النفط مُقابل الدم الحَرام . بقلم: فتحي الضَّو

 


 

فتحي الضو
13 May, 2018

 

 

بعد ثلاثة عقود من التردي الكامل والدمار الشامل، الذي أصاب كل مرافق الحياة في المجتمع السوداني، أصبح الحديث المكرُور بالتفاصيل التي ظلَّت تتواتر رواياتها حتى ملَّ الناس سماعها، هو محض إهدار للوقت فيما لا طائل يُجنى من وراءه، كما أن ذلك يُعد ضرباً من ضروب الكسل الذهني وتبلد الحس الوطني. ليس لأن تلك فصول تجري على قدم وساق أمام أعيننا، وليس لأنها شنَّفت آذاننا بشفتين ولسان مبين، وليس لأنها باتت تستفز وطنيتنا بسفور أعجز كل معتدٍ أثيم، ولكن لأن الدوران حولها دون فعل مُنتظر، أصبح يطربهم ويطمئنهم بأن ما يسمعونه هو مجرد جعجعة لن يعقبها طحيناً. ونحن إن ظللنا نُذكِّر الناس بها على مدى سنوات القحط والجفاف، فقد كان ديدننا من وراء ذلك أن تظل هذه الحقبة المأساوية بكل تفاصيلها التي - استنطقت الصخر العصيا - ماثلة في حياة الشعب السوداني، حتى لا يصيبها ما أصاب غيرها من أمهات قضايا تسربت من ثقوب ذاكرتنا (الغربالية) كما يترسب الماء الزلال من بين الأصابع!

على صعيد ثانٍ، فقد يقول قائل; مع ذلك لن نفقد الإيمان بقدرة الشعب السوداني في إصلاح ما أفسدته العصبة ذوي البأس في كل مناحي الحياة؟ وهو قول لا يقاربه الباطل ولا يساورنا فيه أدنى شك، بل نحن من المؤمنين به إيمان العجائز، لكن الذي ظلَّ يؤرقني وبات يراودني آناء الليل وأطراف النهار.. هل نحن قادرون على إصلاح قيم ومُثُل وأخلاق ضعضعتها وخلخلتها وهشمتها حوافر خيول المغول؟ هل نحن قادرون على استرداد صفات ظللنا نتباهى بها تيهاً وخيلاء بين أمم وشعوب الكرة الأرضية؟ هل ما يزال فينا من يمكن أن يطيل النظر في وجه من ينعته بالجبن والخوف والخذلان، حتى لو كان في المهد صبياً؟ هل يمكن أن تصمد الحِمية الوطنية أمام حديث متنطعٍ من سلالة عبد الله ابن أبي سلول، يوصف الجيش السوداني بالعمالة والارتزاق، وبرهانه يقف بين يديه؟ هل يمكن لعين بكت من خشية الله أن تدافع عن رئيس قاتل وفاسد وكاذب، وهي تعلم أنه ظلَّ يتحرى الكذب، ويختار من قاموس البذاءة والانحطاط ما يتضاءل عن نطقه وترديده أرذال الناس وجهلائهم؟

إن الحديث عن القيم والمثل والأخلاق هو ما ينبغي أن يشغل بالنا حقاً، ولهذا ما كنت أتمنى العيش حتى أرى الكرامة السودانية وهي تُشيَّع لمثواها الأخير في ظل دولة أصحاب الأيادي المتوضئة. شاهدنا وقرأنا وسمعنا أزلامها يتهافتون نحو الإعلام المقروء والمسموع والمرئي لمواراة تلك الكرامة الثرى؟ أن يسأل فقير الناس إلحافاً، فذلك ما اعتاد عليه الخلق في كل بقاع الدنيا، أعطوه أو منعوه. أما أن تسأل دولة أُفقِرت بفساد مسؤوليها، دولة أخرى مترفه بكثرة مواردها، فذلك لعمري فسوق وفجور ونقص في الوطنية. وقديماً كان الناس يقايضون احتياجاتهم في سبل العيش بما يماثلها، أما أن تقايض دولة النفط الأسود مقابل دماء مواطنيها الحمراء، فذلك استهتار بالأرض والعرض والقيم الإنسانية جمعاء.

إذاً ما الذي حدث يومذاك؟ الذي حدث هو أن الكارثة الاقتصادية التي أصبحت تنذر برحيل النظام، قد كشفت عن حجم الأزمة الأخلاقية التي تتستر بالكواليس، وهي أشد وطئاً مما يتصورون. إذ حلَّت عقدة في لسان الذين لم يراعوا الحياء السوداني المعروف، فقالوا بلسان عربي فصيح إن الدم السوداني مقابل الريال السعودي. ذلك على عكس ما كان يقال من تفسيرات بوهيمية وانتهازية على مدى ثلاث سنوات بالتمام والكمال. قالت الطغمة الحاكمة ابتداءً إن مشاركة الجنود السودانيين في حرب اليمن جاءت بمنطلقات عقدية لحماية أرض الحرمين الشريفين. وهنيهة تغير التفسير وأصبح من أجل استعادة الشرعية في اليمن. وزاد عبد الرحيم محمد حسين أو الرجل الأعجوبة في دوائر النظام، بقوله إن أمن المملكة خط أحمر، وكأن هذه المملكة هي (حلايب) أو (الفشقة) المحتلين جهاراً نهاراً. وطبقاً لهذه الترهات وبموجب صفقة غير أخلاقية، دفعت العُصبة بأرتال من الجنود، الذين لقوا حتفهم بأعداد مهولة قاربت الألف (ضباطاً وجنوداً) ولعل طبيعة أرض المعركة التي لم يخبروا دروبها، كانت سبباً في كثرة عدد الضحايا، علاوة على أنها حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل. ومن المفارقات المؤلمة أن عدد ضحايا السعوديين والإماراتيين معا لم يصل عدد السودانيين المذكور.

إن السؤال الذي طرحه أزلام النظام عن لماذا أحجمت المملكة السعودية عن مد يد (العون) للنظام لحل أزمته الاقتصادية، حدا بنا للبحث في أضابيرها وتتبع خيوط ملابساتها، وذلك في محاولة لكشف المستورـ فالشاهد أن أولئك لم يبحثوا عن الإجابة وهي تحت أقدامهم، وكان حري بهم أن يكون السؤال: ما الذي حدث للأموال التي دفعتها المملكة ثمناً للدم السوداني؟ طبقاً لمصادر عليمة، نضع بين يد القارئ الحقائق التالية، والتي تتضمن أرقاماً التقفتها البطون الفاسدة، ولربما أجابت على السؤال الخجول.

أولاً: قالت لنا المصادر العليمة، ليس صحيحاً أن المملكة لم تقدم يد (المساعدة) فقد بلغت (إمداداتها) في المقايضة مع النظام السوداني، من معونات وهبات وودائع مليارية منذ أن شاركها النظام الحرب الكارثية في مارس عام 2015 وحتى اليوم نحو عشرة مليار وستمائة مليون دولار. وبعد أقل من عام من المشاركة أي في العام 2016 قدمت المملكة خمسة مليارات دولار مساعدات عسكرية للجيش السوداني والأجهزة النظامية الأخرى، بعد أن كانت تُقدم للجيش والأمن الداخلي اللبنانيين. كما تحتل السعودية المرتبة الأولى في الاستثمار في السودان بعدد 505 مشروعاً متنوعاً وبتكلفة بلغت 11 مليار دولار، رُفعت خلال العام الحالي إلى 26 مليار دولار، ويتوقع أن تزيد حتى تصل إلى 30 مليار دولار طبقاً لما أكد المصدر.

فيا أيها الغافلون والذين ينكرون ضوء الشمس من رمد، أسألوا عصبتكم وكبيرهم ساكن قصر غردون والمتستر الأول على دولة الفساد: أين ذهبت هذه الأموال؟ علماً بأن المصدر أشار إلى أن هذا السؤال هو ما فتئت تجيب به المملكة على القادمين لها زرافات ووحدانا، ولم تنقطع أرجلهم لزيارتها بدعوى أداء العمرة وزيارة أرض الحرمين الشريفين، وفي كلٍ كانوا يعودون بخفي حنين وبكرامة مهدرة.

وفقاً للمصدر أن المملكة رأت إن الأمر لا يخلو من ابتزاز، وهم يعلمون أن نظام العصبة لن يقدم على سحب الجيش من اليمن، لأن المملكة ما زالت تتكفل برواتب الأحياء منهم والأموات، وإن فعلت فإن الحرب نفسها قاب قوسين أو أدنى من التوقف أو الانتهاء، وفقاً لمعايير وظروف دولية وإقليمية باتت أكثر وضوحاً من الشمس في رابعة السماء. كما لم يستبعد المصدر نظرة بعض القائمين على أمر الحرب في المملكة، في أن مشاركة الجنود السودانيين هي محض ارتزاق مدفوع الثمن، إلى جانب أنهم يعلمون أن نظام الخرطوم لن يضيرها بشيء إذا ما اتجه نحو قطر، علماً بأن شرط قطع العلاقات معها ظل حاضر دائماً، وهو شرط وُجِّه لنظام الخرطوم مراراً وتكراراً، وذلك ما لم يجهروا به بالطبع ولكن ضجت به ردهات القصور الملكية.

ثانياً: بات من المعلوم للمراقبين والمتابعين أن إدارة شئون المملكة السعودية الخارجية والداخلية أصبح جهاز التحكم الآلي فيها في يد ساكن البيت الأبيض، والذي لم يتورع في ذكر الابتزاز صراحة في تصريحاته الهوجاء، وبخاصة الجوانب المالية. وانطلاقاً من هذه يقول المصدر إن الإدارة الأمريكية تنتهج سياسية غامضة تجاه النظام السوداني، باطنها الشر وظاهرها الخير كما يوهمونه. فالإدارة الأمريكية لا تثق في النظام السوداني، واستبدلت سياسية الجذرة والعصا بسياسة المكافأة بقطعة حلوى Piece of candy كما هو معروف في الثقافة السياسية الأمريكية، لا سيما بعد التصريحات غير المسؤولة للمشير البشير في روسيا، والتي كشفت عن جهله بأبجديات السياسة الدولية وعدم مراعاتها الدبلوماسية والكياسة.

المعروف أن الإدارة الأمريكية نجحت في إبعاد الصين نسبياً من الحلبة السودانية، بعد أن كانت لاعباً أوحداً على مدى أكثر من عقدين، وذلك وقفاً لمقتضيات المصالح المتبادلة وخاصة الميزان التجاري الضخم مع الولايات المتحدة الأمريكية، وقد تركت الصين البلاد تعوم في بحيرة من الديون والقروض بعد أن كانت تعوم في بحيرة من النفط. وعليه تريد الأدارة الأمريكية إيصاد السبل أمام روسيا لكي لا تحل محل الصين في التعدين وغيره، لا سيما، وأن المنطقة في حالة تحولات متسارعة. وخلاصة الأمر طبقاً للمصدر فإن إحجام المملكة السعودية عن مد يد (العون) لنظام الخرطوم بات واضحاً وجلياً من أنه يأتي بأوامر من البيت الأبيض للأسباب سالفة الذكر، وإن حدث فسيكون مشروطاً بثمن باهظ.

ثالثاً: يقول المصدر إن الإدارة الأمريكية تريد أن تلعب أثيوبيا دوراً إقليمياً في القارة الأفريقية صعوداً إلى أعلى، يتناسب وحجمها الديمغرافي والاقتصادي الذي بات ينمو نموا مطرداً، وهذا لن يتأتى إلا بتفريغ كل شحنات النظام السوداني، وبالذات الموارد المختلفة وقتله كمداً بالعوامل الاقتصادية. لا شيء سوى أنه في دوائر صناعة القرار الأمريكية ما يزال يمثل أحد دعائم الإسلام السياسي أو (الإرهاب) بلغة أخرى، حتى وهو يحتضر قبل أفول نجمه.

صحيح نحن قد رزئنا بنظامين ديكتاتوريين ذقنا منهما من العذاب ما ظننا أنه سيكفي ما بقي السودانيون على قيد الحياة. ولكن جاءت علينا ديكتاتورية ثالثة مقنعة بالدين وجثمت على صدورنا ما يناهز الثلاثة عقود زمنية كالت لنا فيها من العذاب والانحطاط الأخلاقي ما ينوء بتحمله سكان الكرة الأرضية قاطبة. ولا أتصور أن ظروفاً أقسى من الظروف الحالية ممكن أن تمر بها البلاد والعباد. فما الذي تبقى لنا ونحن نرى وطناً رؤوماً يقف على حافة جرف هار وهاوية ليس لها قرار؟ ما الذي يمكن أن نتباهى به فخراً وهذا الوطن يترنح ضعفاً بين أن يكون أو لا يكون؟ يمد لنا يداً يرجونا أن ننفذه وهو يصارع ريحاً صرصراً عاتية، ونحن صمٌ بكمٌ عميٌ كالأنعام بل أضل سبيلاً؟ لم يبق في وجوهنا مزعة من كرامة نلقمها تلك الهوية السودانوية التي تمسكنا بها شعوب وقبائل لتنقذنا من شراك نصبتها لنا العصبة ذوي بالبأس.

على مدى ثلاثة عقود اعتادت عيوننا على انتهاك الأخلاق يوماً بيوم، وأدمنت آذننا قصص فساد تعوَّذ منها أبليس ورهطه. على مدى ثلاثة عقود كنا شهود على الفضيلة وهي تُذبح في وضح النهار. تعايشنا مع الفقر حتى شاركنا المأكل والمشرب والملبس والشهيق والزفير. كتمنا آهاتنا وقمعنا أنينا حتى لا تنطق ألسنتنا بكلمة حق في وجه السلطان الجائر. يسمون عجزهم ابتلاء وصبرنا خوف وجبن وخنوع. فيا أيها الواقفون على الرصيف ماذا تنتظرون وقد بلغت الروح الحلقوم. أما آن للضمير الغائب أن يعود!؟

آخر الكلام: لابد من الديمقراطية والمحاسبة ولو طال السفر!!

faldaw@hotmail.com

 

آراء