هذا كتابٌ غاية في اللذة والامتاع والمؤانسة ولعله من أمتع ما قرأت من ضمن كتب المكتبة السودانية. فمؤلف الكتاب رجل مشهور في عالم الرياضة والتدريب العسكري والغناء وشعر البادية وهو الأستاذ محمد حسن علي المشهور بالجقر. ألّفَ سِفرَه من عدة فصول بلغت في مجملها 280 صفحة من الحجم المتوسط أبدع فيها أيّما إبداع. ففي ثناياها يأخذك الجقر في رحلة صيد مثيرة تطارد معه فيها الأرانب والغزلان في فضاء ممتد تكون الغلبة فيه للأسرع عدواً والأطول نفساَ والأحسن استراتيجية. وقد يدخل بك صبيحة اليوم التالي الأدغال فتسمع زئير الأسد وترى الشرر يتطاير من عيونه فيطيرعقلك لهول المنظر المخيف، فيتوقف قلبك وتتجمد الدماء في عروقك خوفاَ ورعباً فتسأل الله السلامة مخلصاً له الدين. أو قد يسير بك في غابة كثيرة القرود فيهمس إليك منبهاً ومحذراً أنّ النمور تكثر حيث تكون القرود، فيجعلك تتلفت يمنة ويسرة تقلب عينيك في السماء تتفحص فروع الأشجار و"ديس" الحشائش الخضراء الكثيفة خوفاً من نمر يترصد خطواتك وانت لا تشعر. وفي قمة ذلك الحذر يحدثك الكاتب عن أخلاق النمور وأنّها غدارةٌ حذرة وأنانيةٌ مفرطة تجيد التخفي والتربص والهجوم الشرس فيزدك خوفاً على خوف. ثم لا يلبث أن يحدثك عن أنواعها وأشكالها وأحجامها وألوانها والأماكن والبلدان التي يتواجد فيه كل نوع، حتى إذا أدهشك ذلك منه زادك معرفة بأخلاق الحيوانات الأخرى وأنواعها وأنواع الزواحف والطيور فتظن أنّك تصحب طرزان في ملكه. والكتاب يزيح الستار عن وجهٍ آخر لشخصيتة مؤلفه التي عُرفت في ساحة الفن والرياضة والمرح ولم تُعرف في ساحة التأليف والإطلاع والكتابة والتفسير والبحث العلمي الجاد وعرفة اللغات الأوربية. يصف الرجل مؤلفه راجياً أن تستوى فيه رغبة الجميع قائلاً: " لأنّه قد أخذ من طرف الفلسفة، وجمع معرفة السماع وعلم التجربة، وأشرك بين علم الكتاب والسنة، وبين وجدان الحاسة وإحساس الغريزة، يشتهيه الفتيان كما يشتهيه الشيوخ، ويشتهيه الفاتك كما يشتهيه الناسك، ويسشتهيه اللاعب ذو اللهو كما يشتهيه المجد ذو الحزم" وقد صدق الرجل في وصفه. يفتتح الجقر كتابه بصرخة طرزانية مدوية في 37 صفحة لأهل السودان وحكوماته بأن أنقذوا الحياة البرية لأنّ في إنقاذها إنقاذٌ للإقتصاد والسياحة في السودان. ففي الحياة البرية جمال ومال للذين يعلمون. وتراه يضرب لنا الأمثال علنا نستجيب لندائه فيحدثنا عن تجربة كينيا وزمبابوي وجنوب أفريقيا ونامبيا وألمانيا في حفظ الحياة البرية ومبالغتهم في ذلك للدرجة التي ابتدعوا فيها فكرة مزارع الحيوانات البرية الخاصة التي انعكس نفعها على الأهالي "فصاروا يتنافسون فيها على حماية الحياة البرية لما لمسوه من فوائد مباشرة تعود عليهم بالخير العميم من دعم الدولة من السياحة وراوج سلعهم ومنتجاتهم". والكاتب يُحمِّل مسئولية خراب البيئة السودانية على الإنسان السواني الذي "بتصرفاته غير المسئولة وبتدخله غير المخطط )لعب( دوراً كارثياً أدى الى تقلص البيئات الطبيعية لتلك الأنواع )النادرة من حيوانات( ومراعي وغابات ومراقد مياه الى ما يقل عن ثلث ما كان عليه في الأيام الخوالي". ولكنَّه لم يكتف بالاتهام والمناحة فقط كما يفعل الكثيرون، بل قدم مشروعاً متكاملاً لانقاذ الحياة البرية في السودان متمنياً أن يجد مشروعه طريقه للتنفيذ. وفي الحقيقة هذا البحث العلمي المدعوم بالمصادر العلمية يمكن أن يضاف للمناهج الدراسية بل يؤهل صاحبه لأنّ يكون وزيراً للبيئة والحياة البرية والبحرية في بلد يفتقد لمثل هذه الوزارة الإتحادية المهمة أكثر من حاجته لوزارات كتلك التي ترعى الشئون الدينية والإعلام والرياضة والتي يمكن أن تتولاها الولايات بنفسها وتدير شئونها عبر مكاتب خاصة بدلاً من رعايتها اتحادياً. وبعد تلك الصيحة الوطنية المنبهة يسيح بك المؤلف في رحلة ثقافية في عالم الحيوان فيحدثك عن أنواع الكلاب وسلالالتها التي تزيد على المئتي 200 نوع، فتجد منها كلاب الصيد وكلاب الزينة وكلاب الرعي والحراسة. وتعلم من حديثه أنّ الكلب هو الوحيد الذي صاحب الاسنان وانصاع له دون إكراه أو قهر منذ قديم الزمان، ويحدثك عن أشكالها وأخلاقها وأوزانها وطولها وعرضها. ولا ينسى أن يغوص بك في كتاب الله تعالى فيذكر لك قصة كلب أهل الكهف من باب ذكره بالخير، ثم يعرج بك لكتب الفقه الإسلامي لتعلم أيُّ أنواع الكلاب يحل تربيته وإمساكه وماهي عقوبتك إذا قتلت كلب صيد أوماشية؟ وهل يحل لك بيع الكلاب أم لا؟ وبعد هذا الدرس الفقهي يدعوك الجقر لاستراحة تشرب فيها الشاي والقهوة يستدعي لك فيها صديقه العزيز الشاعر الفرجوني ليسمعك من شعره في رثاء كلبه "إبليس" الذي توفى بسبب حادث حركة ولما رأه ميتاً ارتجل قصيدة مطلعها:.
بعد ما كنتَ سباحاً يمينك ضارع كتلت الليلة وادردقت عند الشارع
ضربك لوري ينشل يمين السايقو ينزم النفس تعدم عليهو طرايقو
والكلام عن الكلاب يقود بالضرورة للكلام عن الصيد بكل أنواعه مع أن لا "احدٌ يعلمُ على وجه الدقة متى بدأ الصيد بالكلاب والصقور ولا في أي أرض كان ذلك" ولكنّه أضحى في العصور الوسطى الرياضة المحببة لدى الملوك والأمراء والنبلاء الذين تنافسوا على اغتناء أجود وأغلى أنواع الكلاب والصقور المدربة. وفي عصرنا هذا الذي عرف برعاية حقوق الحيوان واسقاط حقوق الأنسان وظفت التكنلوجيا في سباق الديربي خوفاً من إنقراض الصيد، فترى كلباَ يلهث بشدة في أرض لينة ليلحق بأرنب صناعي بدلاَ من طبيعي أو غزال نافر. ولا ينسى أن يذكر لك أنّ الكلاب لا تستطيع الجري في الأراضي الحجرية بعكس الغزال الذي صمم حافره لذلك وفي الأرض الحجرية لا يلحق الكلب بالغزال أبداً. ثم يحدثك الكاتب عن الغزلان والظباء والفرق بينها والى كم قسم ينقسم كل نوع، وفي أي مكان من الأماكان يوجد هذا وذاك، وما هو حجم كل نوع ولونه وقرونه وصفاته الجمالية. فمن أنواع الغزال يحدثك عن الريل والريم والمها والرشاة والشادن وحمرآية وأم سير وأم تقدم. فالريل كما يصفه "نوع من الغزال كبير الجسم جميل الخلقة، خفيف الوثبات، خصوصاً عندما يجفل أو ينفر، وله عُجب في مشيته العادية، ويبدو رائع الجمال أذا حرك رقبته ملتفتاً يميناَ أو يساراً ليستطبع بعينيه الواسعتين ما حوله." وهذه الأوصاف الجمالية يتخذها المؤلف مدخلاً لغناء الحقيبة الذي أحبه واجاده. ففي فضاء بيته يجلسك ليكرمك ويروى لك ما قاله المساح وأبو صلاح وعبيد عبد الرحمن وود الرضي وسيد عبد العزيز وغيرهم من فحول الشعر الغنائي في بلادنا وهم يستعيرون أوصاف الغزال بأنواعه ويسقطونها على معشوقات العين والفوائد حبيباتهم فيروى لك الجقر منها ما يستطيع على سبيل المثال لا الحصر.
فها هو عبيد عبد الرحمن يقول: "الشادن" الكاتلني ريدو هلك النفوس والناس تَريدو مالو لو يرحم مُريدو يصعب علي وصف قصيدو
فيلاقيه أبو صلاح بكلماته قائلاً: يا جوهر صور المحافل روحي معاك اتلطفيلا "الظبي" الفي مقيلو غافل تارة يميل والتانية جافل وَجهو نور والبدر آفل فوق للبدر يزيد نفيلا
فيسمعهما الشاعر عمر البنا فيجاريهما قائلاً: أنا لي حبيب ياناس جافاني دون أسباب حسنو بديع ووديع ما شفناهو قط في شباب كيف لا يكون حسنك للعازلين غضّاب متل نفورك وجيدك "ظبي" التلال والغاب
وبعد أن تمتعت بحظك من شعر الحقيبة والمسادير وشيْئا من الدوبيت والراحة يمشي بك الكاتب في مشوار طويل على الأرجل يحدثك فيه عن الأرانب حديث العارف الحازق ثم ينتقل للحيوانات المتوحشة كالتماسيح والضباع والقرنتية والأفيال والفهود والنمور والأسود فتسمع منه قولاَ عجباً. ثم بعد ذلك يعرج للنعَم كالبقر والضان ويفاضل لك بين لحومها وألبانها. حتى إذا رأى منك انهاكا وتعباً من السير ردفك على دابته وطفق يحدثك عن الدواب التي هي الجمال والخيل والبقال. ثم فجأة يحلق بك في السماء عالياً ليعدد لك أنواع الطيور والصقور فيشير لك هذا بازي وذاك شاهين وذالك عقاب وتلك حداة وهناك قطا وبجنبه حباري وتتعلم منه أخلاقها وصفاتها وأمومتها وأماكن نومها ومواضع بيضها ومتى تشرب ومتى ترحل ومتى ترجع. ومن السماء ينزل بك للارض مرة اخرى في وادي الثعابين والحيات الضخام والعقارب فتعلم أن أنثى العقرب يقتلها أولادها لحظة الولادو فلا تعيش بعد الولادة لترتيتهم فهم أيتام منذ لحظة الوضوع. ويعلمك أن السِنة الحيات كلها السِنة سُود بينما تتميز الثعابين بالألسنة الحمراء ويعدد لك من أنواع الثعابين فيذكر لك الثعبان الأبتر والدفان والكوبرا {أب درق} والطريشة والأعمى والنشاب والنوام والمنبا وأم جناب والأصلة. وهي غير سامة ولكنها ماكرة خطرة وطويلة قوية تلتف حول الفريسة فتقتلها وتبتلعها، وما قاله في الكتاب كله عن الحيوان والطيور والزواحف تجده مسنوداً لتجربة شخصية أو مرجع علمي أوروبي أو عربي. وفي كل تلك السياحة المعرفية العلمية التي كتبت باسلوب أدبي راقٍ وممتاز وبكلمات منتقاة، لا ينسىى الجقر في أي فصل من فصول الكتاب أن يذكرك بالله مبدع الكون وخالقه الذي يحيط بهعلماً ونحن مهما أوتينا من العلم لم نؤتى الإ القليل منه فسبحان الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي يحيط بكل شيء علماً.
رسالة خاصة لدار عزة للنشر: إن شهامة الجقر لن تجعله يقاضيكم ويطالبكم باعادة نشر الكتاب على نفقتكم وتعويضه مادياً لما لحق به من أذىَ معنوي من جراء كثرة الأخطاء المطبعية في كل سطر وصفحة من صفحاته. وليس ذلك فحسب، بل الكتاب يكاد ينفراط عقده من من ضعف تماسكه وتغليفه وكادت تلك المساويء أن تفسد قيمة الكتاب لولا أنّ التراب لا يفسد التبر مهما غطاه. فحرامٌ عليكم ما فعلتموه بهذا الكتاب القيِّم ونرجو منكم إعادة طباعته من دون أخطاء مطبعية ومن دون تكلفة لصاحبه..