يَعْسُوب المهاجرين في ألمانيا: قراءة في كتاب أوراق طبيب سوداني مقيم ببرلين للدكتور حامد فضل الله
عبدالله الفكي البشير
25 February, 2023
25 February, 2023
يَعْسُوب المهاجرين في ألمانيا
قراءة في كتاب أوراق طبيب سوداني مقيم ببرلين للدكتور حامد فضل الله
حامد فضل الله، أوراق طبيب سوداني مقيم ببرلين: ذكريات وقصص ووجوه وقضايا فكرية وأدبية، ط1، دار المصورات، الخرطوم، 2021 (382 صفحة من القطع المتوسط)
(1- 2)
بقلم الدكتور عبد الله الفكي البشير
abdallaelbashir@gmail.com
يُجسّد مؤلف هذا الكتاب، بما ظل يقدمه من أعمال متعددة ومستمرة، نموذج المواطن والمثقف الكوكبي الذي جمع بين صفتين اتصلتا بمفهوم العمل وقيمته، تخسر الإنسانية كثيراً إذا ما انحسرتا أو تكلستا عند المثقفين. تحدث عن إحدى الصفتين المفكر السوداني محمود محمد طه (1909- 1985). وأشار للثانية المفكر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد (1935- 2003). فقد كتب سعيد، قائلاً: حينما يكون الناس في مرحلة الدراسة بالجامعات والمدارس فهناك معايير للتقييم يتم من خلالها الوقوف على مستويات الأداء والنجاح والذكاء... إلخ، ويمكن تحديد من هو العبقري. ولكن بعد اكمال فترة الدراسة ودخول الناس إلى سوق العمل، ويكون هناك المعلم والمهندس والطبيب والنجار والحداد... إلخ، وكل منهم في مجاله، فما هو المشترك بينهم الذي من خلاله يمكننا التقييم حتى نعرف من هو العبقري؟ أجاب سعيد، قائلاً: "العبقري هو من يعمل". أما محمود محمد طه صاحب الفهم الجديد للإسلام، الذي أعدم في الخرطوم في 18 يناير 1985 بموجب مؤامرة خبيثة قادها تحالف ديني عريض ، من السودان ومصر والسعودية، وغيرها، فهو يرى أن "الحر هو من يعمل"، وعنده "أي علم لا يستتبع العمل فهو علم ناقص" . ويتضح تعريف طه للحر ونقيضه وهو العبد عند حديثه عن دور الديمقراطية في إنجاب الأحرار، فقد كتب طه، قائلاً: "إن الديمقراطية هي وسيلة لإنجاب الأحرار من العبيد، والفوضويين، وهي صنو الاشتراكية، ولا خير في أيهما من غير الأخرى. فإن الاشتراكية إذا طبقت تحت حكم دكتاتوري لا تربى غير العبيد، وإذا ما حاولنا تطبيق الديمقراطية تحت نظام اقتصادي متخلف، وهو النظام الرأسمالي في أي صورة شئت، فإنها تكون قبض الريح، ومجرد لعب على العقول" . وتعريف العبد، عند طه، هو الذي يترك حرية عمل ما يريد خوف المسئولية التي تترتب على الخطأ، وأما الفوضوي فهو الذي يحب أن يعمل ما يريد، ولكنه عند الخطأ يحاول جاهداً أن يخدع القانون ويتهرب من تحمل مسؤولية عمله، وأما الفرد الحر فهو الذي يعمل، يعمل ما يريد ويتحمل مسؤولية عمله .
الحر هو من يعمل.. العبقري هو من يعمل
ستون عاماً في خدمة الإنسان والسودان وألمانيا
ظل حامد فضل الله مؤلف هذا الكتاب، يعمل على مدى ستين عاماً بجد والتزام واستمرار، وفي مجالات متعددة وبأساليب مختلفة. فقد فرغ من دراسة الطب عام 1964 بألمانيا، التي وصلها أول مرة في أكتوبر 1957. ثم أنفق (45) عاماً في مجال الطب، فهو الطبيب الذي يداوم من السابعة صباحاً وحتى الثامنة مساءً، كان نصيب وطنه السودان منها تسع سنوات، والبقية في وطنه الثاني ألمانيا، بمعية زوجته السيدة/ برجته فيبر Brigitte Weber، التي أصبحت برجته فضل الله، الألمانية الأصل، والتي اقترن بها عام 1962، وأنجبا نادية، وطارق، ومريم. كما درج حامد على نشر المقالات في شؤون السودان وألمانيا، وقضايا الفكر الإسلامي، والاستشراق الألماني، وإشكاليات اندماج المسلمين في المجتمع الألماني، والمسلمين في أوروبا، والقضايا الأدبية، إلى جانب كتابة التراجم والتعريف بمن التقى من المفكرين والأدباء الألمان والعرب والسودانيين. وأصدر بعض الكتب، منها: أحاديث برلينية: حول قضايا أوروبا والإسلام وفي الأدب والفكر، (2013) ؛ وحرر بعض الندوات والأعمال في كتب، منها: الطيب صالح: جسر بين الشرق والغرب ؛ و السودان والوحدة في التنوع للدكتور عبدالغفار محمد أحمد، (2022). وشارك في بعض الكتب، حيث قام بالشراكة مع آخرين بإصدار كتاب باللغة الألمانية بعنوان: كتابات سودانية: قصص قصيرة ومقالات، (2022). وقد وصفت البروفيسور أنجليكا نويفرت Angelika Neuwirth، مديرة معهد الدراسات العربية، سابقاً، بجامعة برلين الحرة والمديرة السابقة لمعهد الشرق التابع للجمعية الشرقية الألمانية في بيروت وأسطنبول، الكتاب في تقديمها له، قائلة: "يقدم لنا الكتاب الذي يكتسب قيمة إضافية من خلال رسومات حسن موسى، نظرة صادقة إلى عالم حياة وعالم فكر العديد من المفكرين السودانيين في ألمانيا، وهو يشع سلاسة بلا تكلف، ولا يبحث عن مناطق الاختلاف، كما أنه لا يقدم للقارئ الألماني صورة مقلوبة لـ "الغريب"، أما أسلوبه فيمكن القول إنه يتأرجح ما بين النمط الألماني والنمط السوداني". وخلصت، قائلة: "إن الكتاب يستحق الاعتبار كمرآة للمجتمع الألماني"، (ص 126). فضلاً عن أن حامد قاص كتب القصة القصيرة، ونشر العديد منها. علقت البروفيسور أنجليكا نويفرت على قصص حامد، قائلة: "وأما القاص، حامد فضل الله، اختصاصي أمراض النساء والتوليد المقيم في برلين. فيكشف عن نظرته كغريب بأسلوب غير مباشر من خلال رؤية نفسانية تسلط الضوء على (الآخر) في الشخصية الألمانية، فهو يركز على خصائص (الآخر) وعلى الحياة العاطفية (الأخرى) المعقدة للنساء الغريبات، مقارنة بوطنه الأم". وقدم الدكتور صبري حافظ، قراءة ، قائلاً: "يقدم القاص السوداني، حامد فضل الله، في لقطات رشيقة طبيعة تعامل المواطن الألماني في الحياة اليومية مع الأجنبي عارضاً نماذج مختلفة، ليعطينا صورة مكثفة ودقيقة عن نظرة الأوروبي للأجنبي.. في قصصه القصيرة يمتزج الشجن والحزن الشفيف، بهموم الذكريات وأوجاع الغربة".
لم تنحصر الطاقة الإبداعية عند حامد في القصة، وإنما كان مترجماً متميزاً، ترجم العديد من الأعمال من اللغة الألمانية إلى العربية وبالعكس. فقد ترجم، على سبيل المثال، لا الحصر، كتاب الرحالة الألماني إدواراد روبيل، رحلات في شمال السودان وكردفان وشبه جزيرة سيناء وساحل الحجاز، فرانكفورت، 1829، من الألمانية إلى العربية بالاشتراك مع السيدة فادية فضة، وقد وجدت الترجمة من المتخصصين الألمان الإعجاب والاحتفاء والاحترام. فقد وصفها البروفيسور أودو شتاينباخ Udo Steinbach، المدير السابق لمعهد الشرق في هامبورج، ترجمة الكتاب، قائلاً: "تعتبر هذه الترجمة هدية للسودانيين وشرف للرحالة والعالم الألماني"، (ص 299). كما كتب البروفيسور كورت بيك Prof. Kurt Beck، أستاذ الأنثروبولوجيا، جامعة باي رويت، ألمانيا، رسالة إلى حامد، قائلاً: "ما زلت أسمع عنك باستمرار، لكنني لا أعتقد أنني قابلتك من قبل. لقد أخرجت عنوانك البريدي الإلكتروني من الإنترنت. أردت فقط أن أعبر عن احترامي لترجمتك الرائعة لكتاب الرحالة إدوارد روبيل، والتي قمت بمراجعتها مؤخراً، نرفع القبعة لك!".
كما ترجم حامد مقالاً بعنوان: "القرآن جزءاً من أوروبا" للأستاذة أنجليكا نويفرت، وضمنها كتابه هذا (صفحات 156- 160)، وغيرها. كما لخص وترجم العديد من البحوث والأوراق العلمية، منها على سبيل المثال، لا الحصر، بحث للأكاديمي الشاب هاينر بيلافيلد Heiner Bielefedt بعنوان: إشكالية العلمانية: المسلمون في دولة القانون العلمانية، (ورد في الصفحات 127- 140). وبحث للبروفيسور كرستيان ترول Christian Troll، الأستاذ السابق في كلية الفلسفة واللاهوت في فرانكفورت، وفي المؤسسات الإسلامية التابعة للمعهد البابوي بروما سابقاً، وكان البحث بعنوان: الفكر التقدمي في الإسلام المعاصر: نظرة نقدية. وقد ضمن حامد ملخصه في كتابه هذا (ورد في الصفحات 141- 155). كما ترجم العديد من المقالات والأعمال الخادمة للعلاقات الألمانية السودانية. لقد قدم حامد إسهاماً عظيماً في تجسير التواصل بين الثقافة الألمانية والثقافات السودانية والثقافة العربية الإسلامية، سواء من خلال الترجمة، أو الكتابة، أو تأسيس منظمات المجتمع المدني، ومنابر الحوار.
لقد أسس حامد برفقة أصدقائه وزملائه، العديد من منظمات المجتمع المدني، وكذلك منابر الحوار. وظل يعمل على إحيائها لخدمة أهدافها الاجتماعية والثقافية والإنسانية، وتغذيتها باستضافة الرموز الألمانية والسودانية والعربية، للتداول والتفاكر حول قضايا حية وحيوية في الفضاءات الألمانية والأوروبية والعربية والإسلامية والسودانية والأفريقية. كان من بين تلك المؤسسات: مؤسسة ابن رشد للفكر الحر، ومنظمة حقوق الإنسان في الدول العربية بألمانيا، ومنتدى حوار الشرق والغرب، ومركز علاج ضحايا التعذيب في برلين، الذي افتتح في يناير 1992 وكان بالتعاون مع مجموعة من الأطباء العرب والألمان. وكذلك الملتقى العربي للفكر والحوار. لقد أسهمت هذه المؤسسات، ولا تزال، بدور كبير في خدمة المجتمع والإنسان، وتنمية الوعي، وإتاحة الفرصة للحوار وتصاهل الأفكار. وفوق ذلك فإن حامد كان يقوم بواجبات كبيرة ومعينة للدارسين والوافدين على ألمانيا من السودانيين والعرب. فقد شهد صديقه عثمان حمد في رسالة جاءت في صفحة (84) من هذا الكتاب، فكتب، قائلاً: "والتقينا في برلين، طبيب الاختصاص، بخبرة السودان وألمانيا.. يزاول مهنته بتفان ويسهم في شؤون الدارسين والعاملين بالكتابة والتنظيم، فضلاً عن المساهمة الفكرية في المجموعة العربية والألمانية".
يضاف إلى ذلك، القيام بواجبات إنسانية متنوعة، فلقد شاع، ليس بين السودانيين فحسب، وإنما في المجتمع العربي الألماني، أمر خدمات حامد الإنسانية للمقيمين والوافدين. ومن القصص المعبرة، على سبيل المثال، لا الحصر، عن ذلك، قصة شاب ألماني كان قد ذهب إلى السفارة السودانية يبحث عن والده السوداني، كما حكى حامد (ص 68). التقي الشاب في السفارة السودانية بالملحق الثقافي، وروى له قصة انفصال والده عن والدته الألمانية، وهو في سن الطفولة، وأطلعه على اسم والده. رد الملحق الثقافي بأن السفارة لا تعرف هذا الاسم. خرج الشاب من السفارة، يعتصره الأسى، ويمضغ المرارة في صمت. وفي طريق عودته بالقطار إلى مدينة هامبورج، كان يجلس بجواره رجل، تبادل معه التحايا، وعرف بأنه اسمه على زيدان. وبعد أن اطمأن له، حكى له الشاب قصته، وذكر له بأن الملحق الثقافي في السفارة السودانية، لم يبذل أي جهد، ولم يقدم وعداً بالتحري عن والده، وانتابه شعور بأنه يريد التخلص منه بسرعة. فرد علي زيدان بأنه لا يعرف شخصياً هذا الاسم، وأضاف، قائلاً: ولكني "سوف أدلك على شخص في برلين، وأنا متأكد أنه سوف يُساعدك"، وسلمه رقم هاتف حامد. كان علي زيدان من الإخوة الليبيين، ومن أصدقاء حامد، وقد أصبح أحد رؤساء الوزراء في ليبيا بعد سقوط نظام معمر القذافي. هاتف الشاب حامد، وروى له القصة، وعبر عن رغبته الشديدة في اللقاء بحامد، فكانت رغبة الشاب موضع ترحيب واحتفاء. صور حامد لقائه بالشاب، فكتب، قائلاً: "حضر الشاب مع صديقته الشابة في نهاية الأسبوع، ولم أطلعه على المفاجأة، إلا بعد أن تم الاتصال بوالده تلفونياً، الذي كان في انتظار المحادثة، التي تم الترتيب لها مسبقاً. كان الشاب يتحدث مع والده بصوتٍ تمتزج نبراته بين الفرح والحزن، بينما كانت صديقته تضغط على يده اليسرى بحنان. ولتفادي تعقيدات فيزا الدخول إلى بلدان الخليج، [حيث كان الوالد يقيم]، تم اللقاء بعد أسبوعين في القاهرة، ومن ثم ترتيب اللقاءات المتبادلة في المستقبل" (ص 68- 69).
ليس قبول الآخر وإنما الخروج من الذات لمعانقة الآخر
"من يحترم (يصون) نفسه يرى أيضاً وجهه في كينونة الآخر"
لا جدال في أن الحياة الديمقراطية في ألمانيا كان لها دور كبير في خلق المناخ المواتي لحامد والمعين للعمل وممارسة الحرية، غير أنه، ومن المؤكد، لم يكن خالي الوفاض. لقد وصل حامد ألمانيا حاملاً للمخزون الإنساني والاستعداد والقابلية للتفاعل مع البيئة الألمانية، كونه سليل بيئة تعدد ثقافي أصيل وقديم في السودان. ظل إنسان هذه البيئة يُعبر عن أصالته ليس بقبول الآخر فحسب، وإنما بالخروج من الذات لمعانقة الآخر. وهذا ما عبَّر عنه أودو دي فابيو Udo diFabio القاضي بالمحكمة الدستورية الألمانية في كتابه: ثقافة الحرية، كما أورد حامد، كتب فابيو، قائلاً: "من يحترم (يصون) نفسه يرى أيضاً وجهه في كينونة الآخر" (ص 112). بيد أن أنظمة الحكم الديكتاتورية في السودان، نجحت في التشويه، وتجفيف الحياة من الحرية، كما خنقت الإبداع، ووأدت أحلام الأخلاقيين الأحرار. ومع ذلك فإن الأشياء في السودان، بحكم قِدمه وعبقرية أرضه وعمار سجله الحضاري، وكما قال الطيب صالح، مهما لحقها من دمار، فهي "بِتْبَتِق"، أي ستخضر من جديد. كما أن الحر لا ينسى حريته، والسودان مع صباح كل يوم ينجب في الأحرار، غير أن الحر لا يربى بالإكراه والعصا، كما هو نهج الأنظمة الديكتاتورية، وإنما يربى، كما يقول محمود محمد طه، بالحرية وباحترام عقله وإنسانيته. لقد احترمت ألمانيا عقل حامد وإنسانيته ومنحته الحرية، فعبَّر هو عن وفائه لألمانيا وإنسانها عبْر العمل والعطاء الإنساني المستمر، مع تجسيده لقيمها، والتزامه التام بدستورها، فكان بحق يَعْسُوب المهاجرين في ألمانيا.
من تعدد الهويات إلى الهُوية الإنسانية
تهيكل الكتاب في ستة أبواب إلى جانب ملحق الصور. جاء الباب الأول بعنوان: من حقيبة الذكريات، وتناول الباب الثاني: قضايا فكرية وأدبية، وخصص الباب الثالث للحديث عن: عرب وألمان عرفتهم، واستعرض الباب الرابع: حكاوي ومواقف، وقدم الباب الخامس تعريفاً بشخصيات سودانية في الخاطر، واشتمل الباب السادس على قصص قصيرة. إن هذا الكتاب، إذا ما حاولنا تصنيفه ضمن الحقول العلمية، فهو يُعبر عن تعدد الهويات عند حامد، غير أنها هويات متصالحة ومتطورة. فقد جمع الكتاب ألواناً شتى من الفنون والعلوم، حيث المذكرات والسير الذاتية، والتاريخ الفكري، وتاريخ الأفكار، أو تاريخ الذهنيات أو العقليات، والتاريخ الثقافي، والتراجم للمفكرين والأدباء من الألمان والعرب والأفارقة والسودانيين، فتجد من مصر: طه حسين، سمير أمين، ومحمود أمين العالم، وصبري حافظ، ونصر حامد أبو زيد، وصنع الله إبراهيم، وسيد البحراوي، وأحمد عزالدين. ومن فلسطين: إدوارد سعيد، ومحمد محمود شاويش. ومن العراق: الشاعر صبري هاشم، وأستاذ الاقتصاد وصديق العمر كاظم حبيب، وغيرهم. ومن ألمانيا: أودو شتاينباخ Udo Steinbach ، وأنجليكا نويفرت Angelika Neuwirth ، وهاينر بيلافيلد Heiner Bielefeldt ، وأنيتا فيبر Anetta Weber ، وكرستيان ترول Christian Troll ، وغيرهم. ومن السودان تجد محمود محمد طه، وحسن الطاهر زروق، حسن عبد الوهاب، والطيب صالح، ومحمد محمود، حيدر إبراهيم، وعبد السلام نورالدين، وصلاح أحمد إبراهيم، وفاطمة أحمد إبراهيم، وصديق الزيلعي، وبهاء الدين حنفي، وكمال حنفي، وخالد موسى دفع الله، أحمد إبراهيم أبو شوك، خالد محمد فرح، وعبد المنعم عجب الفيا، وهجو علي هجو وغيرهم. كما يصب الكتاب في مجال العلاقات السودانية الألمانية، وكذلك العلاقات الثقافية، ويقدم إضاءات حول مؤسسات المجتمع المدني العربي الألماني، ويناقش مسائل اندماج المسلمين في المجتمع الألماني والأوروبي، إلى جانب قضايا الفكر الإسلامي المعاصر، فضلاً عن القصص القصيرة التي تنطوي بدورها على موضوعات مختلفة وتعالج قضايا متعددة.
يُعبّر هذا التنوع في موضوعات الكتاب عن ملامح حامد ذو الهويات المتعددة، فهو الطبيب والأديب السوداني والأفريقي والعربي والمسلم والألماني، غير أنها هويات ظلت متصالحة، مما مهد الطريق لتطورها في بيئة حامد الداخلية، في وجهة الهوية الإنسانية. وهذا ما يمكن أن يلاحظه القارئ للكتاب أو المتتبع لسيرة حامد، لنقف أمام مثقف ومواطن كوكبي حر ومسؤول، ظل مشغولاً بالتزامه الإنساني، وبالتصالح مع نفسه وبيئاته الألمانية والسودانية والإنسانية، فتجلى ذلك في عمله الجاد والمتعدد والمستمر في سبيل خدمة الإنسان، والسعي للإسهام في أنسنة الحياة.
انشغل حامد ضمن انشغالات أخرى في كتابه هذا، وفي كتابات غيره، بقضية اليوم، وهي قضية التصالح والاندماج التي تواجه المسلمين في المجتمعات الغربية التي يعيشون فيها، وبالطبع كان وطنه ألمانيا موضع همه وانشغاله. درس حامد قضايا اندماج المسلمين في المجتمع الألماني، وضمَّن كتابه هذا بحثاً بعنوان: "المسلمون والعرب وإشكالية الاندماج في المجتمع الألماني ودور النخب العربية"، (الصفحات 93- 116). قدم فيه احصائيات وأرقام وتحليل عميق، وتتبع الهجرة العربية إلى ألمانيا، وأشار إلى بدايتها البطيئة منذ أوائل الستينات، ونموها في السبعينات والثمانيات من القرن الماضي، وفصل في ذلك. كما تناول في بحثه تطور السياسة الألمانية والموقف من الأجانب، وصورة الإسلام عند بعض الكتاب العرب والألمان، وناقش قضية الاندماج والألمنة وتعبير الثقافة القائدة، الذي يعود، كما أشار حامد، إلى أستاذ العلوم السياسية بسام طيبي، من أصل سوري، والذي وصف به "الثقافة الأوروبية بالقائدة"، معتمداً في ذلك على قيم الإجماع للديمقراطية الغربية. وأستعرض حامد آراء وأحاديث بعض المفكرين الألمان عن قضايا الاندماج والحرية الثقافية والألمنة. وتحدث بعضهم عن تعبير الثقافة القائدة، وكان من هؤلاء على سبيل المثال، لا الحصر، أرنولف بارنج Arnulf Bering أستاذ التاريخ المعاصر والعلاقات الدولية، سابقاً، في جامعة برلين الحرة، الذي يقول: "ليس المطلوب هو الاندماج وإنما الألمنة". وكذلك الكاتب رالف جوردانو Ralph Giordano الذي يقول: "ليس المسجد وإنما الإسلام هو المشكلة. ويتساءل: ماذا نعرف عن عمل ومهام المهاجرين ذوي التوجه الأصولي الإسلامي (الإسلاموي) العالمي داخل المنظمات العديدة التي لا يمكن حصرها؟ وكيف يمكن تصديق الاعتراف بمبادئ وأسس الديمقراطية العلمانية؟ مستخدماً مدلول التقية إجمالياً وحرفياً بصورة وخيمة عندما يزعم بأن التقية أذن ديني صريح يسمح بالتضليل والاحتيال والنفاق في الجدل والحوار مع غير المسلمين". هذه الأحاديث والهواجس، لها ما يبررها، فهي تُعبر عن إنكواء العالم بنار الأصولية الإسلامية، ولم تسلم ألمانيا منها، فقد فقدت الكثير من اليافعين من أبنائها، في حروب داعش العبثية واللا أخلاقية واللا إنسانية. وتعبر هذه الأحاديث كذلك عن أزمة عالمية حقيقة، وليست ألمانية فقط، والمحور المركزي في هذه الأزمة، هو حاجة المسلمين إلى فهم جديد للإسلام، يستطيعون من خلاله التصالح والتعايش والمواكبة للبيئة الإنسانية الجديدة، كما سيرد بعض التفصيل.
وأضاف حامد بأن هناك شخصيات متميزة تدعو من موقعها الاجتماعي ومن منطلقاتها الفكرية ومسئوليتها الأخلاقية والأدبية إلى انفتاح عقلاني على الآخر واندماج متبادل فذكر من هؤلاء: السيدة يوتا لمباخ Jutta Limbach الرئيسة السابقة للمحكمة الدستورية الألمانية، ورئيسة معهد جوتة، حالياً، فهي تقول: "علينا إبعاد مفهوم الثقافة القائدة عن التداول لارتباط معناه بالتعالي القومي الذي يقف في سبيل أي نقاش غير متحيز. وكذلك أفضل نوايا مستخدميه لا يستطيعون تحريره من الاتهام بتعارضه وإقصائه للثقافات الأخرى". وكذلك الكاتب والناشر نافيد كرماني Navid Kermani، وهو ألماني من أصل إيراني، يقول: "الجميع سواسية أمام القانون ولكن ليس كذلك في حالة الثقافة القائدة". كذلك يقول الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني المعاصر يورغن هابرماس Jürgen Habermas: "إن أطفال وأحفاد المهاجرين الأوائل الذين هم جزءاً منا منذ زمن طويل، وبما أنهم في الواقع ليسوا كذلك، فإنهم يشكلون تحدياً للمجتمع المدني وليس لوزير الداخلية، إن الأمر يتعلق بالذين ينتمون إلى ثقافات وجماعات دينية مغايرة من أجل احترام اختلافهم المعرفي وفي الوقت عينه ان يشملهم تضامن دولة المواطنة". وهذا قول يؤكده الواقع، خاصة بالنسبة لأبناء المسلمين، فإنهم يمثلون تحدياً حقيقياً للمجتمع الألماني والأوروبي، كونهم جيل جديد ورث فهماً إسلامياً متخلفاً، ويعيش في بيئة إنسانية جديدة. يجب الاحتراز هنا، فإن التخلف يعود لفهم الإسلام وليس للإسلام. وأيضاً أتي حامد بحديث الرئيس الألماني الراحل يوهانز راو ـJohannes Rau (1931- 2006)، الذي تحدث عن مفهوم الاندماج، قائلاً: "الاندماج هو التجديد للقيم المشتركة التي تربط الجميع. الذي يريد أن يبقى على الدوام في ألمانيا لا يحتاج أن يتنكر لأصله، ولكن يجب أن يكون على استعداد أن يشارك في تشكيل المجتمع المفتوح متخذاً الدستور نموذجاً لذلك، كذلك من أجل تطوير شعور الـ "نحن" (wir Gefühl) الذي يؤدي إلى ربط وتوثيق الأواصر بين الأغلبية والأقلية". من الواضح أن هناك حالة بحث عما يجمع الناس على الرغم من اختلافاتهم.
وفي واقع الأمر أن معطيات البيئة الإنسانية الجديدة والمتجددة مع كل يوم، حيث الحياة الرقمية، ووحدة المصير المشترك، ووحدة المصالح المتقاطعة، ووحدة الشعور، وضعت الثقافات والأفكار، والأطروحات الفكرية على اختلافها، والأديان، خاصة الإسلام، في تحدي حقيقي. إذ كيف السبيل للتحرر من انتماءات الأطر الضيقة والانتقال إلى مصاف الانتماء الإنساني؟ وكيف يمكن التأسيس للهوية الإنسانية والحوار الإنساني والخطاب الإنساني، العابر للثقافات والجغرافيا، والمتجاوز للأحلام قصيرة المدى والنظر؟ وفي تقديري أن كل المشكلات المتعلقة بالإسلام والتي عبر عنها الأساتذة الألمان آنفاً، مشاكل واقعية وصحيحة، ولا يمكن الوصول إلى حلول لها عبر الفهم السائد للإسلام، إذ كيف يمكننا معالجة قضية الشريعة الإسلامية والحرية؟ وكيف يتم الاحتكام للشريعة الإسلامية في ظل البيئة الإنسانية الجديدة؟ وكيف يمكن أن ينتقل فهم المسلم الألماني والأوروبي، والمسلم حيثما كان، لا سيما الشباب، من فهم الإسلام الداعي للموت في سبيل الله، إلى فهم الإسلام، كما يطرحه طه صاحب الفهم الجديد للإسلام، الداعي إلى الحياة في سبيل الله والإنسانية؟ ولعل حديث يوهانز راو عن التجديد للقيم المشتركة التي تربط الجميع، يتفق مع ما يقول به طه، الذي يدعو، انطلاقاً من القرآن في مستوى آيات الأصول (الآيات المكية)، إلى القيم والأصول الإنسانية التي تجمع بين الناس، وحتى تكون المساواة بين الناس في الملل المختلفة، المسيحي والمسلم والبوذي والوثني والملحد... إلخ. جميعهم يجب أن يكونوا متساوين، في الحقوق الوطنية، وجميعهم يدعون لأفكارهم وقناعاتهم بالأساليب الديمقراطية. وتكون المفاضلة بين الناس بالعقل والأخلاق، وليس بالدين أو العنصر أو اللغة أو اللون أو الجنس . كما يدعو طه إلى الدستور الإنساني الذي، كما يقول: "يجب أن يقوم على الأصول التي يلتقي فيها الناس وهي أصول الإنسانية" . وفي هذا الدستور، وهو الدستور الإنساني، الذي يسعى لإقامة الحكومة الإنسانية، "لا يسأل الإنسان عن عقيدته، وإنما يسأل عن صفاء الفكر، وإحسان العمل" . والفكرة المركزية عند طه هي تطوير الشريعة الإسلامية، فهو يرى بأنه لا يمكن الحديث عن المساواة السياسية (الديمقراطية)، والمساواة الاقتصادية (الاشتراكية)، والمساواة الاجتماعية، في الإسلام، من غير أن نتحدث عن تطوير الشريعة الإسلامية. ذلك لأن الشريعة الحاضرة لا تستطيع مواجهة تحديات العصر ومطالب الإنسان المعاصر. ويكون تطوير الشريعة الإسلامية، عند طه، من داخل القرآن. وهناك تفصيل كثير في هذا، غير أن المجال لا يسع للتفصيل.
abdallaelbashir@gmail.com
قراءة في كتاب أوراق طبيب سوداني مقيم ببرلين للدكتور حامد فضل الله
حامد فضل الله، أوراق طبيب سوداني مقيم ببرلين: ذكريات وقصص ووجوه وقضايا فكرية وأدبية، ط1، دار المصورات، الخرطوم، 2021 (382 صفحة من القطع المتوسط)
(1- 2)
بقلم الدكتور عبد الله الفكي البشير
abdallaelbashir@gmail.com
يُجسّد مؤلف هذا الكتاب، بما ظل يقدمه من أعمال متعددة ومستمرة، نموذج المواطن والمثقف الكوكبي الذي جمع بين صفتين اتصلتا بمفهوم العمل وقيمته، تخسر الإنسانية كثيراً إذا ما انحسرتا أو تكلستا عند المثقفين. تحدث عن إحدى الصفتين المفكر السوداني محمود محمد طه (1909- 1985). وأشار للثانية المفكر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد (1935- 2003). فقد كتب سعيد، قائلاً: حينما يكون الناس في مرحلة الدراسة بالجامعات والمدارس فهناك معايير للتقييم يتم من خلالها الوقوف على مستويات الأداء والنجاح والذكاء... إلخ، ويمكن تحديد من هو العبقري. ولكن بعد اكمال فترة الدراسة ودخول الناس إلى سوق العمل، ويكون هناك المعلم والمهندس والطبيب والنجار والحداد... إلخ، وكل منهم في مجاله، فما هو المشترك بينهم الذي من خلاله يمكننا التقييم حتى نعرف من هو العبقري؟ أجاب سعيد، قائلاً: "العبقري هو من يعمل". أما محمود محمد طه صاحب الفهم الجديد للإسلام، الذي أعدم في الخرطوم في 18 يناير 1985 بموجب مؤامرة خبيثة قادها تحالف ديني عريض ، من السودان ومصر والسعودية، وغيرها، فهو يرى أن "الحر هو من يعمل"، وعنده "أي علم لا يستتبع العمل فهو علم ناقص" . ويتضح تعريف طه للحر ونقيضه وهو العبد عند حديثه عن دور الديمقراطية في إنجاب الأحرار، فقد كتب طه، قائلاً: "إن الديمقراطية هي وسيلة لإنجاب الأحرار من العبيد، والفوضويين، وهي صنو الاشتراكية، ولا خير في أيهما من غير الأخرى. فإن الاشتراكية إذا طبقت تحت حكم دكتاتوري لا تربى غير العبيد، وإذا ما حاولنا تطبيق الديمقراطية تحت نظام اقتصادي متخلف، وهو النظام الرأسمالي في أي صورة شئت، فإنها تكون قبض الريح، ومجرد لعب على العقول" . وتعريف العبد، عند طه، هو الذي يترك حرية عمل ما يريد خوف المسئولية التي تترتب على الخطأ، وأما الفوضوي فهو الذي يحب أن يعمل ما يريد، ولكنه عند الخطأ يحاول جاهداً أن يخدع القانون ويتهرب من تحمل مسؤولية عمله، وأما الفرد الحر فهو الذي يعمل، يعمل ما يريد ويتحمل مسؤولية عمله .
الحر هو من يعمل.. العبقري هو من يعمل
ستون عاماً في خدمة الإنسان والسودان وألمانيا
ظل حامد فضل الله مؤلف هذا الكتاب، يعمل على مدى ستين عاماً بجد والتزام واستمرار، وفي مجالات متعددة وبأساليب مختلفة. فقد فرغ من دراسة الطب عام 1964 بألمانيا، التي وصلها أول مرة في أكتوبر 1957. ثم أنفق (45) عاماً في مجال الطب، فهو الطبيب الذي يداوم من السابعة صباحاً وحتى الثامنة مساءً، كان نصيب وطنه السودان منها تسع سنوات، والبقية في وطنه الثاني ألمانيا، بمعية زوجته السيدة/ برجته فيبر Brigitte Weber، التي أصبحت برجته فضل الله، الألمانية الأصل، والتي اقترن بها عام 1962، وأنجبا نادية، وطارق، ومريم. كما درج حامد على نشر المقالات في شؤون السودان وألمانيا، وقضايا الفكر الإسلامي، والاستشراق الألماني، وإشكاليات اندماج المسلمين في المجتمع الألماني، والمسلمين في أوروبا، والقضايا الأدبية، إلى جانب كتابة التراجم والتعريف بمن التقى من المفكرين والأدباء الألمان والعرب والسودانيين. وأصدر بعض الكتب، منها: أحاديث برلينية: حول قضايا أوروبا والإسلام وفي الأدب والفكر، (2013) ؛ وحرر بعض الندوات والأعمال في كتب، منها: الطيب صالح: جسر بين الشرق والغرب ؛ و السودان والوحدة في التنوع للدكتور عبدالغفار محمد أحمد، (2022). وشارك في بعض الكتب، حيث قام بالشراكة مع آخرين بإصدار كتاب باللغة الألمانية بعنوان: كتابات سودانية: قصص قصيرة ومقالات، (2022). وقد وصفت البروفيسور أنجليكا نويفرت Angelika Neuwirth، مديرة معهد الدراسات العربية، سابقاً، بجامعة برلين الحرة والمديرة السابقة لمعهد الشرق التابع للجمعية الشرقية الألمانية في بيروت وأسطنبول، الكتاب في تقديمها له، قائلة: "يقدم لنا الكتاب الذي يكتسب قيمة إضافية من خلال رسومات حسن موسى، نظرة صادقة إلى عالم حياة وعالم فكر العديد من المفكرين السودانيين في ألمانيا، وهو يشع سلاسة بلا تكلف، ولا يبحث عن مناطق الاختلاف، كما أنه لا يقدم للقارئ الألماني صورة مقلوبة لـ "الغريب"، أما أسلوبه فيمكن القول إنه يتأرجح ما بين النمط الألماني والنمط السوداني". وخلصت، قائلة: "إن الكتاب يستحق الاعتبار كمرآة للمجتمع الألماني"، (ص 126). فضلاً عن أن حامد قاص كتب القصة القصيرة، ونشر العديد منها. علقت البروفيسور أنجليكا نويفرت على قصص حامد، قائلة: "وأما القاص، حامد فضل الله، اختصاصي أمراض النساء والتوليد المقيم في برلين. فيكشف عن نظرته كغريب بأسلوب غير مباشر من خلال رؤية نفسانية تسلط الضوء على (الآخر) في الشخصية الألمانية، فهو يركز على خصائص (الآخر) وعلى الحياة العاطفية (الأخرى) المعقدة للنساء الغريبات، مقارنة بوطنه الأم". وقدم الدكتور صبري حافظ، قراءة ، قائلاً: "يقدم القاص السوداني، حامد فضل الله، في لقطات رشيقة طبيعة تعامل المواطن الألماني في الحياة اليومية مع الأجنبي عارضاً نماذج مختلفة، ليعطينا صورة مكثفة ودقيقة عن نظرة الأوروبي للأجنبي.. في قصصه القصيرة يمتزج الشجن والحزن الشفيف، بهموم الذكريات وأوجاع الغربة".
لم تنحصر الطاقة الإبداعية عند حامد في القصة، وإنما كان مترجماً متميزاً، ترجم العديد من الأعمال من اللغة الألمانية إلى العربية وبالعكس. فقد ترجم، على سبيل المثال، لا الحصر، كتاب الرحالة الألماني إدواراد روبيل، رحلات في شمال السودان وكردفان وشبه جزيرة سيناء وساحل الحجاز، فرانكفورت، 1829، من الألمانية إلى العربية بالاشتراك مع السيدة فادية فضة، وقد وجدت الترجمة من المتخصصين الألمان الإعجاب والاحتفاء والاحترام. فقد وصفها البروفيسور أودو شتاينباخ Udo Steinbach، المدير السابق لمعهد الشرق في هامبورج، ترجمة الكتاب، قائلاً: "تعتبر هذه الترجمة هدية للسودانيين وشرف للرحالة والعالم الألماني"، (ص 299). كما كتب البروفيسور كورت بيك Prof. Kurt Beck، أستاذ الأنثروبولوجيا، جامعة باي رويت، ألمانيا، رسالة إلى حامد، قائلاً: "ما زلت أسمع عنك باستمرار، لكنني لا أعتقد أنني قابلتك من قبل. لقد أخرجت عنوانك البريدي الإلكتروني من الإنترنت. أردت فقط أن أعبر عن احترامي لترجمتك الرائعة لكتاب الرحالة إدوارد روبيل، والتي قمت بمراجعتها مؤخراً، نرفع القبعة لك!".
كما ترجم حامد مقالاً بعنوان: "القرآن جزءاً من أوروبا" للأستاذة أنجليكا نويفرت، وضمنها كتابه هذا (صفحات 156- 160)، وغيرها. كما لخص وترجم العديد من البحوث والأوراق العلمية، منها على سبيل المثال، لا الحصر، بحث للأكاديمي الشاب هاينر بيلافيلد Heiner Bielefedt بعنوان: إشكالية العلمانية: المسلمون في دولة القانون العلمانية، (ورد في الصفحات 127- 140). وبحث للبروفيسور كرستيان ترول Christian Troll، الأستاذ السابق في كلية الفلسفة واللاهوت في فرانكفورت، وفي المؤسسات الإسلامية التابعة للمعهد البابوي بروما سابقاً، وكان البحث بعنوان: الفكر التقدمي في الإسلام المعاصر: نظرة نقدية. وقد ضمن حامد ملخصه في كتابه هذا (ورد في الصفحات 141- 155). كما ترجم العديد من المقالات والأعمال الخادمة للعلاقات الألمانية السودانية. لقد قدم حامد إسهاماً عظيماً في تجسير التواصل بين الثقافة الألمانية والثقافات السودانية والثقافة العربية الإسلامية، سواء من خلال الترجمة، أو الكتابة، أو تأسيس منظمات المجتمع المدني، ومنابر الحوار.
لقد أسس حامد برفقة أصدقائه وزملائه، العديد من منظمات المجتمع المدني، وكذلك منابر الحوار. وظل يعمل على إحيائها لخدمة أهدافها الاجتماعية والثقافية والإنسانية، وتغذيتها باستضافة الرموز الألمانية والسودانية والعربية، للتداول والتفاكر حول قضايا حية وحيوية في الفضاءات الألمانية والأوروبية والعربية والإسلامية والسودانية والأفريقية. كان من بين تلك المؤسسات: مؤسسة ابن رشد للفكر الحر، ومنظمة حقوق الإنسان في الدول العربية بألمانيا، ومنتدى حوار الشرق والغرب، ومركز علاج ضحايا التعذيب في برلين، الذي افتتح في يناير 1992 وكان بالتعاون مع مجموعة من الأطباء العرب والألمان. وكذلك الملتقى العربي للفكر والحوار. لقد أسهمت هذه المؤسسات، ولا تزال، بدور كبير في خدمة المجتمع والإنسان، وتنمية الوعي، وإتاحة الفرصة للحوار وتصاهل الأفكار. وفوق ذلك فإن حامد كان يقوم بواجبات كبيرة ومعينة للدارسين والوافدين على ألمانيا من السودانيين والعرب. فقد شهد صديقه عثمان حمد في رسالة جاءت في صفحة (84) من هذا الكتاب، فكتب، قائلاً: "والتقينا في برلين، طبيب الاختصاص، بخبرة السودان وألمانيا.. يزاول مهنته بتفان ويسهم في شؤون الدارسين والعاملين بالكتابة والتنظيم، فضلاً عن المساهمة الفكرية في المجموعة العربية والألمانية".
يضاف إلى ذلك، القيام بواجبات إنسانية متنوعة، فلقد شاع، ليس بين السودانيين فحسب، وإنما في المجتمع العربي الألماني، أمر خدمات حامد الإنسانية للمقيمين والوافدين. ومن القصص المعبرة، على سبيل المثال، لا الحصر، عن ذلك، قصة شاب ألماني كان قد ذهب إلى السفارة السودانية يبحث عن والده السوداني، كما حكى حامد (ص 68). التقي الشاب في السفارة السودانية بالملحق الثقافي، وروى له قصة انفصال والده عن والدته الألمانية، وهو في سن الطفولة، وأطلعه على اسم والده. رد الملحق الثقافي بأن السفارة لا تعرف هذا الاسم. خرج الشاب من السفارة، يعتصره الأسى، ويمضغ المرارة في صمت. وفي طريق عودته بالقطار إلى مدينة هامبورج، كان يجلس بجواره رجل، تبادل معه التحايا، وعرف بأنه اسمه على زيدان. وبعد أن اطمأن له، حكى له الشاب قصته، وذكر له بأن الملحق الثقافي في السفارة السودانية، لم يبذل أي جهد، ولم يقدم وعداً بالتحري عن والده، وانتابه شعور بأنه يريد التخلص منه بسرعة. فرد علي زيدان بأنه لا يعرف شخصياً هذا الاسم، وأضاف، قائلاً: ولكني "سوف أدلك على شخص في برلين، وأنا متأكد أنه سوف يُساعدك"، وسلمه رقم هاتف حامد. كان علي زيدان من الإخوة الليبيين، ومن أصدقاء حامد، وقد أصبح أحد رؤساء الوزراء في ليبيا بعد سقوط نظام معمر القذافي. هاتف الشاب حامد، وروى له القصة، وعبر عن رغبته الشديدة في اللقاء بحامد، فكانت رغبة الشاب موضع ترحيب واحتفاء. صور حامد لقائه بالشاب، فكتب، قائلاً: "حضر الشاب مع صديقته الشابة في نهاية الأسبوع، ولم أطلعه على المفاجأة، إلا بعد أن تم الاتصال بوالده تلفونياً، الذي كان في انتظار المحادثة، التي تم الترتيب لها مسبقاً. كان الشاب يتحدث مع والده بصوتٍ تمتزج نبراته بين الفرح والحزن، بينما كانت صديقته تضغط على يده اليسرى بحنان. ولتفادي تعقيدات فيزا الدخول إلى بلدان الخليج، [حيث كان الوالد يقيم]، تم اللقاء بعد أسبوعين في القاهرة، ومن ثم ترتيب اللقاءات المتبادلة في المستقبل" (ص 68- 69).
ليس قبول الآخر وإنما الخروج من الذات لمعانقة الآخر
"من يحترم (يصون) نفسه يرى أيضاً وجهه في كينونة الآخر"
لا جدال في أن الحياة الديمقراطية في ألمانيا كان لها دور كبير في خلق المناخ المواتي لحامد والمعين للعمل وممارسة الحرية، غير أنه، ومن المؤكد، لم يكن خالي الوفاض. لقد وصل حامد ألمانيا حاملاً للمخزون الإنساني والاستعداد والقابلية للتفاعل مع البيئة الألمانية، كونه سليل بيئة تعدد ثقافي أصيل وقديم في السودان. ظل إنسان هذه البيئة يُعبر عن أصالته ليس بقبول الآخر فحسب، وإنما بالخروج من الذات لمعانقة الآخر. وهذا ما عبَّر عنه أودو دي فابيو Udo diFabio القاضي بالمحكمة الدستورية الألمانية في كتابه: ثقافة الحرية، كما أورد حامد، كتب فابيو، قائلاً: "من يحترم (يصون) نفسه يرى أيضاً وجهه في كينونة الآخر" (ص 112). بيد أن أنظمة الحكم الديكتاتورية في السودان، نجحت في التشويه، وتجفيف الحياة من الحرية، كما خنقت الإبداع، ووأدت أحلام الأخلاقيين الأحرار. ومع ذلك فإن الأشياء في السودان، بحكم قِدمه وعبقرية أرضه وعمار سجله الحضاري، وكما قال الطيب صالح، مهما لحقها من دمار، فهي "بِتْبَتِق"، أي ستخضر من جديد. كما أن الحر لا ينسى حريته، والسودان مع صباح كل يوم ينجب في الأحرار، غير أن الحر لا يربى بالإكراه والعصا، كما هو نهج الأنظمة الديكتاتورية، وإنما يربى، كما يقول محمود محمد طه، بالحرية وباحترام عقله وإنسانيته. لقد احترمت ألمانيا عقل حامد وإنسانيته ومنحته الحرية، فعبَّر هو عن وفائه لألمانيا وإنسانها عبْر العمل والعطاء الإنساني المستمر، مع تجسيده لقيمها، والتزامه التام بدستورها، فكان بحق يَعْسُوب المهاجرين في ألمانيا.
من تعدد الهويات إلى الهُوية الإنسانية
تهيكل الكتاب في ستة أبواب إلى جانب ملحق الصور. جاء الباب الأول بعنوان: من حقيبة الذكريات، وتناول الباب الثاني: قضايا فكرية وأدبية، وخصص الباب الثالث للحديث عن: عرب وألمان عرفتهم، واستعرض الباب الرابع: حكاوي ومواقف، وقدم الباب الخامس تعريفاً بشخصيات سودانية في الخاطر، واشتمل الباب السادس على قصص قصيرة. إن هذا الكتاب، إذا ما حاولنا تصنيفه ضمن الحقول العلمية، فهو يُعبر عن تعدد الهويات عند حامد، غير أنها هويات متصالحة ومتطورة. فقد جمع الكتاب ألواناً شتى من الفنون والعلوم، حيث المذكرات والسير الذاتية، والتاريخ الفكري، وتاريخ الأفكار، أو تاريخ الذهنيات أو العقليات، والتاريخ الثقافي، والتراجم للمفكرين والأدباء من الألمان والعرب والأفارقة والسودانيين، فتجد من مصر: طه حسين، سمير أمين، ومحمود أمين العالم، وصبري حافظ، ونصر حامد أبو زيد، وصنع الله إبراهيم، وسيد البحراوي، وأحمد عزالدين. ومن فلسطين: إدوارد سعيد، ومحمد محمود شاويش. ومن العراق: الشاعر صبري هاشم، وأستاذ الاقتصاد وصديق العمر كاظم حبيب، وغيرهم. ومن ألمانيا: أودو شتاينباخ Udo Steinbach ، وأنجليكا نويفرت Angelika Neuwirth ، وهاينر بيلافيلد Heiner Bielefeldt ، وأنيتا فيبر Anetta Weber ، وكرستيان ترول Christian Troll ، وغيرهم. ومن السودان تجد محمود محمد طه، وحسن الطاهر زروق، حسن عبد الوهاب، والطيب صالح، ومحمد محمود، حيدر إبراهيم، وعبد السلام نورالدين، وصلاح أحمد إبراهيم، وفاطمة أحمد إبراهيم، وصديق الزيلعي، وبهاء الدين حنفي، وكمال حنفي، وخالد موسى دفع الله، أحمد إبراهيم أبو شوك، خالد محمد فرح، وعبد المنعم عجب الفيا، وهجو علي هجو وغيرهم. كما يصب الكتاب في مجال العلاقات السودانية الألمانية، وكذلك العلاقات الثقافية، ويقدم إضاءات حول مؤسسات المجتمع المدني العربي الألماني، ويناقش مسائل اندماج المسلمين في المجتمع الألماني والأوروبي، إلى جانب قضايا الفكر الإسلامي المعاصر، فضلاً عن القصص القصيرة التي تنطوي بدورها على موضوعات مختلفة وتعالج قضايا متعددة.
يُعبّر هذا التنوع في موضوعات الكتاب عن ملامح حامد ذو الهويات المتعددة، فهو الطبيب والأديب السوداني والأفريقي والعربي والمسلم والألماني، غير أنها هويات ظلت متصالحة، مما مهد الطريق لتطورها في بيئة حامد الداخلية، في وجهة الهوية الإنسانية. وهذا ما يمكن أن يلاحظه القارئ للكتاب أو المتتبع لسيرة حامد، لنقف أمام مثقف ومواطن كوكبي حر ومسؤول، ظل مشغولاً بالتزامه الإنساني، وبالتصالح مع نفسه وبيئاته الألمانية والسودانية والإنسانية، فتجلى ذلك في عمله الجاد والمتعدد والمستمر في سبيل خدمة الإنسان، والسعي للإسهام في أنسنة الحياة.
انشغل حامد ضمن انشغالات أخرى في كتابه هذا، وفي كتابات غيره، بقضية اليوم، وهي قضية التصالح والاندماج التي تواجه المسلمين في المجتمعات الغربية التي يعيشون فيها، وبالطبع كان وطنه ألمانيا موضع همه وانشغاله. درس حامد قضايا اندماج المسلمين في المجتمع الألماني، وضمَّن كتابه هذا بحثاً بعنوان: "المسلمون والعرب وإشكالية الاندماج في المجتمع الألماني ودور النخب العربية"، (الصفحات 93- 116). قدم فيه احصائيات وأرقام وتحليل عميق، وتتبع الهجرة العربية إلى ألمانيا، وأشار إلى بدايتها البطيئة منذ أوائل الستينات، ونموها في السبعينات والثمانيات من القرن الماضي، وفصل في ذلك. كما تناول في بحثه تطور السياسة الألمانية والموقف من الأجانب، وصورة الإسلام عند بعض الكتاب العرب والألمان، وناقش قضية الاندماج والألمنة وتعبير الثقافة القائدة، الذي يعود، كما أشار حامد، إلى أستاذ العلوم السياسية بسام طيبي، من أصل سوري، والذي وصف به "الثقافة الأوروبية بالقائدة"، معتمداً في ذلك على قيم الإجماع للديمقراطية الغربية. وأستعرض حامد آراء وأحاديث بعض المفكرين الألمان عن قضايا الاندماج والحرية الثقافية والألمنة. وتحدث بعضهم عن تعبير الثقافة القائدة، وكان من هؤلاء على سبيل المثال، لا الحصر، أرنولف بارنج Arnulf Bering أستاذ التاريخ المعاصر والعلاقات الدولية، سابقاً، في جامعة برلين الحرة، الذي يقول: "ليس المطلوب هو الاندماج وإنما الألمنة". وكذلك الكاتب رالف جوردانو Ralph Giordano الذي يقول: "ليس المسجد وإنما الإسلام هو المشكلة. ويتساءل: ماذا نعرف عن عمل ومهام المهاجرين ذوي التوجه الأصولي الإسلامي (الإسلاموي) العالمي داخل المنظمات العديدة التي لا يمكن حصرها؟ وكيف يمكن تصديق الاعتراف بمبادئ وأسس الديمقراطية العلمانية؟ مستخدماً مدلول التقية إجمالياً وحرفياً بصورة وخيمة عندما يزعم بأن التقية أذن ديني صريح يسمح بالتضليل والاحتيال والنفاق في الجدل والحوار مع غير المسلمين". هذه الأحاديث والهواجس، لها ما يبررها، فهي تُعبر عن إنكواء العالم بنار الأصولية الإسلامية، ولم تسلم ألمانيا منها، فقد فقدت الكثير من اليافعين من أبنائها، في حروب داعش العبثية واللا أخلاقية واللا إنسانية. وتعبر هذه الأحاديث كذلك عن أزمة عالمية حقيقة، وليست ألمانية فقط، والمحور المركزي في هذه الأزمة، هو حاجة المسلمين إلى فهم جديد للإسلام، يستطيعون من خلاله التصالح والتعايش والمواكبة للبيئة الإنسانية الجديدة، كما سيرد بعض التفصيل.
وأضاف حامد بأن هناك شخصيات متميزة تدعو من موقعها الاجتماعي ومن منطلقاتها الفكرية ومسئوليتها الأخلاقية والأدبية إلى انفتاح عقلاني على الآخر واندماج متبادل فذكر من هؤلاء: السيدة يوتا لمباخ Jutta Limbach الرئيسة السابقة للمحكمة الدستورية الألمانية، ورئيسة معهد جوتة، حالياً، فهي تقول: "علينا إبعاد مفهوم الثقافة القائدة عن التداول لارتباط معناه بالتعالي القومي الذي يقف في سبيل أي نقاش غير متحيز. وكذلك أفضل نوايا مستخدميه لا يستطيعون تحريره من الاتهام بتعارضه وإقصائه للثقافات الأخرى". وكذلك الكاتب والناشر نافيد كرماني Navid Kermani، وهو ألماني من أصل إيراني، يقول: "الجميع سواسية أمام القانون ولكن ليس كذلك في حالة الثقافة القائدة". كذلك يقول الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني المعاصر يورغن هابرماس Jürgen Habermas: "إن أطفال وأحفاد المهاجرين الأوائل الذين هم جزءاً منا منذ زمن طويل، وبما أنهم في الواقع ليسوا كذلك، فإنهم يشكلون تحدياً للمجتمع المدني وليس لوزير الداخلية، إن الأمر يتعلق بالذين ينتمون إلى ثقافات وجماعات دينية مغايرة من أجل احترام اختلافهم المعرفي وفي الوقت عينه ان يشملهم تضامن دولة المواطنة". وهذا قول يؤكده الواقع، خاصة بالنسبة لأبناء المسلمين، فإنهم يمثلون تحدياً حقيقياً للمجتمع الألماني والأوروبي، كونهم جيل جديد ورث فهماً إسلامياً متخلفاً، ويعيش في بيئة إنسانية جديدة. يجب الاحتراز هنا، فإن التخلف يعود لفهم الإسلام وليس للإسلام. وأيضاً أتي حامد بحديث الرئيس الألماني الراحل يوهانز راو ـJohannes Rau (1931- 2006)، الذي تحدث عن مفهوم الاندماج، قائلاً: "الاندماج هو التجديد للقيم المشتركة التي تربط الجميع. الذي يريد أن يبقى على الدوام في ألمانيا لا يحتاج أن يتنكر لأصله، ولكن يجب أن يكون على استعداد أن يشارك في تشكيل المجتمع المفتوح متخذاً الدستور نموذجاً لذلك، كذلك من أجل تطوير شعور الـ "نحن" (wir Gefühl) الذي يؤدي إلى ربط وتوثيق الأواصر بين الأغلبية والأقلية". من الواضح أن هناك حالة بحث عما يجمع الناس على الرغم من اختلافاتهم.
وفي واقع الأمر أن معطيات البيئة الإنسانية الجديدة والمتجددة مع كل يوم، حيث الحياة الرقمية، ووحدة المصير المشترك، ووحدة المصالح المتقاطعة، ووحدة الشعور، وضعت الثقافات والأفكار، والأطروحات الفكرية على اختلافها، والأديان، خاصة الإسلام، في تحدي حقيقي. إذ كيف السبيل للتحرر من انتماءات الأطر الضيقة والانتقال إلى مصاف الانتماء الإنساني؟ وكيف يمكن التأسيس للهوية الإنسانية والحوار الإنساني والخطاب الإنساني، العابر للثقافات والجغرافيا، والمتجاوز للأحلام قصيرة المدى والنظر؟ وفي تقديري أن كل المشكلات المتعلقة بالإسلام والتي عبر عنها الأساتذة الألمان آنفاً، مشاكل واقعية وصحيحة، ولا يمكن الوصول إلى حلول لها عبر الفهم السائد للإسلام، إذ كيف يمكننا معالجة قضية الشريعة الإسلامية والحرية؟ وكيف يتم الاحتكام للشريعة الإسلامية في ظل البيئة الإنسانية الجديدة؟ وكيف يمكن أن ينتقل فهم المسلم الألماني والأوروبي، والمسلم حيثما كان، لا سيما الشباب، من فهم الإسلام الداعي للموت في سبيل الله، إلى فهم الإسلام، كما يطرحه طه صاحب الفهم الجديد للإسلام، الداعي إلى الحياة في سبيل الله والإنسانية؟ ولعل حديث يوهانز راو عن التجديد للقيم المشتركة التي تربط الجميع، يتفق مع ما يقول به طه، الذي يدعو، انطلاقاً من القرآن في مستوى آيات الأصول (الآيات المكية)، إلى القيم والأصول الإنسانية التي تجمع بين الناس، وحتى تكون المساواة بين الناس في الملل المختلفة، المسيحي والمسلم والبوذي والوثني والملحد... إلخ. جميعهم يجب أن يكونوا متساوين، في الحقوق الوطنية، وجميعهم يدعون لأفكارهم وقناعاتهم بالأساليب الديمقراطية. وتكون المفاضلة بين الناس بالعقل والأخلاق، وليس بالدين أو العنصر أو اللغة أو اللون أو الجنس . كما يدعو طه إلى الدستور الإنساني الذي، كما يقول: "يجب أن يقوم على الأصول التي يلتقي فيها الناس وهي أصول الإنسانية" . وفي هذا الدستور، وهو الدستور الإنساني، الذي يسعى لإقامة الحكومة الإنسانية، "لا يسأل الإنسان عن عقيدته، وإنما يسأل عن صفاء الفكر، وإحسان العمل" . والفكرة المركزية عند طه هي تطوير الشريعة الإسلامية، فهو يرى بأنه لا يمكن الحديث عن المساواة السياسية (الديمقراطية)، والمساواة الاقتصادية (الاشتراكية)، والمساواة الاجتماعية، في الإسلام، من غير أن نتحدث عن تطوير الشريعة الإسلامية. ذلك لأن الشريعة الحاضرة لا تستطيع مواجهة تحديات العصر ومطالب الإنسان المعاصر. ويكون تطوير الشريعة الإسلامية، عند طه، من داخل القرآن. وهناك تفصيل كثير في هذا، غير أن المجال لا يسع للتفصيل.
abdallaelbashir@gmail.com