يغلبك البكاء إذ يهجم عليك اثنان: حزنك على وطن … ونبأ كاذب !!
فضيلي جماع
31 December, 2021
31 December, 2021
**
عدت ظهر أمس الأول إلى عاصمة الضباب – لندن، بعد أن قضيت ثلاثة أشهر ونيف في الوطن – السودان. عدت لأواصل مع ملايين السودانيين في المنافي اغتراباً صار حالة من الهروب للمنفى self-imposed exile. أشهد أنني عشت الشهور الثلاثة وما تبعها من أيام في عاصمة بلادي – الخرطوم ، رغم إنني كنت أمنّي النفس برحلة للوطن الأصغر كردفان ، وبتلبية دعوات من أصدقاء في حلفا الجديدة وفي مدني السني وبعض قرى الجزيرة الخضراء.. الجزيرة التي أنجبت مدثر البوشي (مؤتمر الخريجين) والشاعر المسّاح وإبراهيم الكاشف والشاعر الدكتور محمد عبد الحي ..وكفى. تمنّيت ، لكنّ ما معنى أن تتمنّى السياحة في وطنٍ عدت لتسهم في مسح دموعه ، ولتحلم في أمسياته وصباحاته بمستقبلٍ يخرج من هتافات مئات الآلاف الذين تكتظ بهم الشوارع: حرية ، سلام وعدالة .. لكنك بدلاً من أن تحلم بالمستقبل الباهر لوطنك ترى الخناجر تنهال عليه من بعض أسوأ بنيه ومن جيرانه الذين ظللنا نناديهم – يا لسذاجتنا – بالأشقاء !
عدت – بعد أن مكثت هذه المرة قرابة الأربعة أشهر - وبي غصة. كنت شاهد إثبات إبان تلك الفترة على أحداث جسام ، ما زالت ماكينة صناعتها تدور. رأيت قتلة عصفور الوطن الغريد يتبادلون النخب أمام عيني: عسكراً + حرامية، ودولاً تتجول استخباراتها في كل ركنٍ من بلادنا ، وقد حقّ لهم. فالبلد الذي يتبادل بنوه الشتائم والإتهامات بالتخوين فوق ما تبقى من جسده النازف ، يجد أعداؤه كل مسوّغ للمشي فوق جسده بل وانتظار الفرصة السانحة ليقتسموا الغنائم في خيمة فرح ينصبونها في قلب البلاد. ولاة ساعة مندم يومذاك لأدعياء الوطنية والصعاليك من الأفندية والساسة حملة الأفكار الفطير.
عدت ظهر أمس الأول إلى أسرتي الصغيرة في لندن كما أسلفت لأستجم قليلاً من هموم وطنٍ أدعي بأني أحبه بكل كياني ، إذ ماذا أعني في هذه الحياة بدون عنوان كبير اسمه الوطن؟ ولأنّ الشهور الثلاثة وبضعة أيام لم تكن نزهة ، فقد حاولت أن آخذ يوم أمس كله بين الأنس مع العائلة والتمدد على السرير لآخذ أكبر قسط من الراحة، فقد نصحتني طبية شابة قبل عودتي أن أكثر من الراحة وهي تعالجني في آخر أسبوعين من داء الملاريا الذي تبعته حمى التايفويد. وبينما أنا في شبه غفوة إذا بإبني محمد يدخل الغرفة وهو يكفكف دمعه معتذراً بأنه يحمل لي أسوأ خبر من السودان..ويكمل بالإنجليزية التي صارت لغته الأولى: بلغنا الآن أن عمي علي توفي! نهضت وأنا أستغفر الله وأحمده على كل حال. قمت إلى ولدي الباكي لأجلسه قربي وأنا بين أن أصدّق أنني في كابوس أم أنها حقيقة الموت التي تنتظرنا أجمعين! قمت وقام معي لتقابلني أمه عند الباب وهي شبه منهارة من صدمة الخبر المفاجيء. ثم جاءت بنتي شيراز وزوجها وطفلاهما في ذات اللحظة لزيارتنا ، ليتحول البيت إلى ليل من الحزن والدموع. أشهد أنني كنت في حالة لا أتمناها لعدوي ! كنت أبحث عن دمعة تريحني ، ولكني في غربة المكان أمسح دمع هذا وهذه ، وأجلس لأضع على حجري ياسين وياسمين (طفلي شيراز بنتي). ولأتذكر كيف خرج معي أخي علي إلى الباب بصرامة الأخ الأكبر – وأنا أعلم أنه متألم لسفري: سلم على آسيا والشباب.. وبينا تلفونات! وأقف – لست أدري ماذا أفعل ، ثم إعيد الإستغفار.
وبينا نحن في ذلك الظرف القاسي والقاسي جداً..يصلنا هاتف بالنفي لوفاة الشقيق على جماع، وأنّ النبأ مجرد شائعة مغرضة! وتتحول دموع البكاء إلى دموع الفرح.. إلاي. بقيت جالساً. أو بالأصح غلبني النهوض. طلبت هاتفي وأنا أعالج الخط على رقم علي جماع-(أخي الميت الذي عاد لي في غمضة عين وأنا بين مصدق ومكذب). كان هاتفه مشغولاً. حاولت هاتف إبنه الأكبر نمر. كان مشغولاً أيضاً.. حاولت هاتف اخي يحي..لا فائدة.. وأنا جالس لا أقوى على القيام منتظراً أن يصلني هاتف بالسودان. وفجأة يرن هاتفي المحمول. كان على الطرف الآخر (المرحوم الحي) أخي علي جمّاع. أعرف صوته جيداً..ذلك الصوت المليء بالحكمة والثقة والإيمان. كنت لحظتها قد تمنيت البكاء ولم أقدر !!
صعبة جداً هي الحياة بعيداً عن الوطن والأهل والأحباب .. وقاسية هي الغربة وأنت تعود إليها بعد شهور متجولاً في شوارع وأزقة عاصمة بلادك .. في وطن ينزف بفعل الخناجر التي يسددها في ظهره بعض بنيه والعدو الذي يبحث عن كل سانحة لينقض عليه. وتكون الغربة قاسية كلسعة النار إذ يهجم عليك خبر موت أحد أقرب الأقربين إليك وقد ودعته أول البارحة عند الباب............لكننا نحمد الله أن خبر الموت كان كاذباً !!
عفواً على التداعي بين العام والخاص. تشير الساعة وأنا أتي على خاتمة هذه الخاطرة إلى الثالثة إلا الربع صباحاً بتوقيت السودان (الواحدة إلا الربع صباحاً بتوقيت بريطانيا الشتوي). أعرف أننا فقدنا شباباً في عمر بواكير الورد.. خطف القتلة شبابهم. أحزنني ذلك كثيراً. صحيح أنني تخطيت بعض قساوة الصدمة بالنبأ الكاذب لموت عميد أسرتنا أخي علي جماع، ولله الحمد .. لكني حزين ما زلت لأني لا أملك غير دمعي وقلمي!
فضيلي جمّاع – لندن
صباح 31 ديسمبر 2021
fjamma16@yahoo.com
/////////////////////////////
//////////////////////////
عدت ظهر أمس الأول إلى عاصمة الضباب – لندن، بعد أن قضيت ثلاثة أشهر ونيف في الوطن – السودان. عدت لأواصل مع ملايين السودانيين في المنافي اغتراباً صار حالة من الهروب للمنفى self-imposed exile. أشهد أنني عشت الشهور الثلاثة وما تبعها من أيام في عاصمة بلادي – الخرطوم ، رغم إنني كنت أمنّي النفس برحلة للوطن الأصغر كردفان ، وبتلبية دعوات من أصدقاء في حلفا الجديدة وفي مدني السني وبعض قرى الجزيرة الخضراء.. الجزيرة التي أنجبت مدثر البوشي (مؤتمر الخريجين) والشاعر المسّاح وإبراهيم الكاشف والشاعر الدكتور محمد عبد الحي ..وكفى. تمنّيت ، لكنّ ما معنى أن تتمنّى السياحة في وطنٍ عدت لتسهم في مسح دموعه ، ولتحلم في أمسياته وصباحاته بمستقبلٍ يخرج من هتافات مئات الآلاف الذين تكتظ بهم الشوارع: حرية ، سلام وعدالة .. لكنك بدلاً من أن تحلم بالمستقبل الباهر لوطنك ترى الخناجر تنهال عليه من بعض أسوأ بنيه ومن جيرانه الذين ظللنا نناديهم – يا لسذاجتنا – بالأشقاء !
عدت – بعد أن مكثت هذه المرة قرابة الأربعة أشهر - وبي غصة. كنت شاهد إثبات إبان تلك الفترة على أحداث جسام ، ما زالت ماكينة صناعتها تدور. رأيت قتلة عصفور الوطن الغريد يتبادلون النخب أمام عيني: عسكراً + حرامية، ودولاً تتجول استخباراتها في كل ركنٍ من بلادنا ، وقد حقّ لهم. فالبلد الذي يتبادل بنوه الشتائم والإتهامات بالتخوين فوق ما تبقى من جسده النازف ، يجد أعداؤه كل مسوّغ للمشي فوق جسده بل وانتظار الفرصة السانحة ليقتسموا الغنائم في خيمة فرح ينصبونها في قلب البلاد. ولاة ساعة مندم يومذاك لأدعياء الوطنية والصعاليك من الأفندية والساسة حملة الأفكار الفطير.
عدت ظهر أمس الأول إلى أسرتي الصغيرة في لندن كما أسلفت لأستجم قليلاً من هموم وطنٍ أدعي بأني أحبه بكل كياني ، إذ ماذا أعني في هذه الحياة بدون عنوان كبير اسمه الوطن؟ ولأنّ الشهور الثلاثة وبضعة أيام لم تكن نزهة ، فقد حاولت أن آخذ يوم أمس كله بين الأنس مع العائلة والتمدد على السرير لآخذ أكبر قسط من الراحة، فقد نصحتني طبية شابة قبل عودتي أن أكثر من الراحة وهي تعالجني في آخر أسبوعين من داء الملاريا الذي تبعته حمى التايفويد. وبينما أنا في شبه غفوة إذا بإبني محمد يدخل الغرفة وهو يكفكف دمعه معتذراً بأنه يحمل لي أسوأ خبر من السودان..ويكمل بالإنجليزية التي صارت لغته الأولى: بلغنا الآن أن عمي علي توفي! نهضت وأنا أستغفر الله وأحمده على كل حال. قمت إلى ولدي الباكي لأجلسه قربي وأنا بين أن أصدّق أنني في كابوس أم أنها حقيقة الموت التي تنتظرنا أجمعين! قمت وقام معي لتقابلني أمه عند الباب وهي شبه منهارة من صدمة الخبر المفاجيء. ثم جاءت بنتي شيراز وزوجها وطفلاهما في ذات اللحظة لزيارتنا ، ليتحول البيت إلى ليل من الحزن والدموع. أشهد أنني كنت في حالة لا أتمناها لعدوي ! كنت أبحث عن دمعة تريحني ، ولكني في غربة المكان أمسح دمع هذا وهذه ، وأجلس لأضع على حجري ياسين وياسمين (طفلي شيراز بنتي). ولأتذكر كيف خرج معي أخي علي إلى الباب بصرامة الأخ الأكبر – وأنا أعلم أنه متألم لسفري: سلم على آسيا والشباب.. وبينا تلفونات! وأقف – لست أدري ماذا أفعل ، ثم إعيد الإستغفار.
وبينا نحن في ذلك الظرف القاسي والقاسي جداً..يصلنا هاتف بالنفي لوفاة الشقيق على جماع، وأنّ النبأ مجرد شائعة مغرضة! وتتحول دموع البكاء إلى دموع الفرح.. إلاي. بقيت جالساً. أو بالأصح غلبني النهوض. طلبت هاتفي وأنا أعالج الخط على رقم علي جماع-(أخي الميت الذي عاد لي في غمضة عين وأنا بين مصدق ومكذب). كان هاتفه مشغولاً. حاولت هاتف إبنه الأكبر نمر. كان مشغولاً أيضاً.. حاولت هاتف اخي يحي..لا فائدة.. وأنا جالس لا أقوى على القيام منتظراً أن يصلني هاتف بالسودان. وفجأة يرن هاتفي المحمول. كان على الطرف الآخر (المرحوم الحي) أخي علي جمّاع. أعرف صوته جيداً..ذلك الصوت المليء بالحكمة والثقة والإيمان. كنت لحظتها قد تمنيت البكاء ولم أقدر !!
صعبة جداً هي الحياة بعيداً عن الوطن والأهل والأحباب .. وقاسية هي الغربة وأنت تعود إليها بعد شهور متجولاً في شوارع وأزقة عاصمة بلادك .. في وطن ينزف بفعل الخناجر التي يسددها في ظهره بعض بنيه والعدو الذي يبحث عن كل سانحة لينقض عليه. وتكون الغربة قاسية كلسعة النار إذ يهجم عليك خبر موت أحد أقرب الأقربين إليك وقد ودعته أول البارحة عند الباب............لكننا نحمد الله أن خبر الموت كان كاذباً !!
عفواً على التداعي بين العام والخاص. تشير الساعة وأنا أتي على خاتمة هذه الخاطرة إلى الثالثة إلا الربع صباحاً بتوقيت السودان (الواحدة إلا الربع صباحاً بتوقيت بريطانيا الشتوي). أعرف أننا فقدنا شباباً في عمر بواكير الورد.. خطف القتلة شبابهم. أحزنني ذلك كثيراً. صحيح أنني تخطيت بعض قساوة الصدمة بالنبأ الكاذب لموت عميد أسرتنا أخي علي جماع، ولله الحمد .. لكني حزين ما زلت لأني لا أملك غير دمعي وقلمي!
فضيلي جمّاع – لندن
صباح 31 ديسمبر 2021
fjamma16@yahoo.com
/////////////////////////////
//////////////////////////