وفر الدكتور الترابي رحمه الله قبل رحيله عن الدنيا الكثير من الوقت والجهد علي كل باحث عن الحقيقة عن الذي جري في السودان في الثلاثين من يونيو من العام 1989 وتحول من مرقده الابدي الي شاهد عيان من الدرجة الاولي حول ماجري في ذلك التاريخ عبر الوثائق الحية والدامغة واشرطة الفيديو المتاحة علي شبكة الانترنت.
شهد السودان منذ استقلاله بعض الانقلابات العسكرية التقليدية مع بعض الاختلافات في التفاصيل ولكن ماجري في يونيو من العام 1989 لاتنطبق علية صفة الانقلاب العسكري بالمعني الحرفي للعملية في كل المراحل التي سبقت حدوثه والنتائج المترتبة عليه. في السابع عشر من نوفمبر 1958 قام الجيش السوداني بحركة انقلابية اختلف الناس حول دوافعها واسباب حدوثها وارجعها البعض الي عملية تسليم وتسلم وتسهيل الانقلاب بواسطة بعض القوي الحزبية المشاركة في الحكم علي خلفية ازمة سياسية ولكن الثابت ان التكنوقراط العسكري والمدني ظل يدير البلاد حتي سقط حكم الفريق ابراهيم عبود عن طريق ثورة اكتوبر الشعبية بعد ان تنحي عن الحكم بطريقة حضارية اكمل بها الصورة الجميلة لانجازات ذلك الحكم العسكري الذي تميز بالصدق والامانة والنزاهة. اختلف انقلاب الخامس والعشرين من مايو 1969 بقيادة اللواء جعفر نميري عن انقلاب عبود فقد حدث بسبب خلافات سياسية عميقة حول قضية الدستور الاسلامي علي خلفية حل الحزب الشيوعي بطريقة قسمت البلاد الي يسار ويمين.
وفر الحزب الشيوعي السوداني الذي كان يعتبر من اقوي الاحزاب الشيوعية في المنطقة العربية والقارة الافريقية الغطاء السياسي والجماهيري لانقلاب مايو وتعهده بالرعاية والمساندة المعنوية والشعارات والغناء والاناشيد المعبرة والقوية. غير الشيوعين ساندت بعض مجموعات القوميين والاشتراكيين العرب حركة مايو الانقلابية في ايامها الاولي وحلت محل الشيوعيين لفترة محدودة بعد انقلاب نميري عليهم ومضت مايو بعد ذلك التاريخ من حال الي حال حتي انتهت بعد انتفاضة ابريل الشعبية في ابريل 1985. ظل السودان علي الرغم من تلك المتغيرات المشار اليها تحكمة مؤسسات قومية علي الاصعدة المدنية والعسكرية حتي اطلت ماتعرف بثورة الانقاذ التي اتبعت نفس المراسيم الانقلابية المعتادة وصيغة البيان رقم واحد المعتادة والذي تلاه باسم القوات المسلحة يومها العميد عمر حسن احمد البشير ولكن الامر اتخذ وجهة اخري بعد ساعات قليلة حيث شرعت غرفة عمليات ماتعرف باسم الجبهة القومية الاسلامية في ادارة البلاد وانفاذ اجندتها العقائدية في هدم وتصفية كل مؤسسات الدولة السودانية القومية واحدة بعد الاخري ومعروف ما حدث بعد ذلك التاريخ وحتي اليوم حيث تقف البلاد في مفترق طرق وتعاني من مهددات خطيرة. الشيخ الترابي رحمه الله وكما اسلفنا قد حسم الجدل حول طبيعة ماحدث في يونيو من العام 1989 وهوية من حكموا البلاد بعد ذلك التاريخ بصورة واضحة لا لبس ولاغموض فيها ولاتحتمل الجدل والخلاف حولها من خلال الوثائق والاشرطة المشار اليها واهمها ما ادلي به من افادات غاضبة احتوت علي تهديدات مباشرة بالانقلاب علي الحكم الحزبي في ندوة جماهيرية بعد خضوع الصادق المهدي رئيس الوزراء لمطالب الاغلبية الشعبية ومذكرة الجيش الي جانب احد الاشرطة الوثائقية وافادات اخري امام جمع كبير من قادة المنظمات الجهادية في العاصمة القطرية الدوحة مطلع العام 1990 تحدث فيها الترابي منتشيا حديث القائد المنتصر عن الطريقة التي هيمنوا بها علي مؤسسات الدولة القومية والجيش السوداني والتغيرات الجوهرية التي حدثت فيه بعد ان اصبح جيشا اسلاميا الي اخر فصول الحديث التي تؤكد انقلابهم علي الجيش والشعب والدولة والمجتمع وان الذي حدث في السودان في 30 يونيو من العام 1989 لم يكن انقلابا عسكريا من تدبير الجيش والمؤسسة العسكرية السودانية .