“جات عربات اللات بوليس .. فضوا العالم بالكرباج/ والبمبان الأمريكاني
شرقت شمس اليوم التاني
كنا حداشر ونوباوية/
متهمنا بالتخريب والتحريض والشيوعية”… حُمّيد
…
قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، قال في القاهرة، قبل أيام: نشكر مصر على استضافة السودانيين في هذه الظروف الصعبة التي يمرون بها.
قالها بهدوءٍ محسوب، كأنها عبارة دبلوماسية في نشرةٍ رسمية.
لكن في الخرطوم، كانت الشاحنات تمضي في الاتجاه المعاكس للضمير، تُقلّ مئةً وستّ نساءٍ من جنوب السودان، في رحلةٍ قسرية نحو الحدود. واحدةٌ وستّون منهن تركن أطفالهن هناك، في مدينةٍ لم تعد تعرف نفسها.
على الورق، النساء “أجنبيات”. وفق القانون ولا أكابر في قول ذلك؛ لكن في الذاكرة، هنّ من الطين ذاته والماء والنيل. من الأمّ الكبرى نفسها التي انقسمت بهَرجِ الكيزان وسيفهم، لا بالقلب واشتعال الحنين. لذلك بدا المشهد أشبه بطرد الذاكرة من الجغرافيا، لا بترحيل نساءٍ من دولةٍ إلى أخرى.
ما جرى لم يكن إجراءً إدارياً، بل فعلاً سياسياً مسموماً. سلطةٌ مأزومةٌ في بورتسودان أرادت أن تخلق عدواً خارجياً جديداً، لتخفي فشلها في الداخل.
تستدعي الكراهية القديمة والمصطنعة، بين الشمال والجنوب، لتغطي على عجزها عن جمع الشمال نفسه.
الكيزان، الذين أكلوا من جسد الدولة حتى العظم، أرادوا أن يذكّروا الناس بأن “الجنوب” هو الخطر، لا الخراب الذي ينهش الخرطوم وغيرها كل يوم.
تمّ جمع النساء من الشوارع والمنازل، زُجّ بهن في مراكز احتجاز، ثم نُقلن إلى الحدود في بصّاتٍ باردةٍ كالموت. لم يُسمح لهن بالعودة إلى بيوتهن ولا لاحتضان أطفالهن. كأن السلطة أرادت أن تُنفّذ فيهن عقوبة الأمومة.
في الجانب الآخر من الحدود، وقف محافظ الرنك مذهولًا أمام المشهد.
نساءٌ مرهقات، أطفالٌ مفقودون، وحدودٌ تزداد قسوة كل يوم.
قال إن بعض الصغار نُقلوا إلى شمال السودان (منطقة كريمة)، حيث يُخشى أن يُجندوا في حربٍ لا تخصّهم.
أيّ قدرٍ هذا الذي يجعل من الطفولة وقوداً لسياسةٍ فقدت روحها؟
ما جرى ليس مجرد انتهاكٍ للقانون الدولي، بل جرحٌ في ضمير أمةٍ واحدة قُسمت إلى نصفين.
فحين يُهجّر الشمالُ بناتَ الجنوب، كأنه يطرد وجهه الآخر، نصف صورته القديمة، نصف إنسانيته التي بقيت على الضفة الأخرى من النهر.
ما حدث يُعيد إلى الأذهان حقيقة المشروع الكيزاني: لا يعرف سوى لغة الإقصاء، ولا يزدهر إلا في الظلام والحقد والتشفّي.
يرفع راية الدين ليغطي بها عورة الكراهية، ويعيد إشعال أسطورة “الوجوه الغريبة” كلما حاصره الفشل.
لكن لا وطن ينجو من طرد ذاكرته.
ولا حدود تستطيع أن تفصل الدم عن الدم، أو النيل عن مجراه.
إن السودان حين أبعد نساء الجنوب، كان يبعد ظلّه عنه،
وكانت الخرطوم، دون أن تدري، تطرد قلبها إلى الجهة الأخرى من النيل الأبيض.
الحدود، في أصلها، ليست سوى ندبة على جسد الأرض. نرسمها بخطوطٍ مستقيمة، لكنها في الحقيقة تسيل من أعينٍ كثيرة بدمعٍ غير مستقيم.
كل حدودٍ هي جرحٌ قديمٌ بين إخوةٍ تشاركوا المهد ثم اختلفوا على الحكاية.
فما جرى بين السودان وجنوبه ليس انفصالاً في الجغرافيا، بل انشقاقٌ في الذاكرة.
وحين نطرد أبناء الجنوب وبناته من الشمال، فإننا لا نحرس الوطن، بل نوسّع مساحة الغياب في قلوبنا.
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم