السودان أمامه تجربتين تجربة العالم بعد الثورة الصناعية و تجربة العالم العربي الإسلامي التقليدي الذي لم يدخل التاريخ بعد

طاهر عمر

taheromer86@yahoo.com

إذا أنتبه المثقف التقليدي السوداني للتحول الهائل في المفاهيم الذي يرافق مسيرة البشرية سوف يلاحظ أن في العالم العربي و الإسلامي التقليدي على مدى القرن الأخير أن هناك علماء إجتماع و فلاسفة و مؤرخيين غير تقليديين لهم جهودهم الفكرية التي تحاول جاهدة جسر الهوة بين العالم العربي الإسلامي التقليدي و العالم المتقدم الذي قد أصبح مختصر لتاريخ الإنسانية حيث أصبح الإنسان تاريخي في مسيرة إنسانية تاريخية تسوقها معادلة الحرية و العدالة في ظل إزدهار مادي متفاوت في أنحاء العالم بداء مع الثورة الصناعية إلا أنه قد وضع بداية لم يلاحظها المثقف التقليدي السوداني و هي أن تاريخ البشرية لأول مرة يصبح تاريخ واحد لكافة البشر بعد الثورة الصناعية.

لذلك يصبح مهم جدا الإنتباه الى أن الإنكفاء و الإلتواء الذي يمارسه المثقف التقليدي السوداني قد أصبح بلا جدوى و لا يفيد معه المراهنة على الزمن كصفة ملازمة للمثقف التقليدي السوداني في أن مسيرة الفكر ستعيد مسارها متطابقة مع تفكيره الرغبوي في زمن قد تأكد فيه أن الإنسانية تاريخية و أننا في زمن مجد العقلانية و إبداع العقل البشري و دورهما في إعادة تركيب هياكل المجتمع الحديث وفقا لتجربة الإنسان و قد نضجت في مسيرها في ضمير الوجود.

لذلك قد أصبح الفعل الإجتماعي نتاج عقلانية الفعل الإنساني التلقائي العفوي المتوشح بالعقلانية النابعة من صميم الإنسان و مكنون أخلاقه و بالتالي يصبح الفعل الإجتماعي مسوّر بالعقلانية و الأخلاق و أصبح فعل تلقائي من فرد أخلاقي و عقلاني يؤمن بالمساواة بينه و الآخرين و الأهم من ذلك أن عقلانيته و أخلاقه تجعله يؤمن بحرية الآخريين لأن الحرية هي قيمة القيم و بالتالي يصبح الفرد الآخر في نظر الفرد العقلاني المتوشح بالأخلاق غاية في حد ذاته وجبت معاملته من جانبك بما يرتقي أن تكون معادلاتك السلوكية نحوه ترتقي أن تكون في مستوى التشريع لأنك تعامله بما ترغب أن تعامل به.

و بالتالي وفقا لتجربة الإنسانية و في ظل نتاج التقدم الذي نتج من الثورة الصناعية قد أصبحت فكرة المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد هي نتاج لعقلانية و أخلاق المجتمع الحديث الذي يعمل بتلقائية الفعل الإنساني العفوي الذي لا يحتاج لأوامر من خارجه كما كانت تفعل الأديان و الشرائع و كما يتوهم الكيزان و أذيالهم في ساحتنا السودانية اليوم. لذلك نجد في العالم العربي و الإسلامي التقليدي كثر من علماء الإجتماع و الفلاسفة لهم جهود فكرية هائلة تحاول أن تخرج العالم العربي الإسلامي التقليدي من متاهته الأبدية و غوصه في وحل الفكر الديني و اللاهوت الديني الجدلي و نتاج فكره فكر التراث الديني المؤدلج الذي تعج ساحتنا السودانية التقليدية بحامليه و قد تجسد في فكر الكوز كعدائي حاد و عنيف غير متصالح مع نفسه و غير مقتنع بأن هناك تحولات هائلة في الأفكار قد جعلت من الإنسانية أن تكون تاريخية.

من ضمن علماء الإجتماع ذوي الجهود الفكرية النيرة نذكر كل من عالم الإجتماع الفلسطيني هشام شرابي و عالم الإجتماع العراقي علي الوردي و عالم الإجتماع التونسي الطاهر لبيب و جميعهم قد تحدثوا عن ضرورة القطيعة مع التراث الديني المؤدلج و هؤلاء نجدهم في أفكارهم جنب لجنب مع أفكار فلاسفة أوروبا لأنهم لم يغبش وعيهم بفكرة أن العالم العربي و الإسلامي التقليدي له خصوصية كما يتوهم أغلب نخبنا السودانية التقليدية و هؤلاء المذكوريين أي هشام شرابي و علي الوردي و الطاهر لبيب جميعهم في جهودهم الفكرية نجد فكرهم يتكئ على أن البشرية مسيرتها واحدة و أن تاريخ أوروبا قد أصبح مختصر لتاريخ البشرية و هذا هو المستعصي على عقول نخبنا التقليدية السودانية.

لهذا السبب كان عنوان مقالنا بأن هناك نموذج عالم عربي تقليدي و نموذج عالم ما بعد الثورة الصناعية و لكل منهما آدابه التي تعتبر مدخل لكشف أغواره و من هنا تأتي دعوتنا للنخب السودانية بأن السودان لم يعد جزيرة معزولة عن العالم و لا مخرج للسودان غير أن يسير على طريق الإنسانية التاريخية و قد أصبح عالم ما بعد الثورة الصناعية كتاريخ للبشرية كافة خارطة طريقه و ليس تخبط العالم العربي و الإسلامي الذي يسيطر على عقله الآن أدب التراث الديني المؤدلج نتاج فكر النهضة العرجى التي تبعها أتباع الصحوة الإسلامية و قد أوغلت بهم في متاهتهم و لم يعد بالسهولة الخروج منها بغير القطيعة مع التراث الديني المؤدلج نتاج لاهوت الكيزان الجدلي و قد تجلى في عنفهم و عدايتهم و عدميتهم في عداءها للعالم في إشراقه و وضوحه.

لذلك نقول للمثقف التقليدي السوداني أن العالم العربي الإسلامي التقليدي الآن في مفترق طرق و تجربته في القرن الأخير تجربة لا تورث حكمة لذلك ها هي سعودية ولي العهد السعودي تبعد رجال الدين من ساحة الفعل السياسي و تقول أن معهم و بفكرهم لا يمكن أن تكون هناك تنمية أو حداثة.

لذلك المطلوب من المثقف التقليدي السوداني أن يفك إرتباطه الثقافي بثقافة العالم العربي الإسلامي التقليدي لأنها الآن في حالة إحتضار من ناحية الفكر و في مستقبل الأيام ستكون هناك أهمية لفكر قليل من المفكريين في العالم العربي التقليدي من ضمنهم هشام شرابي و علي الوردي و الطاهر لبيب و فتحي المسكيني و سيكون لفكرهم موعد مع التاريخ و موعد مع الحضارات لأنهم قد فهموا فكرة الشرط الإنساني و قد تجلت في جهودهم الفكرية أما الأكثرية من مثقفي العالم العربي التقليدي فإنهم قد حبسوا أنفسهم في إطار اليقينيات و الحتميات و الوثوقيات التي قد تجاوزها العالم منذ قرن من الزمان عندما أصبحت أفكار النيوكانطية قاعدة لفكرة القرار و الإختيار للنظم السياسية و بالتالي قد أصبحت الليبرالية الديمقراطية بشقيها السياسي و الإقتصادي تسوقها معادلة الحرية و العدالة مفسر لظاهرة المجتمع البشري و نتاجه أي الإنسانية التاريخية و الإنسان التاريخي.

و لتفسير نجاح كل من فكر علي الوردي و هشام شرابي و الطاهر لبيب و فتحي المسكيني و أنه سيكون فكر على موعد مع التاريخ و موعد مع الحضارات لأن فكرهم لا يقل عن أفكار الفلاسفة و علماء الإجتماع و الإقتصاديين الغربيين بل في كثير من الأحيان تجد مراجعهم التي نهلوا منها هي نفس المراجع لفلاسفة و علماء الغرب الإجتماعيين و إقتصادي الغرب و كذلك الحال مع محمد أركون و هو يفتخر على الدوام بسعة منهجه و نجده يجعله يسير كتف بكتف مع مفكري فرنسا إن لم يكن متقدم على بعضهم و الذي جعلهم في نفس مستوى فلاسفة الغرب و علماء إجتماعه و إقتصادييه هو إنطلاقهم من أن البشرية بعد الثورة الصناعية لأول مرة يصبح تاريخها واحد أي تاريخ مشترك لكل البشر.

لذلك جاء فكرهم مفارق لفكر العالم العربي و الإسلامي التقليدي و هو رازح تحت أفكار النهضة الإسلامية العرجى و لهذا يأتي تنبيهنا للمثقف التقليدي السوداني بأن يفك إرتباطه بالثقافة الإسلامية العربية التقليدية و يرتبط بتاريخ البشرية التي يختصره تاريخ الغرب و حضارته.

جاءت توصيات هشام شرابي أن حاضنة الفكر الإسلامي التقليدي لا تنتج غير فكر يمجد سلطة الأب و ميراث التسلط و قد رأينا كيف كانت ممارسات الكيزان و قد تجلّت فيها شهوة السلطة و سطوة الإستبداد خلال ثلاثة عقود كالحة في حكمهم للسودان أما علي الوردي فقد نادى بالليبرالية السياسية و الإقتصادية كحل لمجتمع عربي تقليدي هش التراكيب في هياكله الإجتماعية و الطاهر لبيب ينادي بإعمال القطيعة مع التراث الديني المؤدلج و القطيعة مع لاهوته الجدلي الذي لا ينتج إلا كوز عنيف و حاد و عدائي و الآن يتجلى في ظاهرة البلابسة أما فتحي المسكيني فأنه ينادي بالإهتمام بالفكر الذي ينتج الحريات و ليس الهويات القاتلة التي تطير كطائر مشوّة بجناحي العرق و الدين.

من السهولة ملاحظة أن فكر كل من هشام شرابي و علي الوردي و الطاهر لبيب و فتحي المسكيني يختلف عن فكر النخب السودانية التقليدية و قد رأيناه فكر ترقيعي أي فكر المثقف السوداني التقليدي الذي ينادي بالمؤالفة بين العلمانية و الدين و ينادي بالمساومة التاريخية بين يسار سوداني رث و يمين غارق في وحل الفكر الديني لذلك تجد سذاجة النخب السودانية التقليدية واضحة عندما يتحدثون عن أن عبد الوهاب الأفندي قد إنتقد الحركة الإسلامية السودانية و كذلك خالد التجاني النور و لما إنقلب البرهان على ثورة ديسمبر و بداء حربه العبثية بين جيش الكيزان و صنيعته الدعم السريع فإذا بهما يعودان كيزان بلا خجل و هذا ما أخجل كثير من النخب السودانية التقليدية غير الكيزان إلا أنهم يسهل خداعهم من أمثال عبد الوهاب الأفندي و خالد التجاني النور و عادل الباز و غيرهم من الكيزان في خداعهم للنخب السودانية التقليدية.

لتوضيح الفرق بين النخب السودانية التقليدية و سهولة خداعهم من قبل الكيزان نذكر أن في فرنسا مثلا أن المفكر و الفيلسوف لا يجامل في فكره حتى و لو ساقه الى قطيعة مع الإصدقاء و نضرب مثلا بصداقة كل من ألبرت كامو مع سارتر و لكن عندما وصل ألبرت كامو الى قناعة أن أفكار سارتر ليست صحيحة لم يتردد في إعلان مفارقته الى حيزه رغم أن سارتر هو الذي أدخله الى ساحة المفكرين الفرنسيين.

و كذلك ريموند أرون لم يتردد أبدا في قطع علاقته و صداقته مع سارتر عندما وصل لقناعة بأنهما على طرفي نقيد عكس النخب السودانية التقليدية و هي تردد عبارة أن الإختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية لذلك ينجح الكيزان في خداع النخب السودانية التقليدية التي تنشغل بالشلليات و الاخوانيات و لا تتحرج أي لا يتحرج المفكر التقليدي السوداني من صداقته للكيزان و هذا عكس ما يدور في فرنسا و فيها يدور بين النخب أن الفكر فكر و لا يتردد أحدهم في قطع علاقته مع من إختلف معه فكريا و خاصة عندما صار سارترا مدافعا شرسا عن النظم الشمولية و خاصة الشيوعية و كذلك إختلف معه كلود ليفي اشتروس.

في ختام هذا المقال كل ما أود قوله بأن العالم العربي الإسلامي التقليدي الآن يتنفس أنفاسه الأخيرة قبل أن يلفظ روح الفكر الأصولي و إستحالة التأصيل بعد تجربة الصحوة الإسلامية الفاشلة على مدى ستة عقود و هناك كثر قد أرعبتهم شراسة الإسلاميين و قد هادنوهم و ساروا بسيرهم رقم أن راحلتهم من بين الرواحل ظالع و هناك من تحداهم بل وصف من هادنوهم بالجبن و عدم الشجاعة كما وصف هشام شرابي كثير من الشيوعيين في العالم العربي و مهادنتهم للفكر الأصولي.

و ها هي مسيرة الإسلاميين تصل لطريق مسدود و قد تبدد وهمهم في إعادة الماضي الذهبي كماضي حاضر لذلك قلنا أن قليل من النخب في العالم العربي و الإسلامي التقليدي سوف يعبر فكرهم لأنه كان مستشرف لمستقبل لم يراه الكيزان و من هادنوهم أما بين نخبنا في السودان فلا يفوتنا أن نشير الى عبد الله النعيم في فكره الليبرالي و مناداته بالعلمانية و فصل الدين عن الدولة و سيكون لفكره موعد مع التاريخ و موعد مع الحضارات و كذلك فكر الدكتور الصديق الزيلعي في محاولاته كسر حلقات السياجات الدوغمائية و هي حلقات شريرة عجز كثر من النخب السودانية التقليدية عن الشب عن طوقها.

شاهد أيضاً

مرآة ذهنيتي على بندقية الوطن: الجيش السوداني في معادلة الشرق الأوسط

زهير عثمان zuhair.osman@aol.com هذه مقاربة فيها الكثير من الخيال المجنون، الذي ساقني إليه التأمل العميق …