يا للوقاحة والغباء … القتلة يستنفرون الضحايا

 


 

 

الطرق على ذاكرة مهترئة
يا للوقاحة والغباء ... القتلة يستنفرون الضحايا
يبدو أن هذه الحرب الهمجية لم يتعلم منها أحد شيئاً ولم تستخلص منها النخب السياسية والاجتماعية والاعلامية درساً. فما بالك بمن يسترشد بهم وبفكرهم وعلمهم وبحكمتهم من عامة الناس ؟!. ورغم وضوح أسباب كل هذا الهرج والقوى التي تديره، إلا أن الجميع يرقصون على ايقاع لحن يبثه لايفاتية الكيزان والجوقة الموسيقية التي تشاركهم العزف.
ففي الوقت الذي يتصدر فيه الأخبار عنوانين:
- الدعم السريع ترتكب مجزرة بولاية الجزيرة و تقتل «124» شخصاً بقرية «السريحة»
- مقتل أكثر من «100» مدني بينهم نساء وأطفال في قصف جوي أستهدف جنوب الحزام بالخرطوم.
تلاحظ أن صياغة الخبر الأول اطلقت لفظ "مجزرة" في وصف الحدث.
بينما استخدمت لفظة "مقتل" في الخبر الثاني دون توصيف للفعل.

(2)
ما دلالات هذا الفرق في الصياغة بين خبرين متماثلين ؟
هل يتم هذا ببراءة دون قصد؟.
لا يمكن ان يكون الأمر كذلك طالما "المجزرة" تدل على القسوة والوحشية والبربرية، والنوايا الشرية المجردة من الإنسانية. وهي مدانة بالتالي بشكل مبرم قاطع، ولا تقبل أي تبرير، ولا يشفع لها أو يبررها أي سبب.
أما فعل الـ (قَتْل) مجرداً على نحو ما جاء بحياديته في الخبر فحمال أوجه، ويحتمل أكثر من تأويل، واحداً منها، قد يكون قتلاً مبرراً باحتمالاتٍ تدين المقتول.

(3)
هل تريد أن تقرأ ما في باطن صياغة الخبر/ العنوانين؟.
بسهولة يمكنك أن تقرأ انعكاس ذلك في ردة فعل وموقف الاتجاهات، على مختلف توجهاتها السياسية والفكرية والأيديولوجية، على صياغة عنوانيّ الخبرين:
- نقابة الصحفيين السودانيين: انتهاكات جسيمة ومجازر مروعة بحق المدنيين العزّل شرق الجزيرة ترتكبها قوات الدعم السريع.
- تقدم تحمل قوات الدعم السريع المسؤولية الكاملة عن الانتهاكات البشعة التي استهدفت قرى “السريحة، أزرق، والتكينة” وعدد من قرى شمال الجزيرة.
- موقع "فكرة للدراسات والتنمية": قوات الدعم السريع ترتكب مجازر جماعية في ولاية الجزيرة على إثر انشقاق أحد قادتها،24 أكتوبر 2024.
وقس على ذلك مختلف بيانات الادانة الصادرة عن الأحزاب السياسية يميناً ويساراً، ومقالات كتاب الرأي، – المؤيدون للجيش، أو المنحازون للدعم السريع منهم – حتى بين من يدعون الوقوف في المنطقة الرمادية منهم.
ولا تعر اللايفاتية في خنادق منصات التواصل الاجتماعي التفاتاً !.

(4)
ما الذي تستخلصه من ذلك ؟.
ليس هناك سوى تفسير واحد: كل أفراد هذه الجوقة – وإن تنوعت ألاتهم الموسيقية – يعزفون لحناً واحداً يقودهم بعصاه مايسترو، ويقرأ عازفوها من ذات النوتة، وكلٌّ حسب آلته الموسيقية.
هل هم على وعي بهذا أم لا ؟.
لا نحكم بالنوايا. ولكنهم جميعاً قطعاً قد سقطوا في فخ "الإثنيات المتقاتلة" الذي نصبه مؤلف السيمفونية وقائد فرقة عزفها.

(5)
والمفارقة التي تفضح لك مكر هذا الفخ أن دوي طبول ما سمي بـ"مجزرة شرق النيل"، وأحياناً "مجزرة الجزيرة" (للتضخيم !)، كان أعلى – بما لا يقاس – من مجازر الحلفايا والدندر، وهذه الأخيرة لم يسمع بها أحد !. ولا تدري من الذي حرص على كتم صوت وصرخات وقائعها هل هو الجاني أم الضحية ؟!.
ويتبدد غموض الفخ حين تعرف بأن ضحايا قرية السريحة كانوا يحملون السلاح، وباعتراف الناجين منهم انهم وقد أرسلوا الإحداثيات للجيش حسب اتفاق مسبق، كانوا يتوقعون تدخله بالطيران أو براً، ولكن ذلك لم يحدث !. وبحسب افادتهم أيضاً، فإن قوة الدعم السريع سبق وحذرتهم بعدم التورط في القتال وتسليم أسلحتهم ولكنهم رفضوا.

(6)
وإذن بداهة في أي حرب تنتفي صفة "المدنية" على المواطن الذي يحمل السلاح مصطفاً مع أحدى القوتين المتقاتلتين، ويصبح بالتالي "هدفاً" عسكرياً مشروعاً للقوة المضادة في القتال. وقد جنَّب عقلاء قرية أخرى، وفي الجزيرة شرق النيل أرواحهم وحرماتهم مصير أهل السرحة، بالنأي عن هذا القتال الهمجي القذر وسلموا الدعم السريع الأسلحة التي سلمها إليهم جيش الفلول واستخباراته ومليشياته ... فسلموا.
وإذا مالت كفة القتال لجيش الفلول ومليشياته في الغد فانهم سينكلون بهذه القرية المسالمة بحجة أنها "حاضنة" للدعم السريع. وكأن أهل هذه القرية قاموا بدعوة الدعم السريع لغزوهم !!.
فهل كان أهالي قرية السريحة على علم بعواقب موقفهم ؟.
أم أن من نصب لهم الفخ هو المسؤول عن تضليلهم ؟.
هذا ما يجب أن يجتهد في البحث عن اجابته أهل السريحة وغيرهم ممن سيأتي الدور عليهم بعدهم، لا أن تدفعهم حميا الثأر ليغوصوا أعمق في رمال هذه الحرب المتحركة، ويتكبدوا المزيد من الخسائر. فمواجهة الحقيقة بشجاعة ووعي أصعب وأقسى على النفس من الاندفاع العاطفي الانتحاري بالسقوط في النار.

(7)
أما أولئك الذين يحاولون جهدهم تبرير استمرار طاحونة الموت الوقحة هذي بمبررات، أعف ما توصف به، أنها ركيكة وتفتقر إلى الحد الأدنى من المسؤولية الأخلاقية.
فرداً على مقال للدكتور النور حمد حاء فيه بأن:(ضلوع المدنيين في القتال يسلبهم الحقوق المنصوص عليها في القانون الدولي الإنساني، إذ يحولهم لمقاتلين، وهنا يفقدون مبدأ الحماية بالقانون نظرا لتحولهم من صفة مدنيين لمقاتلين) وهذا مبدأ قانوني لا يختلف فيه الدكتور محمد عبد الحميد مع النور. ورغم هذا يصفه عبد الحميد بأنه ينطوي على اسقاطات ذاتية، " حيث لم يكن لارتكاب تلك الفظائع مبررٌ كافي"!. رغم اتفاقه مع مبدأ أن حمل السلاح يُفقد المواطن حق حمايته.
وهو لم يكتف بذلك بل شكك وطعن في (نوايا) النور وجهله، مستخلصاً، بأن ما قرره: " يقدح في نوايا النور حمد وموقفه من الضحايا، بل ويفضح للأسف الشديد، جهله بمرامي وفهم القانون الدولي الإنساني، وكيف تُفسر مواده وكيف تُقرأ في حالات النزاعات المسلحة".

(8)
فالنور وكل شخص آخر عدا الدكتور عبد الحميد بالطبع يعرف بأن القانون لا يقصد حمل السلاح الشخصي مجرداً، بل السلاح الذي يخوض به حامله الحرب مصطفاً مع أحد المعسكرين المتقاتلين، وهذه كانت، بلا شك، صفة السلاح الذي جهَّز به الجيش والمخابرات ناس السريحة. وحسب التوصيف الأخير، فإن النور – وغيره من الناس أيضاً – يعرف بأن "هذا القانون لا ينطبق عليه مبدأ One size fits all بمعنى أن هنالك حالات محددة يمكن أن يرفع فيها المدني السلاح". وهذا بالضبط ما قام بتحذير أهل السريحة منه القائد الميداني للدعم السريع حسب إفادة بعض الناجين من المجزرة. والحرب يا دكتور عبد الحميد ليست مجال لعب واستهتار و (هظار). فإذا كنت مدني (مزارع سواء كنت أو مهندس أو راعٍ) لا ينبغي أن تقحم نفسك فيها، فهناك ثَمَّ جنود وضباط وجنرالات، قضوا عشرات السنين يدرسونها ويقبضون رواتب شهرية على عملهم هذا.

(9)
اختلف اللصان على كيكة السلطة أيها المدني، وأنت الضحية.
هل يصعب عليك فهم هذه الحقيقة البسيطة السهلة وقد ظللت تعاني منها في دمك ومالك ومستقبل أطفالك وكرامتك أكثر من ثلاثة عقود ؟؟؟! ...
وها هما اليوم يستنفرونك، كل واحد منهما يدعوك لتقف معه في حربه مع من كان شريكه في دمك ومالك وعرضك وكرامتك. والاثنان يخوضان
حربهما على جسدك.
فمتى ستفهم إذن ؟؟!!.

(10)
من الآخر ؟.
ستتوقف هذه الحرب يوم أن يتوقف حطب وقودها ... انتم !!!.
صدقوني.

izzeddin9@gmail.com

 

 

آراء