لو الحكمة تجلت لرجل من أهل الإنقاذ لكان هو بكري حسن صالح يوم قال معاجة الأزمة الإقتصادية تتطلب مدرسة مغايرة. ربما يكون من العسير الإتفاق على وجود مدرسة بعينها تدير إقتصاد البلد منذ هبوط الإنقاذ.
فرضية وجود مثل هذه المدرسة يثير أسئلة ملحاحة عن طبيعة مناهجها. هي أقرب إلى مدرسة المشاغبين من توصيف أي مدرسة أخرى. حتى لا نظلم الكوميديا الشهيرة، فهي مدرسة للمجربين المغامرين. وضع الإقتصاد تحت الإتقاذ ظل في حالة إنتكاس، يمرض ولايبرأ، يتدهور ولا يتقدم.
الواقع ليس وحده الإقتصاد يتطلب مدرسة مغايرة. البلد بأسره يحتاج مدرسة جديدة بغية إصلاح حاله؛ في التعليم، في الخدمات، في الإدارة، في الثقافة، في الرياضة كما هو الإقتصاد. جميع تلك الميادين تـشهد إعتلالاً مريعاً حد الموات. إذا شهد بعض منها جهداً للعلاج فذلك جهد ساقها إلى طور الإنتكاس. أيما مقارنة بين ما كانت عليه قبل الإنقاذ وماهو عليه الحال يثبت لا محالة هذه الخلاصة المحزنة.
في ظل القتامة المكتنفة الأفق تعرض الشعب بأسره إلى مرض الحسرة. نحن لا نشعر فقط بالألم باعتباره إحساساً إنسانياً طبيعياً بل كذلك يعضنا الحزن على نحو مؤلم فنسعى إلى تخفيف الألم والحزن بالهروب إلى الماضي.
هذا لا يتخذ نوبات الحنين، وهي كذلك مشاعر إنسانية مألوفة، بل هي حالة مرضية مزمنة. هكذا طال بنا المقام في ظل الإنقاذ بين الإنتكاس والحسرة.
هذا الوباء لم يستثني أحدا بما في ذلك شريحة عريضة من أنصار النظام.
لو أردنا الإستشهاد بما يشهد على ذلك التدهور المريع لأستغرقنا العد حد الغرق. هناك شواهد لا تستولد فقط الحسرة والحزن بل تثير الحيرة والدهشة .نهاية مشروع الجزيرة معجزة إنقاذية شاخصة على الإخفاق.هذا شاهد لايوازيه إلا إنفصال الجنوب. لو جرى تكريس قسط من عائدات النفط لتطوير المشروع لجنينا تأمين مستقبل أجيال. يا للمفارقة المبكية إذ بشر عدد من متطرفي النظام العمي بتأسيس "الجمهورية الثانية" إثر الإنفصال لكنما ما حدث لم يكن أكثر من التوغل في سني الإنتكاس والحسرة على نحو أشد ضراوة.
أتى الإنقاذ ولدينا دولاب خدمة مدنية بالغ الفعالية يقوم بأمره كفاءات مهنية عالية ذوو أخلاق فوق الشبهات لكن الإنقاذ أتت عليه فتركته كالرميم.
مع كل بارقة أمل تلوح لوقف الإستنزاف في منعرجات متباينه في المشهد السياسي ينهض متمرسون في نشر العنف وإجهاض الفرص ليس من أجل وأد تلك البارقة بل أكثر من ذلك بغية تحويلها في الإتجاه المضاد تماماً. بعض بمبادرات ذاتية وبعض بتحريض. هؤلاء يشكلون طبقة ممانعة إسفنجية ما تزال تمتص كل محاولة من شأنها تفكيك تروس النظام ذي العين الواحدة قصيرة البصر. لذلك تبدو الإنتخابات، المؤتمرات كما لقاءات المصالحة ضربا من عصير طواحين الهواء.
ما يطلق عليه النهج الحضاري يمثل إحدى مظلات الوهم المرفوعة فوق الرؤوس في العهد الإنقاذي. تلك أكذوبة أخرى تشكل الحسرة ملمحاً من أعراضها.أما جانبها المدموغ بالإنتكاس فيتجسد في إنتشار ثقافة الخوف الناجم عن الإستبداد. هي ثقافة أتاحت للجهلاء الحديث بصوت عال بلسان الدولة متسلحة بكل عتاد شرس متاح. في ظل الثقافة نفسها إحتكرت فئة مشابهة حق التفكير بالإنابة عن الشعب والتعبيرعما يجول في خاطره أو يراود آماله أو أحلامه.
ما من نتيجة منطقية عن هذا الإحتكار الشرس غير الإقصاء.
كلاهما؛ القمع والإقصاء حملا المواطن العادي على النأي بنفسه من الإنغماس في الشأن العام بل بلغ به اليأس حد تخليه عن الدولة تواجه مأزقها الضاغط مع نظام حزبي يتسم باللامبالاة تجاه القضايا الوطنية. كذلك في السياق نفسه ضمن القانون الفيزيائي القائل لكل فعل رد فعل مواز له في الإتجاه المضاد عزفت نخب عن المشاركة في الإدارات الحكومية تاركة مدرسة الإنقاذ تتحمل أوزار التدهور المريع. الدولة ليست جهازاً فوقيا كما يتصورأساتذة مدرسة الإنقاذ بل هي كائن حي يتفاعل مع المواطن ومنظماته.
وحدهم القادرون على التنازل عن قناعاتهم الذاتية أو من ليس لديهم قناعات إرتضوا التورط في المأزق مقابل إغراءات مادية موقوتة.
في ظل الإحتكار والإستبداد المتزامنان مع الأزمة الإقتصادية استشرت أمراض إجتماعية ليس أدناها التفسخ الإجنماعي كما ليس أرزلها البطالة. ليس بغريب تحول الوطن إلى منطقة طاردة يتناثر شبابها في مدارات الدنيا هرباً من وطأة الحسرة والإنتكاس بحثا عن الكرامة كما لقمة العيش.
كل ذلك الغبن المتراكم لم يثر إنتباه أي من عباقرة مدرسة الإنقاذ من أجل العمل أو التحريض على إحتواء تداعياته البادية في التشكل منذ السنوات الأولى للإنقاذ حتى بعدما حملت بعض بؤرالغبن السلاح. أكثر تردياً في الحسرة أنه ما من عبقري أو واحد تصدى لمهمة تشريح إنفصال الجنوب مبيناً حقيقة أسبابه، نتائجه، إنعكاساته على الوطن والشعب وآفاقه المستقبلية.
إذا كان الإنفصال رغبة جنوبية مزمنة فهو نوبة شمالية طارئة إستفحلت إبان الإنقاذ. لعل أعراضها بدأت في الزوال تحت الإحساس بصدمة فقدان الريع النفطي بينما تصاعدت حمى الحسرة والإنتكاس في جسد الوطن العليل. هذه المدرسة التجريبية لن تفتح أفقا للمداواة والعلاج طالما ظلت تتوهم قدرة غير علمية لمغادرة المأزق. أي توصيف لا يركزعلى زيادة الإنتاج أفقياً ورأسياً لن يحدث فارقا على صعيد الأزمة
aloomar@gmail.com