القلب بأنّ عيسى رفع بجسمه إلى السماء، وأنّه حى إلى الآن فيها، وأنّه سينزل منها آخر الزمان إلى الأرض."  وكذلك رأيه فى شهادة المرأة إذ يرى أنّ شهادة إمرأتين مقابل رجل لم يقصد به القاضى وإنما قصد بها كاتب المواثيق والديون والآية ذكرت الكاتب والكاتب بخلاف القاضى ولذلك فإنّ آية الدين لا علاقة لها البتة بالقضاء. و فى رأى الشيخ شلتوت أنّ القاضى له مطلق الحرية فى أنّ يطلب شهادة من يشاء كيف يشاء ومتى يشاء!  وذلك يعنى أن القاضى يمكنه أن يحكم بشهادة إمرأة ورجلين ، أو رجلين وإمرأة ، أو عدد من النساء ليس بينهن رجل ، أو عدد من الرجال ليس من بينهم إمرأة.  وأهمّ فتاويه التى تخصنا نحن فى السودان فى هذه الأيام هى رأيه فى ختان الإناث، وسننقل رأيه كاملا فى المقال القادم بإذن الله تعالى. 

 

آراء