شرح انشودة الجن للشاعر التيجاني يوسف بشير الكتيابي

 


 

 

 


morizig@hotmail.com

هذه القصيدة واحدة من مجموعة قصائد سودانية رمزية شكَّلت لغزاً أدبياً استعصى حله لقرنٍ من الزمان. وللحقيقة إنَّ القصائد الرمزية تُخيف الشُراح وتُرهِب النُقاد على السواء، ولهذا تمكثُ دهوراً وهي شريدةٌ لا يتعرض لعَقرِها أحدٌ وكأنَّها تنتظرُ شقيَّاً كصاحب الناقة الذي تعاطى فعقر!!
وقد حاول د. عبداللطيف سعيد الأستاذ بكلية اللغة العربية بجامعة إفريقيا أن يلعب دور ذلك الشقي فتصدى لعقرها إلا أنَّها فلتت منه! فالرجل قد حاول وسعى و قد فتح سعيُه الباب واسعاً ليدخل منه الهواة الأشقياء "متلقي الحِجَج"، فكنتُ أولهم! وقد دخلتُ على الناقةِ الأدبية البابَ ناوياً عقرها ونحرها والوصول لقلبها للكشف عن سرها، وكما قال الفنان وردي رحمة الله عليه "يا غِرِق....يا جيت حازِما".
أقول متوكلاً على الله إنَّ د. عبداللطيف سعيد شطح في محاولته حين تسائل قالاً:
" أيكون التجاني هذا المثقف الراسخ يشير بطرف خفي إلى رحلة الإسراء والمعراج لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ويكون أنه صلى الله عليه وسلم قد مسح وطمس على الرسالات السابقة ونسخها، ومع أنّ زرياب ومعبد مغنيان معروفان في تاريخ الغناء العربي لكنه يرمز بهما هنا إلى الأنبياء السابقين، وخاصة إلى ” المزامير” مزامير داؤد وغيره من أنبياء الله التالية للصحف الأولي بأصوات آسرة ، فهو بتلاوة القرآن قد مسح على سابقيه من ( زرياب )(ومعبد) الأنبياء الأوائل .. ثم إنه في معراجه قد ( مشى على الأحقاب ) إذ جُمع له الأنبياء مع اختلاف أزمانهم، وصلي بهم مطوفاً على المربد وهو هنا رمز ( لبيت المقدس) حيث ربط البراق بالحلقة التي يربط بها الأنبياء دوابهم، ثم إنه عليه السلام يغشي كنار الغاب والكنار طائر فالأرواح في حواصل طيور خضراء ( رمز لأرواح المؤمنين ) والغاب هناك هو (سدرة المنتهي) ( وهدأة المرقد) هو مرقد هذه الارواح الطيبة التي هي هادئة في مرقدها النهائي الذي ليس بعده نجعة ، ثم إذا هو رجع حدث (أعراب) مكة عن روعة المشهد!"
هذه هي النتيجة التى توصل إليها الدكتور عبد اللطيف في محاولته لفك طلاسم القصيدة، ولا بد لنا من الإحاطة برأيه من أجل المقارنة لاحقاً، وعلى كلٍ ليس في الأمر خطأٌ وصواب لأنَّ الرمز يحتمل كثيراً من التفسيرات وعندما قَالَ الْمَلِكُ: {إِنِّي أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ * يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} ظهر للملك تفسيران كلٌ حسب علمه، فحاشيته قالُت {أَضْغَاث أَحْلَام وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَام بِعَالِمِينَ } فحكموا عليها بحسب علمهم أنها خلط أحلامٍ لا تفسير لها، وهنا ظهر الإتجاه المعاكس في الرأي فقَالَ صاحبه في السجن: {أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ} فأتى يوسف فقال له { يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} هنا ظهر سيدنا يوسف بمعجزة علمية وهي قدرته على فكر الرموز والشفرات التي تستعصي على العقول فقَالَ {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} وهكذا أنقذ الله تعالى بيوسف عليه السلام المملكة من الهلاك، إنَّه هو البرُّ الرؤف الرحيم.
فالرمز دوماً يحتاج لتأويلٍ والتأويلُ هو تجاوز ظاهر النص الذي لا يستقيم عقلاً عبوراً للمعنى الحقيقي المراد. فلا يستقيم عقلاً أن تأكلَ سبعُ بقراتٍ عجافٍ سبعَ بقراتٍ سمانٍ أو عجافٍ مثلها لأنَّ البقر ليس من الحيوانات المفترسة آكلة اللحوم.
وفي أنشودة الجن هناك أشياء لا تستقيم عقلاً فوجب التأويل فيها. وحتى نضع أصابعُنا على تلك الأشياء التي لا تستقيم عقلاً في القصيدة فلا بد لنا من إحضار القصيدة لتقف في قفص الإتهام استعداداً لمحاكمتها أدبياً.
تقول القصيدة:
قُم يا طريرَ الشباب....غنِّ لنا غنِّ
يا حُلو يا مُستطاب....أنشودةَ الجنِّ
وأقطف ليَ الأعناب....وأملأ بها دنّي
من عبقري الرباب....أو حرمِ الفنِّ
**
صِح في الرُّبى والوِهاد....واسترقِصِ البِيدا
واسكُب على كل ناد ....ما يسحرُ الغِيدا
وفجِّرِ الأعواد....رجعاً وترديدا
حتى ترى في البلاد....من فرحةٍ عِيدا
**
وأمسح على زِرياب....وأطمُس على مِعبَد
وأمش على الأحقَاب....وطُف على المِربَد
وأغشَ كنارَ الغاب....في هدأةِ المَرقد
وحدّثِ الأعرَاب....عن روعةِ المَشهد
**
صوِّر على الأعصاب....وأرسُم على حِسِّي
جمالك الهيّاب....من روعة الجَرسِ (الصوت)
واستدنِ باباً باب....واقعُد على نفسي
حتى يجفّ الشراب....في حافةِ الكأسِ
من ياترى كان يخاطب ابن يوسف بهذه الرموز الشعرية؟ من هو طرير الشباب المخاطب في القصيدة بهذه الكلمات العذبة؟ وماذا تعني كلمة "طرير الشباب" لغوياً؟
فالطرير هو الشاب الصغير المتسم بالوسامة والبراءة، وقد يرادفها في المعنى أيضاً الغرير، وهو الصغير في عمره الذي يفتقد للتجارب في الحياة فلذلك يُغرر به ويخدع كثيراً فهو غَرير. ويبدو أن التيجاني كتب هذه القصيدة وهو في بداية عشريناته، فقد وُلد عام 1912م وتوفي عام 1937 م، وهو في ريعان شبابه لم يتجاوز الخامسة والعشرين! فيبدو أنّه نظر في المرآة فرأى حسن شبابه وصغر سنه فراح يخاطب صورته في المرآة وكأنه يخاطب شاباً طريراً آخراً! فطرير الشباب هو الشاعر نفسه، وقد اتَّبَعَ الشاعرُ إدريس جماع (1922-1980) نفس الرمزية ونفس الأسلوب في حديثه عن نفسه، فقد تحدث عن شخصٍ آخر وهو في الحقيقة يتحدث عن نفسه! فقال :
ماله ايقظ الشجونَ فقاســــت *** وحشةَ الليلِ.. واستثار الخيالا
ماله فى مواكب الليل يمشى *** ويناجى اشباحه والظـــــلالا

هين تســتخفه بسمة الطفل *** قــــوي يصـــــارع الأجــــــيالا
حاسر الرأس عند كل جـمالٍ ***مستشفٌ من كل شيءٍ جمالا
ماجنٌ حطم القيود وصـــوفيٌ *** قضى العمر نشــــــوةً وابتهالا

خُلِقت طينةُ الأسى وغشتَها *** نارُ وجدٍ فأصبحت صـَــلصَـــالا
ثُم صاحَ القضاءُ كُوني فكــانت *** طينةُ البؤسِ شاعراً مثــــــالا
يتغنى مع الريــــــــاحِ اذاغنت *** فيُشجي خمـــيلَه والتـــِــلالا
صاغ من كل ربوة منبراً يسكب*** فى سمعه الشجون الطـوالا
هو طفلٌ شاد الرمال قصــــوراً *** هي آمـــاله ودكَّ الـرِمــــــالا
كالعودِ ينفحُ العِطـــــــرَ للناسِ *** ويَفنـــــى تَحــرُّقاً واشــــتِعالا
ماهي "انشودة الجن" التي جن بها الناس جنوناً؟ هكذا تسائل الدكتور عبد اللطيف سعيد

فالشاعر يبدأ قصيدته قائلاً :
قم ياطرير الشباب غنّ لنا غنّ
ياحلو يا مستطاب انشودة الجن
الشاعر في هذا الطلب يؤكِّد على الأسطورة الجاهلية التي تربط الشعراء العرب بوادي الجن الذي يسمونه "وادي عبقر"، فالأسطورة تزعم أن لكل شاعرٍ شيطانٌ ينفثُ فيه الأشعار ويرسم له الخيال. فالتيجاني يبدو أنَّه قد استلطف الأسطورة وبنى عليها، وبهذا يكون قد حافظ على معتقدات العرب التاريخية فيما يتعلق بهذه الأسطورة التي تربط شعراء العرب بالجنِّ، وفي هذا الربط إشارة لطيفةٌ لعبقريتهم في التصوير والتعبير دون غيرهم من شعراء العالم.
فأنشودة الجن هي نفسها هذه القصيدة التي بين أيدينا والتي ستدخل قرنها الأول في بضع سنين إن شاء الله. فهي قصيدة متميزة في خيالها ورمزيتها ولا يستطيع أن يأتي بها إلا ذلك الشاب الطرير صاحب الحديث الحلو والمجلس المستطاب المتصل بعالم الجن. فمن هو ذلك الشاب ياترى؟ إنَّه هو الشاعر نفسه يخاطب غيره ويقصد نفسه!
فهو قد طلب من طرير الشباب طلباً غريباً هو:
وأقطف لي الأعناب....وأملأ بها دنّي
من عبقري الرباب....أو حرم الفنِّ
وكما قال الدكتور عبد اللطيف سعيد متعجباً ومتسائلاً: " لكن العجيب في الأمر أن هذه الأعناب ليست من بستان كسائر الأعناب ولكنها من عبقري الرباب ومن حرم الفن ....ماهو عبقري الرباب؟ وماهو حرم الفن؟....والناس لايسألون وكلهم يعجبون ويغنون ويرقصون !"
الشاعر هنا يتكلم عن لذةٍ معنويةٍ تتجسد في أشياء حسية، فكما أنَّ الأعناب تُعصر ويُشربُ عصيرها لذةً للشاربين، فكذلك للرباب والفن عموماً أعناباً تُعصر فتملأ الكأس لذة للشاربين! وهذه المطالب هي تمهيد من الشاعر للحديث عن عبقريته في التعبير والتصوير الشعري، فهو ينادي نفسه في صورة ذلك الشاب قائلاً:

صِح في الربىّ والوهاد.. واسترقص البيدا
واسكب على كل ناد.. ما يسحرا الغيدا
وفجِّرِ الأعواد.. رجعاً وترديدا .
حتى ترى في البلاد.. من فرحةٍ عِيدا
فهذه الأنشودة التي سيأتي بها شاعرنا من وادي الجن سينشدها بصوتٍ عالٍ في الربى والمرتفعات العالية وكذلك في الوهاد المنخفضة، فهي أنشودةُ ستجعل تلك البيداءَ القاحلة البائسة ترقص فرحاً عند سماع كلماتها، وسيسكب شاعرنا على كلِ نادٍ من معاني تلك الأنشودة الجميلة، والكلمات الرائعة، ما يسحر الفتيات الغِيد اللاتي مالت أعناقُهن ولانَتْ أَعْطافُهن، فأصبحن يتثنين في المشي من شدة اللين وهنّ في أنفسهنَّ جمالٌ يعشقُ الجمالَ! طلب منه أن يُغنِّي ويلحِّن لهن هذه الأنشودة لتزداد جمالاً وحسناً على حسنها، فأمره أن يفجّر بها الأعواد لحناً عبقرياً تتردد فيه النغمات عبر الأثير حتى يُرى في البلاد من كلماتِها ولحنِها عيداً يفرِح به الكل.
ثم يقول التجاني :
وأمسح على زرياب وأطمس على معبد
وامشي على الأحقاب وطف على المربد
واغشى كنار الغاب في هدأة المرقد
وحدث الأعراب عن روعة المشهد
والتيجاني بخلفيته القرآنية ودراسته الإسلامية في المعهد العلمي، رمى لنا عمداً بكلمة فيها إشكال وهو عالمٌ بذلك الإشكال. هذه الكلمة هي كلمة "أمسح"، فيبدو أنّ لشاعرنا خلفية عن الخلاف الذي دار بين المفسرين حول قصة سيدنا داوود في تفسيرهم لقوله تعالى {وطفق مسحاً بالسوق والأقدام} فبعضهم فسر كلمة "مسح" بمعنى أنَّ داوود عليه السلام قد أهلك وأفنى وأباد الخيل، بينما فسرها الآخرون بمعنى تمرير اليد على الشيء بلطف، فداوود قد مسح بيده عليها شاكراً نعمة الله عليه.
فأي المعنيين يقصد الشاعر؟ هل هو يريد أن يَهلِك زرياب أم يريد أن يمسح على رأسه بلطف؟ وإن سلمنا جدلاً أنَّه أراد أن يهلكه فلماذا يهلكه؟ وكيف يهلك من قد هلك أصلاً ؟
في الحقيقة إنَّ التيجاني هنا يدعو لهلاك مذهب وإحياء آخر لا لهلاك أشخاصٍ بعينهم، وهذه الدعوة لا تتجلى إلا أذا أحطنا علماً بسيرة زرياب ومعبد بن وهب وهما رائدا الغناء العربي بلا منازع .
فالمصادر التاريخية تذكر أنَّ زرياب هو أبو الحسن علي بن نافع الذي وُلد في الموصل بالعراق في القرن الثاني للهجرة (173ه - 243 هـ)، وهو موسيقي وفلكي عذب الصوت عاصر الخليفة العباسي هارون الرَّشيد. ولزرياب إسهامات كبيرة ومتنوعة ومتعددة في مجال الموسيقى العربية. وقد لُقِّب بـزرياب لعذوبة صوته ولون بشرته الأسود، وقد لعب الرجل دوراً مهاماً في نقل مظاهر الحضارة الاسلامية والموسيقى العربية على وجه الخصوص إلى الاندلس ومنها إلى أوروبا فالعالم الغربي كله. وفي هذا الخصوص يقول أحد الباحثين:
"اما الدور المهم والخطير (في تاريخ الموسيقى) فقد قام به ابو الحسن علي بن نافع الملقب (زرياب) بعد ان دخل الاندلس في زمن الخليفة عبد الرحمن الثاني في عام 822 م، حيث كانت قرطبة مركزاً لأرقى الحضارات، وقد استطاع هذا الموسيقار الطموح الذي اشتهر باسم (العندليب المغرد) أن ينفِّذ مشاريعه الفنية في نشر الموسيقى الشرقية من خلال تأسيسه لأول معهد للموسيقى بعد ان استدعى إليه المغنين من المدينة المنورة، وقد وضع شروطاً يجب توفرها للمتقدمين الى المعهد منها: على المتقدم ان يجتاز امتحان يحدد فيه درجة استعداده الذاتي للغناء وإلا تعذَّر قبوله، اما مناهج المعهد فتشتمل على: العزف، الغناء، التلحين، والشعر والرقص. وعمل على توفير مستلزمات المعهد، فعمل على نقل جميع الآلات الموسيقية انذاك الى الاندلس، وطوَّر العود بإضافة الوتر الخامس له! وكان الاقبال على المعهد كبيراً وتوافد الطلبة من ارجاء اسبانيا ومن فرنسا والمانيا وانكلترا حتى ان ملك انكلترا (جورج الثالث) اوفد ابنة اخته (دوبانت) مع اكثر من عشرين طالباً للدراسة في هذا المعهد حتى بلغ عدد الطلبة 700 طالب وطالبة! بعدها انتشرت المعاهد الموسيقية في اشبيلية، وبلنسية وغرناطة. واهم ما اشتهرت به الاندلس فن الموشحات والزجل، ويذكر سيمون جارجي في مؤلفه (الموسيقى العربية): إنَّ زرياب الذي نقل الموسيقى البغدادية، وفق الاسس التي بنيت عليها، عمل على اخضاعها لتطور خلاق وذكي، واضفى عليها طابع اندلسي بحت، أي جعل لها خصوصيتها. إنَّ زرياب الذي زاد وتراً خامساً لعود اسحق الموصلي، اخترع أيضاً مضراب العود من قوادم النسر عوضاً عن مضراب الخشب." (مزاحم الجزائري)
بدأ زرياب نشاطه الموسيقي في مدينة قرطبة فأسس فيها معهداً للغناء والموسيقى يعتبر أولَ مدرسةٍ من نوعها في العالم تخصصت في تعليم قواعد وفنون الموسيقى والغناء، وقد أعجب الخليفة عبد الرحمن الثاني بالفكرة فبنى لها داراً سماها "دار المدنيات "
.. ولم يكن أثرُ زرياب مقصوراً على تطوير الموسيقى والغناء فقط، وإنّما تعداه لنقل أجمل ما في بغداد إلى قرطبة ومنها إلى سائر الأندلس. فمثلاً قد نقل ذوق الأقمشة والألوان من القصور لعامة البيوت وخاصة بيوت الأغنياء. وقد "فتن الناس فوق هذا كله بآدابه وسعة ثقافته وتنوع معرفته. وكان عالماً بالنجوم. وتقويم البلدان وطبائعها ومناخها، وتشعب بحارها، وتصنيف شعوبها".
وكتب عن زرياب علماء التاريخ الأسباني ونسبوا إليه أنه ارتقى بالذوق العام في الأندلس "ووصفوه بأنه الرجل الأنيق في كلامه وطعامه. وكيف كان يلفت الأنظار إلى طريقته في الكلام والجلوس إلى المائدة أيضاً. وكيف يأكل على مهل ويمضغ ويتحدث ويشرب بأناقة.... وكان يضع على مائدته الكثير من المناديل، هذه لليدين وهذا للشفتين وهذا للجبهة وهذا للعنق، وهو أول من لفت أنظار النساء إلى أن مناديل المرأة يجب أن تكون مختلفة اللون والحجم وأن تكون معطرة أيضا". ولهذا يقال إنّه هو مبتكر فن ال "“الإتيكيت"، أو فن الذوق العام، "وكان له ذوقه الخاص في تنسيق الموائد وتنظيمها واتخاذ الأكواب من الزجاج الرقيق بدلا من المعادن، واصطناع الأصص للأزهار من الذهب والفضة". "وقد اشتهر عنه إقامة الولائم الفخمة وتنسيقها وترتيبها وكان ذلك كله النواة الأولى في فخامة قصور ملوك الأندلس وبيوت الأغنياء وأناقتهم. وفي الزي والتصميم تخير زرياب البساطة والتناسق والرشاقة، وادخل الشطرنج إلى الأندلس ومنها إلى أوروبا" وبالإضافة لذلك فقد أدخل زرياب على الموسيقى مقامات كثيرة لم تكن معروفة من قبله، وافتتح الغناء بالنشيد قبل بدء العزف بالآلات والضرب على الدفوف.
وهذا يعني أنَّ المسلمين في العصرين الأموي والعباسي قد تركوا إرثاً هائلاً ومهماً من العلوم والثقافة والفنون التي أخذوا بعض آلاتها من الفرس، والهنود، واليونان، فطوروها وأضافوا إليها نظرياً وعملياً.
فإذن لزرياب مساهمات حضارية كبيرة، وله إبداعات شتى، وله مذهبٌ فني اعترف به الغرب الذي استفاد من علمه وتجربته وآثاره الفنية. وفي الحقيقة إنَّ علماء التاريخ الغربي قد قدروا زرياب أيَّما تقدير! تقديراً جعلهم ينحتوا له تمثالاً تذكارياً في أسبانيا (الأندلس سابقاً) بينما أهمله التاريخ العربي والإسلامي، فأصبحت سيرة زرياب لا يعرفها إلا قليلٌ من الناس، ولا شك أنَّ شاعرنا التيجاني واحدٌ من هذه الفئة القليلة. فلذلك طلب التيجاني من طرير الشباب أن يمسح على رأس زرياب وظهره مسحة حب وإعجابٍ ومواساة لما قدم للبشرية من فن رائع، وأمره أن يمسح عنه وعن مذهبه الفني غبار الزمان الذي غطاه وكاد يدفنه!
أمّا معبد المغني فقد سبق زرياب بحوالى قرن كامل، وهو معبد بن وهب، وكنيته أبو عبَّاد المدني، وكان مولى لبني مخزوم وكان أبوه أسود اللون، فجاء معبد خُلاسيا جميلاً مديد القامة، نشأ في المدينة المنوّرة يرعى الغنم لمواليه وهو صغير ثم عمل بالتجارة عندما كبر. ويعتبر معبد نابغة المغنين في عصره الأموي وقد عمّر طويلا، حتى انقطع صوته وتوفي عام 126هـ ، وقد نبغ في الغناء منذ صغره؛ وقد أجاز صوته المغني ابن سُريج وكان معبد من أحسن الناس غناءً وأجودهم صنعةً وأحسنهم خُلقاً، فأصبح إمام أهل المدينة في الغناء، فقال عنه أهل الغناء: «لم يكن فيمن غنى أحد أعلم بالغناء من معبد»، فأقبل عليه كبراء
المدينة.
ومن الواضح أنَّ دور معبد بن وهب وعبقريته الفنية لا تُقارن بأيِّ حال من الأحوال بعطاء زرياب وعبقريته ومنهجه الفني. فلا أحدٌ يشك في أنَّ مِعبد من المغنين الذين تميزوا بغزارة إنتاجه، ورقي أغانيه، وتنوع أصواته، فقد عرف الرجل بجودة الصوت وصنع الألحان الجديدة. ومع ذلك لم يكن معبد أكثر من مغنٍ حسن الصوت عالمٌ بفنون الغناء في عصره الأموي تميّز بعبقرية في خلق الأصوات والألحان الجديدة وليس له أثر فيما بعد ذلك.
هذا الإبداع بالنسبة للتيجاني غير كافٍ مقارنة بمذهب زرياب الفني الشامل. والتيجاني رجل ناقدٌ وشاعرٌ ومفكر، والنقَّاد دوماً في حالة ترجيح ومناصرة لمذهب على مذهب. أستمع كيف تكلم التيجاني بحرقة عن المذاهب الأدبية والترويج لها في هذا المقطع الذي ينتقد فيه أهل السودان قائلاً:
" من العجيب ألا يكون للمذاهب الفلسفية أو الأدبية على كثرتها أثر فى هذا البلد. والنضال الذى يحتدم ويستعر فى بطون المؤلفات وعند انصار رأيٍ واشياعُ آخر، ودعاةُ مذهبٍ واتباعُ آخر ، يصرخ بعيداً عن عالمنا هذا. وحتى الذين يقبسون لنفوسِهم شيئاً من هذا القبس الفكرى، لم يُوجد لديهمُ الإيمان القوي بأنّ الترويج بهذه المذاهب والاراء والنظريات يصحُّ أن يتقدمَ بالحياةِ هنا خطوة واحدة. ولهذا فانك غيرُ واجدٍ عند أحدهم ايماناً صحيحاً أو مناصرةً حقيقيةً لما قرأ من مذاهبٍ او شدا من أفكارٍ.
لأنّ في الواقع أنّ الذى يحيا هذه الحياة الفكرية يضرمه شوقٌ عنيفٌ الى الحديث عنها، والدعاية لها بشتى الوسائل غير مبقٍ جهداً فى سبيل تعميمها وسوق الناس اليها، وبثها فى ارواحهم مؤمناً بقوة الحق الذى فيها، مطمئناً الى ما تحملُ من خيرٍ ونور. ولن تجد (في السودان) أيضاً من يدعو أو يبشر بمذهبٍ أدبيٍ خاص يقتنع بضرورة الأخذ به ويكافح مخلصاً فى الدفاع عنه والتعريف به والتحبيب اليه.
فهل معنى هذا أن ليس فى العالم فكر؟
وهل معنى هذا أن ليس في الوجود مذهب؟
أم هل معناه إنا أمة أكبر همها أن نحيا الحياة فى أخف أوضاعها فتلتفت بها الأيام ويلتوي عليها الدهر وكأن لم تتمتع أبداً بشُعاعٍ من نور العقل!. الواقع أنّ السودان اليوم على رغم ما يروجون عنه من دعاية للفكر كاذبة ليس هو إلا بلدا لا سلطان للفكر فيه بحال وليس يألف –أن اتفق له من هذه الحياة (الفكرية) شي- إلا أخفها على العقل وأيسرها على النفس وإلا أطرافا من الفكر الذي لا يمكن إلا أن يدفع بها فى كل مجتمع يتألف من هذا المخلوق الناطق. ولو كان هذا هو كل ما يصح أن يقوم به أمر الإنسان فإنّ الغرائز وحدها لكفيلة أن تسدّ مسده فلا حاجة لنا بفكر لا شأن له إلا أن نعرف به بسائط الوجود." (التيجاني، مقال عن القيادة الفكرية)
بعد هذا يمكننا أن نقول إنّ التيجاني الناقد كان يرجح مذهب زرياب الفني الشامل المتعدد والمنفتح على مذهب معبد بن وهب الضيِّق المنغلق...أو أنّه أراد أن يرجح العصر العباسي الذي توسعت فيه العلوم وتقدم فيه الفن وهو العصر الذي عاش فيه زرياب على العصر الأُموي الذي عاش فيه معبد بن وهب...أو أنَّه يقصد بزرياب أحمد شوقي ويرمز للشاعر حافظ إبراهيم بمعبد! وقد كانت مناصرته لشوقي سبباً في فصله من المعهد العلمي في قصة مشهورة. ففي كل الأحوال إن التيجاني يرمز لمذاهب وعصور وأنواع من التفكير والحياة بينهما إختلاف واضح وشاسع.

ثم يأمر الشاعر طرير الشباب قائلاً:
وامشي على الأحقاب وطُف على المِربَد
واغشى كنارَ الغاب في هدأةِ المرقَد
وحدثِ الأعراب عن روعةِ المشهَد
فهو يريد من طرير الشباب أن يمشي للوراء في أحقاب الزمان ليغشى سوق المربد الأدبي حيث يتجمهر نوابغ الشعر والفكر واللغة ليعرض علبهم أنشودة الجن ويتحداهم بها! والمربد تبعد من مدينة البصرة بثلاثة أميال وقد كانت تقام فيها مبارزات في الشعر بين الفرزدق وجرير وكان في الجاهلية سوقاً للابل ولذلك سمي بالمربد. ولأنَّ المربد موقعها جيدٌ جغرافياً أصبحت سوقاً إسلامياً لتبادل الأفكاروالثقافات والشعر والبلاغة في بداية العصر الأموي، فأصبح عكاظ المسلمين وظل مزدهراً حتى بدايات القرن الخامس الهجري، وفي المربد يوجد قبر الصحابي الجليل الزبير بن العوام.
ثم من بعد المربد أمره أن يغشي كنار الغاب لنفس المهمة التي قام بها في المربد، وهي عرض أنشودة الجن على كنار الغاب! ونلاحظ أنَّ الشاعر جاء بكلمة "كنار الغاب" على وزن "أسد الغاب"! وأسد الغاب هو ملك الغاب في القوة والسطوة، أمّا كنار الغاب هو ملك الغاب في الفن والذوق والإنشاد. والكنار طائر وديعٌ جميل الشكل يحب التغريد والهدؤ والنوم. فالشاعر أراد لكنار الغاب أن يستيقظ من نومه العميق في هدأةِ المرقَد ليسمع هذه الأنشودة العبقرية التي هي خيرٌ من النوم!. أنشودة سمعتها الرُبى والوهاد والصحارى البيد، وسمعها المربد في أحقاب الزمان فحُق لكنار الغاب أيضاً أن يسمعها!! فيا لها من أنشودةٍ إذن!!
ثم أمر الشاعر طرير الشباب أن يختم رحلته الفنية الأدبية بحديثٍ للأعراب عن روعةِ المشهَد! روعة مشهد البيد الراقصة والغيد المسحورة، والربى والوهاد وهي تُأوِّب الأنشودة..روعة مشهد الإدباء وهم يحتفون بأنشودة الجن في سوق المربد..روعة غناء وتلحين كنار الغاب للأنشودة..
وفي ظنّي أن الشاعر يقصد بالأعراب قومه من أهل السودان وقد مرَّ بنا قوله: " من العجيب ألا يكون للمذاهب الفلسفية أو الأدبية على كثرتها أثر فى هذا البلد" وتشمل الكلمة أيضاً كل من لا يتذوق الأدب والفن ولا يعيش من حياته العريضة "إلا أخفَّها على العقل وأيسرها على النفس"، ويعيش على أطراف لَممٍ من الفكر الذي لا يسمن ولا يدفع بالإنسان فى معارج الكمال. وهذه الحياة الخفيفة التي يعيشها أهل السودان والتي هي أشبه بحياة الأعراب في تفكيرهم ومسلكهم ومعاشهم، جعلت التيجاني يضيق صدراً بوطنه ويحاول جاهداً وجادَّاً الخروج منه داعياً الله تعالى قائلاً فيما نقل عنه: "نسأل من سلط عليها تلك الشمس المحرقة أن يكتب لنا منها الجلاء، فلا يهزنا إليها شوقٌ ولا يدفعُ بنا نحوها حنين". فهو يريد أن يُحدِّث مجتمع السودان البدوي بروعة المشهد الأدبي والفكري الذي يذخرُ به حرم الفن. والتيجاني في عدائه للأعراب كأنّه تأثَّر بأبي نواس في هجائه لهم حين قال:
لا تأخُذْ عن الأعْرابِ لهْواً، و تُبلي عَهدَ جِدّتِها الخطوبُ
وخَلّ لِراكِبِ الوَجْناءِ أرْضاً تَخُبُّ بها النَّجيبة ُ والنّجيبُ
بلادٌ نَبْتُها عُشَرٌ وطَلْحٌ وأكثرُ صيْدِها ضَبُعٌ وذيبُ
و لا تأخُذْ عن الأعرابِ لهْواً ولا عيْشاً فعيشُهُمُ جَديبُ
دَعِ الألبانَ يشْرَبُها رِجالٌ رقيقُ العيشِ بينهُم غريبُ
إذا رابَ الْحَلِيبُ فبُلْ عليهِ و لا تُحرَجْ فما في ذاك حُوبُ
فأطْيَبُ منْه صَافِية ٌ شَمُولٌ، يطوفُ بكأسها ساقٍ أديبُ
يسْعى بها ، مثل قرنِ الشَّمس، ذو كفلٍ يشْفي الضَّجيعَ بذي ظَلْمِ وتَشْنيبِ
أقامَتْ حِقْبَة ً في قَعْرِ دَنٍّ، تفورُ، وما يُحَسُّ لها لهيبُ
كأنّ هديرَها في الدّنّ يَحْكي قِرَاة َ القَسّ قابلَهُ الصّليبُ
تَمُدُّ بها إليكَ يدَا غُلامٍ أغَنّ ، كأنّهُ رَشأٌ رَبيبُ
فمن يتأمل مفردات قصيدة أبي نواس ومعانيها يجد بعضها متضمنٌ في قصيدة أنشودة الجن أيضاً، إذ تربط بين القصيدتين وحدة موضوعية.
ثمَّ يأتي التيجاني بعد ذلك الطواف ليخاطب طرير الشباب فيقول له:
صوِّر على الأعصاب....وأرسُم على حِسِّي
جمالك الهيّاب....من روعة الجَرسِ (الصوت)
واستدنِ باباً باب....واقعُد على نفسي
حتى يجفّ الشراب....في حافةِ الكأسِ
أي صور وارسم على أعصابي وحسي جمالك الهياب ليبقى أبد الدهر معي لا يفارقني. وجمال فنِّك الهياب يزيده جرسُ الغناءِ روعةً وجمالاً...وهنا يطلب من طرير الشباب أن يستدن أبواب الفن باباً باب حتى يملك الفن عليه أنفاسه فيجفَ شرابُه في حافة الكأس عند إنتهاء أجله.....هذه هي أنشودة الجن التي فُتن بها الناس.. فأرجو أن أكون قد وفِّقتُ في حل طلاسمها ورموزها التي تدور حول شخصية الشاعر ومذاهبه الفنية والأدبية، وليس كما ظنّ أستاذنا د. عبد اللطيف سعيد أنَّها تدور حول قضايا روحية أو دينية أو صوفية.

 

آراء