boulkea@gmail.com أشرتُ في مناسباتٍ عديدة سابقة إلى أنَّ قضية "الرِّدة" في التاريخ الإسلامي بدأت سياسية واستمرت سياسية وستظل كذلك, و"الجانب الديني" فيها ضئيل ولا يُثار إلا لخدمة "الجانب السياسي" في الغالب, وهو الأمر الذي بدا جلياً الأسبوع الماضي عندما أمرت النيابة بإطلاق سراح شاب متهم بالردة إثر تقرير طبي وصمه بالجنون. قصة الشاب محمد صالح الدسوقي معروفة, حيث تقدَّم بطلب لقاضي محكمة بإمدرمان لإستصدار "إشهاد شرعي" لتقديمه للجهات المختصة لتعديل خانة الديانة في أوراقه الثبوتية (شهادة ميلاد, جنسية, جواز سفر, إلخ ) من "مسلم" إلى "لا ديني", وعلى إثر شطب القاضي للطلب بدعوى عدم الإختصاص, قام أحد المحامين بفتح بلاغ ضد الشاب المعني وطلب محاكمته بمقتضى المادة 126 من القانون الجنائي المتعلقة بالرِّدة والتي تصل عقوبتها للإعدام ما لم يتراجع المتهم عن موقفه, وقد تم إلقاء القبض عليه بناءاً على ذلك البلاغ. لست هُنا بصدد توضيح رأيى المبدئي الرافض لحد الرِّدة من وجهة النظر الدينية, حيث أفضت في ذلك في مقال مطوَّل بعنوان "مجمع الفقه الإسلامي وحد الرِّدة" نشر في عام 2011, أتيتُ فيه على ذكر العديد من الشواهد و الأسانيد من القرآن الكريم والفقه و التاريخ التي تُعضِّد وجهة نظري وتضعف من حجيَّة الرأي القائل بتطبيق هذا الحد إستناداً على أحاديث ضعيفة ومرويات تناقض القرآن, وهذا المقال مبذولٌ في الشبكة العالمية لمن أراد الرجوع إليه. غير أنَّ واقعة الشاب الدسوقي جاءت لتثبت صحة رأينا الذي ذهبنا إليه في كون أنَّ القضية في أصلها سياسي يتم إلباسها ثوب الدين لتحقيق أهداف دنيوية محض, وهو ما تبدى بوضوح في قرار النيابة القاضي بإطلاق سراح المتهم لإنتفاء الأهلية "العقلية والنفسية" وهو القرار الذي إعترضت عليه هيئة الدفاع بحيثيات قوية. قالت هيئة الدفاع في بيانها الصادر حول الموضوع أنَّ " الجنون دفعٌ يقدمهُ المتهم أو ممثله القانوني ونحن في هيئة الدفاع لم ندفع بذلك والمتهم أيضاً لم يتقدم بهذا الدفع", وأضافت أنَّ ( الجنون لا يتم التحقق منه إلا بعد عرض المتهم على لجنة طبية بمستشفى مختص بالأمراض العقلية والنفسية ). إنتهى ولكن الذي حدث هو عكس ذلك تماماً, حيث أسرعت النيابة بإستجلاب طبيب نفسي قام بمعاينة المتهم "داخل مباني وزارة العدل" و أوصى بإخراجه من الحبس وإدراجه في متابعة برامج الإرشاد النفسي, و عليه خلصت النيابة إلى أنَّ ( المتهم يعاني من إضطرابات نفسية وغير كامل الأهلية للمساءلة الجنائية، إستناداَ على المادة (8) من القانون الجنائي ) ولذا قررت ( شطب الدعوى الجنائية في مواجهة المتهم وإخلاء سبيله فوراً وتسليمه إلى ذويه لمتابعة العلاج مع الطبيب النفسي ). إنتهى لا يخفى على المتابع الحصيف أنَّ إجراء النيابة قُصد منه "المخارجة" من الورطة التي سببها هذا الشاب, ذلك لأنَّ النيابة في العادة لا تسعى لتبرئة ساحة المتهم, بل الدفاع هو من يفعل ذلك, ولكن كان واضحاً أنّ القضية إذا سارت في مسارها الطبيعي سيكون لها إنعكاسات "سياسية" في غاية الخطورة ولهذا لم يكن هناك مُبرراً لإطلاق سراح المتهم سوى رميه "بالجنون". وهذه ليست المرَّة الأولى التي تدخلُ فيها الحكومة في حرجٍ بائنٍ بسبب مادة الردة, فقبل أكثر من عامين إضطرت للتدخل لإطلاق سراح السيدة "مريم يحي" التي حُكم عليها بالإعدام بسبب إعتناقها "المسيحية", حيث تعرضت الحكومة لضغوط خارجية كبيرة بسبب القضية, وفي خاتمة المطاف لم ينفذ الحكم وغادرت المتهمة السودان على متن طائرة إيطالية برفقة مسؤولين كبار. إذن يتأكد مرَّة ثانية أنَّ موضوع حد الردة ليس موضوعاً دينياً في المقام الأول, بل هو أمرٌ خاضع للنظر والتقديرات السياسية المحض, ومتى ما رأى فيه الحاكم مصلحة تخدم أجندته سارع إلى تنفيذه مثلما حدث في السودان مع المرحوم الأستاذ محمود محمد طه, الذي تم إعدامه بواسطة النميري وبمساعدة قضاة "الأخوان المسلمين" الذين رأوا في مدرسته الفكرية خطراً كبيراً يُهدد دعوتهم. إعتبر بعض الناس أنَّ الخطوة التي إتخذها الشاب محمد الدسوقي ليست سوى مزايدة, وقالوا أنَّ "من يبدِّل دينه في قلبه لن يكون مهموماً بتغيير الديانة في الأوراق الثبوتية", وهذه في ظننا نظرة سطحية قاصرة لا تلامس جذر القضية, فالسؤال الطبيعي الذي يجب أن يُسأل في هذا الإطار هو : هل يمتلك هذا الشاب الحق في التمسك بمبدأ "حرية الضمير والإعتقاد" وكل ما يترتب عليه من حقوق دستورية تجعله يُطالب بتغيير ديانته في الأوراق الثبوتية لأنها لا تعكس حقيقة إعتقاده أم لا ؟ تنصُّ المادة 27 (3) من "وثيقة الحقوق", الباب الثاني من دستور 2005 الإنتقالي, على أنَّ "كل الحقوق والحريات المُضمَّنة في الاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان والمُصادق عليها من قبل جمهورية السودان جزء لا يتجزأ من هذه الوثيقة"، ومعلومٌ أنَّ المادة 18 من "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" الذي صادق عليه السودان تنصُّ على أنَّ "لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حُرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك سراً أم مع الجماعة". وبالتالي فإنَّ هذا الشاب لم يفعل شيئاً سوى ممارسة حقه في تغيير ديانته وفقاً لما ينصُّ عليه الدستور, ولا مجال لأية جهة لإتهامه بالمزايدة طالما أنَّه لم يخالف ذلك الدستور, و لو رأى البعض أنه سعى لإحراج الحكومة بتقديم ذلك الطلب فهذا شأنٌ آخر لا يجب أن يصرفنا عن جوهر القضية المتمثل في مشروعية طلبه بغض النظر عن نواياه الخاصة. وكذلك رأى البعض أنَّ النيابة قد تصرَّفت بحكمة عندما شطبت البلاغ وأطلقت سراح الشاب, ونحن كذلك نقول مثل قولهم, رغم رفضنا للتبرير الذي إستندت إليه (الجنون), ولكننا مع ذلك نشيرُ إلى أنَّ لا شىء يضمن تكرار ذلك التصرَّف في كل مرَّة طالما ظلت مادة الرِّدة موجودة في القانون, فقد يُصادف أن تُصر النيابة أو القاضي في المرَّة القادمة على تطبيق نصوص القانون كما هى, وبالتالي فإنَّ ذلك التصرف لا يُعالج القضية بشكل جذري. ستطلُّ علينا كل حين وآخر قضية متعلقة بالردة تشغل الرأي العام, طالما ظلت هذه المادة موجودة في القانون الجنائي في مخالفة صريحة لأحكام الدستور, وسيأتي يومٌ يكون فيه تطبيق تلك المادة موافقاً للأهواء السياسية للحكومة مما سيترتب عليه إعدام شخص أو مجموعة من الناس كما حدث مع الأستاذ محمود محمد طه ! فات على مؤيدي تطبيق حد الرِّدة أنَّ التاريخ الإسلامي مليءٌ بأسماء كثير من الملحدين والمتشككين في الأديان السماوية, ومع ذلك لم تتم ملاحقتهم بالقتل بسبب إعتقادهم, وقد أورد الفيلسوف المصري الراحل عبد الرحمن بدوي في كتابه "تاريخ الإلحاد في الإسلام" أسماء بارزة في هذا الخصوص من أشهرها الطبيب الفيلسوف أبوبكر محمد بن زكريا الرازي وإبن الراوندي وغيرهم. ومع ذلك فقد ظل الإسلام ينتشرُ ويزدادُ عدد المنتسبين إليه كل يوم, وفي شهر مارس الماضي أوردت قناة "سي. ان. ان" نتائج دراسة قام بها مركز أبحاث "بيو" الأمريكي وأفادت أنَّ الإسلام هو الديانة الأسرع إنتشاراً حالياً في العالم, وقد قدَّرت الدراسة أن يزيد عدد المسلمين بين عامي 2010 و2050 بنسبة 73%، ويتبعهم المسيحيون بزيادة 35%، والهندوس بنسبة 34%, وأشارت إلى أن ذلك يعني أن الإسلام، ثاني أكبر ديانة حالياً، سوف يتخطى المسيحية كأكبر ديانة في العالم بحلول نهاية القرن. وكذلك فإنَّ لنا في قصة "أبرهة الأشرم" مع جد الرسول الكريم "عبد المطلب بن هاشم" عبرة, فعندما وصل الأول إلى ظاهر مكة المكرمة في طريقه لغزوها وهدم الكعبة, طلب مقابلة زعيمها عبد المطلب بعدما كان قد استولى على مائتي ناقة من قطيعه, وعندما حضر إليه لم يُحدِّثه إطلاقاً عن غزو الكعبة وعن هدمها بل قال له : أريد أن ترد لي إبلي, فعجب أبرهة وقال : "أنا أتيتُ لهدم كعبتكم ومقدساتكم ولهدم دينكم ولهدم مكان حجِّكم, وتقول لي ردَّ لي إبلي, فقال عبد المطلب " أنا ربُّ الإبل , وإنَّ للكعبةِ ربٌّ يحميها". ونحن من جانبنا نقول إنَّ للإسلام ربٌّ يحميه, وهو في غنى عن كل شخصٍ لا يرغب في إعتناقه طوعاً واختياراً, ولن تتم حماية الدين بمادة في القانون تُكره الناس على البقاء فيه, فالقاعدة التشريعية الكلية فى القرآن الكريم التي قررتها الآية (256) من سورة البقرة تقول (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدّينِ قَد تّبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ الْغَيّ). وقد أكد القرآن على حُرية البشر فى الإختيار بين الإيمان أو الكفر, وفى مقابل هذا فإنَّ مسئوليتهم تجاه تلك الحرية سوف تتبيَّنُ يوم القيامة, وليس في الدنيا, حيث سيحاسبهم الله على اختيارهم, وهذا ما قرَّرته الآية (29) من سورة الكهف حيث يقول تعالى : ( وَقُلِ الْحَقّ مِن ربّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنّا أَعْتَدْنَا لِلظّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ بِئْسَ الشّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً ).