براك أوباما أول رئيس أمريكي يحضر اجتماعات الاتحاد الإفريقي، منذ تاريخ تأسيسه عام 2001م. وفي الجلسة التي عقدها الاتحاد بمقر رئاسته في أديس أبابا في 28 يوليو 2015م، ألقى أوباما خطاباً ضافياً عن مستقبل القارة الإفريقية، وعلاقتها مع الولايات المتحدة الأمريكية، وطبيعة التحديات التي تواجهها، وآفاق الحلول الممكنة لوضعها في موضعها الصحيح. وفي إحدى فقرات ذلك الخطاب التاريخي، أشار أوباما إلى: "أن التقدم الديمقراطي في إفريقيا مُعرض للخطر؛ لأن بعض القادة الأفارقة يرفضون التنحي عن مناصبهم عندما تنتهي ولاياتهم الرئاسية." وأبدى استغراباً لمثل هذه التصرفات، محتجاً بأن فترة رئاسته الثانية تُعدُّ فترة ممتازة واستثنائية في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، وإذا ترشَّح للمرة الثالثة سيفوز في الانتخابات، لكنه لا يستطيع أن يفعل ذلك؛ لأن دستور الولايات المتحدة الأمريكية لا يسمح له بالترشح لولاية ثالثة، وإن القانون الأمريكي فوق تطلعات الرئيس السياسية والحزب الحاكم. ثم وصف الرئيس أوباما الرؤساء الذين يعدلون دساتير بلادهم للبقاء في السلطة فترة أطول بأنهم يغامرون باستقرارها. وإن تعللهم بأنهم وحدهم القادرون على إدارة شؤون بلادهم مؤشر من مؤشرات الفشل والفساد السياسي؛ لأنهم لم يستطيعوا أن يدربوا كوادراً مؤهلةً تخلفهم على ذات المنصب والمناصب المساعدة. وأجمل الرئيس أوباما القول بإن جورج واشنطن (ت. 1799م)، أول رئيس للولايات المتحدة الأمريكية (1789- 1797م)، والمناضل نيلسون مانديلا (ت. 2013م)، أول رئيس أسود لجنوب إفريقيا (1995- 1999م)، قد اكتسبا احترام العالم لهما، ليس بمجرد عطائهما المتميز في إدارة دفة الحكم في بلادهما؛ ولكن برؤيتهما الثاقبة تجاه إرساء دعائم العمل الديمقراطي، وتداول السلطة السلمي؛ لأن التداول السلمي الديمقراطي للسلطة من وجهة نظرهما يفسح المجال لتجديد الأفكار والدماء التي تستطيع أن تُسهم في تحقيق ثقافة الديمقراطية، واحترام مرجعية الدستور، وترسيخ قيم التواصل السياسي المؤسس بين الأجيال.
قبل بضعة أشهر من إلقاء خطاب الرئيس أوباما في أديس أبابا، دار جدل بيزنطي في أروقة حزب المؤتمر الوطني الحاكم في السُّودان بشأن ترشيح الرئيس عمر حسن أحمد البشير لولاية ثالثة في الحكم، وذلك استناداً إلى تبريرات بعض القطاعات السياسية المشغولة بسؤال "مَنْ يحكم السُّودان"، دون التفكير في سؤال "كيف يُحكم السُّودان"؛ لأن صنُّاع القرار السياسي في الحزب الحاكم كانوا (ولايزالوا) يدرون في فلك الأشخاص والتطلعات الذاتية، بعيداً عن القيم المعيارية للحكم، التي تدفع أصحابها إلى البحث عن الخيارات والآليات المناسبة.
ومن القيادات السياسية التي حاولت أن تفكر خارج الصندوق الدكتور غازي صلاح الدين العتباني، الذي كان يرى أن: "ظاهرة (الكنكشة) السياسية هي ظاهرة غير حميدة، ومن المؤكد أن التجارب التي لا تفسح المجال لقيادات شابة، ولا تخضع لتجديد الدماء، فهي ستنهار على المدى القريب، وليس البعيد". ويبدو أن بعض قيادات المؤتمر الوطني قد ضاقت زرعاً من مثل هذه التصريحات؛ لدرجة دفعت بعضهم إلى القول بأن الدكتور غازي كان يقف خلف الحركة الانقلابية المنسوبة لجماعة العميد ود إبراهيم، ويشجع من طرف آخر ما يعرف بـ "السائحين الإصلاحيين". وبناءً على ذلك اغتنموا فرصة تصريحه القاضي بعدم دستورية ترشيح الرئيس البشير لولاية ثالثة؛ ليصفُّوا خصوماتهم السياسية التي تصب في إطار مصالحهم الشخصية دون النظر في متطلبات المصلحة العامة. واستجلاءً لهذا الموقف أصدر الدكتور غازي صلاح الدين وقتها، في موقع تواصله الاجتماعي، بياناً توضيحاً، جاء فيه:
لكن يبدو أن موقف الخصوم كان أقوى من موقف الدكتور غازي صلاح الدين داخل أروقة الحزب الحاكم، والدليل على ذلك أنهم تمكنوا من إصدار قراراً يقضي بإعفائه من رئاسة الكتلة البرلمانية لنواب المؤتمر الوطني، وأخيراً تمَّ إقصاؤه من الحزب الحاكم. كما برروا ترشيح الرئيس البشير لولاية ثالثة بأن الفترة الانتقالية غير محسوبة، ولذلك يجوز أن يترشح لولاية ثانية حسب تفسير للمادة 57 من الدستور الانتقالي لسنة 2005م. فعلاً ترشَّح الرئيس البشير في انتخابات 2015م، وفاز بولاية "ثانية"؛ لا يجوز تجديدها حسب منطوق الدستور والنظام الأساسي لحزب المؤتمر الوطني.
وبعد عامين من ذلك الجدل السياسي العقيم، أجرت الأستاذة خديجة بن قنة، مذيعة قناة الجزيرة، لقاءً خاصاً مع الرئيس عمر حسن البشير، بتاريخ 17 مايو 2017م؛ وسألته سؤالاً مباشراً: هل تود الترشيح في انتخابات 2020م؟ فأجابها: بأنه لن يترشح لأن الدستور الانتقالي لسنة 2005م لا يسمح بذلك، وأن النظام الأساس للمؤتمر الوطني لا يسمح له بولاية ثالثة، وبناءً على ذلك اعتبر فترة ولايته السادسة (2015 -2020م)، حسب البروفيسور الطيب زين العابدين، هي ولاية خاتمة وأخيرة.
ولذلك عندما رشح في منصات التواصل الاجتماعي بأن الرئيس البشير ينوي الترشح لولاية ثالثة، كتب البروفيسور الطيب زين العابدين، قائلاً:
"كثر الحديث هذه الأيام من بعض منسوبي الحزب الحاكم وردفائهم من المشاركين في حظوظ السلطة والثروة، عن تعديل الدستور حتى يسمح للبشير أن يترشح مرة (ثالثة) في انتخابات 2020. وصوالين المدينة ومنتدياتها تقول همساً وجهراً أن البشير نفسه وبعض اللاصقين به هم الذين يوحون لبعض حلفائهم وأوليائهم من الحكام والهيئات الهلامية والشخصيات الطامحة التي تريد أن تعود إلى كرسي السلطة مرة أخرى، بنشر تلك الأحاديث المروّجة بعناية في غرب البلاد وشرقها ووسطها، على لسان النازحين والمؤتمرات الحزبية المؤدلجة ومبادرة الشباب المصطنعة. ولا أدري كيف يخطئ هؤلاء القوم في حساب السنوات المعلومة والمؤكدة في سجل المعاناة السُّودانية إبان سلطة الإنقاذ؟ لقد تولى البشير رئاسة المجلس العسكري لقيادة الثورة منذ قيامها في 1989 إلى أن حُل ذلك المجلس في سنة 1993، وقام المجلس التشريعي المُعين في 1992 (ترأسه محمد الأمين خليفة) بتنصيب البشير رئيساً للجمهورية دون انتخابات حتى عام 1996، حيث جرت أول انتخابات تشريعية ورئاسية فاز فيها البشير ضد السباح كيجاب، ولم يكن ذلك نصر مؤزر يتفاخر به. وتوالت الانتخابات الرئاسية دون تنافس يُذكر في عام 2000 و 2010 و 2015، واستفاد البشير من اتفاقية نيفاشا التي أعطته شرعية دون انتخابات في الفترة الانتقالية من 2005 إلى 2010. وفي كل هذه الانتخابات كانت مقاطعة الأحزاب السياسية لها سيدة الموقف، ولم يخضع الرئيس البشير لأدنى منافسة حقيقية اللهم إلا في انتخابات 2010 حين ترشح ياسر عرمان لرئاسة الجمهورية كأول مرشح جاد ضد البشير يمثل حزباً معتبراً في الساحة السياسية هو الحركة الشعبية لتحرير السُّودان. لكن المؤتمر الوطني استعمل أحابيله فأبرم صفقة سرية مع الرئيس سلفاكير الذي فرض على ياسر عرمان الانسحاب من حملة انتخابية ناجحة قبل أن تصل إلى نهايتها (ليته لم يفعل!). إذن فقد بقي البشير في رئاسة الدولة السُّودانية حتى الآن 28 سنة بالتمام والكمال دون أدنى منافسة انتخابية. وإذا استمر رئيساً للبلاد، كما هو متوقع، حتى أبريل 2020 يكون البشير قد أكمل في رئاسة الدولة السُّودانية 30 عاماً بالتمام والكمال بلا شرعية سياسية معتمدة شعبياً."
الآن وبعد سبعة أشهر من مقال البروفيسور الطيب زين العابدين وتعليقاته الثاقبة والساخرة في آن واحد، اجتمع أعضاء مجلس شورى حزب المؤتمر الوطني في يوم الخمس الموافق 9 أغسطس 2018م، ووافقوا بالاجتماع على تعديل النظام الأساسي لحزب المؤتمر الوطني الحاكم، وذلك لإعادة ترشيح الرئيس البشير إلى ولاية ثالثة من وجهة نظرهم، وولاية سابعة بحساب الزمن. إذاً الخطوة الإجرائية اللاحقة تتمثل في اجتماع المجلس الوطني، وتعديل الدستور حسب توصيات مجلس شورى حزب المؤتمر الوطني الحاكم؛ دون إبداء أي رأي مخالف، ودون إحساس بالمسؤولية الأخلاقية تجاه الدور المناط بالمجلس الوطني (المؤسسة التشريعية) في صون الدستور من تغول السلطة التنفيذية، أو الأحزاب السياسية. تأمل!
إذاً ما الدروس والعبر المستقاة من هذا الواقع السياسي المتمركز في سؤال مَنْ يحكم السُّودان، دون النظر في إشكالية "كيف يُحكم السُّودان"، التي تحتاج إلى حلٍّ موضوعي يتجاوز صراعات الأشخاص ومصالحهم، ويرتقي بالحوار والجدل السياسي إلى مصافي المصلحة العامة.
• أولاً: إنَّ الدستور الذي كان من المفترض أن يكون أكثر ثباتاً ومرجعيةً ناظمة لسلوك للحكام والمحكومين قد أضحى ألعوبة في يد "أنصار الاستبداد"، الذين وصفهم الدكتور عبد الوهاب الأفندي بأنهم قد: "ألفوا الاستكانة وقعدوا عن طلب حقهم، ورضوا باستصغار أنفسهم أمام أهل السُّلطان، مهما صغر شأنهم ومكانتهم، لأنهم يرون كل وظيفة مغنماً، ويرون الحاكم سيداً متصرفاً في مال الأمة لا خادماً من خدامها".
• ثانياً: إن انشغال الساسة في السُّودان بسؤال مَنْ يحكم السُّودان؟ ومن يدير الحزب الحاكم، أو المعارض؟ قد أفسد الواقع السياسي، وعطلَّ عجلت التحول الديمقراطي في مستوياتها العليا (إدارة الدولة) ومستوياتها الدنيا (إدارة الأحزاب السياسية)؛ لأن النخب السياسية المثقفة أضحت مشغولة بمصالحها الذاتية؛ لذلك تجدها تصدع من المنابر العامَّة بأن رئيس الحكومة، أو زعماء الأحزاب السياسية الحاليين لا بديل لهم في المرحلة الراهنة؟ كأن حواء السُّودانية لم تنجب بعد!! دون إدراك بأن القيادات السياسية والحزبية لا تصنعها الأماني والتصورات الحالمة، بل تصنعها المؤسسية، والحراك السياسي الديمقراطي الراشد، بعيداً عن الاطماع الشخصية. والشاهد في ذلك أن نيلسون مانديلا عندما تنحى عن سُدة الحكم والحزب الحاكم في جنوب إفريقيا، كان بعض البسطاء من رجال السياسة يعتقدون أن تنحيه يعني انهيار دولة جنوب إفريقيا، دون أن يدرك هؤلاء أنَّ الرئيس مانديلا قد صنع مؤسسات حاكمة، ولم يربط وجود تلك المؤسسات باستدامة شاغليها، بل خلق آليات لتفريخ القيادات المؤهلة والقادرة على تحمل المسؤولية من بعده، وهنا تكمن عظمة القيادة السياسية. ولا عجب في أن هذه الشواهد تقودنا إلى تعديل صيغة السؤال المطروح دوماً في السُّودان: هل توجد قيادة بديلة؟ علماً بأن بعض القيادات السياسية والحزبية قضت في مناصبها أكثر خمسة عقود من الزمان، ولم تستطع أن تخلق قيادات مؤهلة تخلفها، هل مثل هذا الواقع يدفعنا إلى القول بأن هذه القيادات يجب أن تكون دائمة في مناصبها إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً؟ أم إلى المطالبة الملحة بأن هذه القيادات قد عجزت أن تخلق واقعاً مؤسسياً للأجيال اللاحقة لتحمل الراية من بعدها، ومن ثم يجب البحث عن قيادات بديلة لها. إذا أمعنا النظر في طبيعة الأسئلة التي تُطرح في مثل هذه الظروف، والإجابات الصادرة بشأنها، نجزم بأن الأزمة التي يعاني منها السُّودان، وبقية دول العالم العربي والإفريقي، ترتبط في المقام الأول بالتعالي النرجسي الذي يسلكه السياسي المثقف تجاه النقد الذاتي، وسماع الرأي الآخر. وإذا كانت هناك أي قدرة بشرية في هذا الكون قادرة على مسخ حياة المثقف الفكرية المتقدة، والتأثير عليها تأثيراً سالباً، ثم قتلها قتلاً معنوياً، كما يرى الدكتور إدوارد سعيد، فهي تكمن في مثل هذه الطباع السُلوكية، التي دفعت ثلة من المثقفين إلى إيقاد البخور تحت أرجل غاصبي السُّلطة والسُّلطان. وعليه يجب أن ينظر القارئ في مخرجات خطاب الرئيس أوباما وبعض الملحوظات التي أشرنا إليها أعلاه بعين فاحصة، ويستفتي قلبه وإن استفتاه الناس، دون الانصياع إلى آراء أولئك الذين يؤثرون تضليل الحكام في الخفاء، ويعتقدون أن إفشاء النُصح في العلن فيه تشهير وتقليل من قيمة السُّلطان، دون أن يأخذوا في الحسبان أن مجالس السر تفضي إلى غياب الشفافية، وتحجب الناس من ممارسة حقهم المشروع في مساءلة سلاطينهم وحُكامهم، الذين يتولون أمرهم؛ أما عبر قنوات انتخابات حرة ونزيهة، أو في أغلب الأحيان عن طريق القهر والاستبداد.