سلمونا بلادنا، قبل أن ……. !

 


 

فضيلي جماع
13 December, 2018

 

 


*******

فصولك رَعْد ٌ يكذِبُ عُشْبَ الأرضِ ..
وأعمدةٌ بلهاءَ..
وفقرٌ ظلّ يلازِمُنا يا زَمَنَ الرُّعْبْ !
أشجارٌ يابسةٌ من غيْرِ جُذورٍ
تحفِرُ فوق جماجمِنا ألوانَ الذُّلْ
تعكِّرُ صفْوتَنا وتفرُّ..
تفرُّ إذا غنّيْنا ملءَ حناجرِنا ،
وشدَوْنا ملء القلبْ!
(من قصيدة "الغناء زمن الخوف" ، لكاتب المقال).

يعيش نظام الأخوان المسلمين في السودان أيامه - وربما ساعاته الأخيرة. تلك ليست أمنيات نرفع بها سقف تطلعاتنا نحن أبناء وبنات هذا الشعب المقهور، والمغلوب على أمره قرابة الثلاثين سنة. وليست هذه ترهات نلقيها على وجه سدنة النظام ومنتفعيه رداً على خطرفات إعلامهم الذي لا يحمل من صفات إعلام العصر سوى الحروف الخمسة لكلمة "إعلام". إنّ ما نقوله عن غروب شمس "الإنقاذ" تؤكده أدلة الواقع المعاش وبؤسه اليوم في السودان. تؤكده مؤسسات إقتصاده المنهار على مدار الساعة. بل يؤكد ما نقوله في مقالنا هذا صمت أساطين النظام هذه الأيام - وقد كانوا يتبارون في التبرير لكل نازلة، ويتسابقون صوب المنابر ليملأوا الدنيا جعجعة بلا طحن!

قلناها ونقولها: إن كعب أخيل - أي نقطة ضعف فكر الأخوان المسلمين ، وكل دعاة الإسلام السياسي- هو الدولة! إنّ رفع الشعارات slogans - أياً كان لونها - لم يعد مصدراً لحشد الجماهير وراء جماعة سياسية إن لم يكن لهذه الجماعة برنامج سياسي يلبي حاجيات المواطن الأساسية على الأرض. وبرنامج الإسلامويين في السودان - يرفع شعار دولة عدالة وهمية، وثورة لا تعرف الوطن ولا الحدود يدعون بأنها للعالم كله! في شريط فيديو لأيام سطوتهم بعد الأستيلاء على الحكم بانقلاب عسكري ، يقول الدكتور حسن الترابي - عراب النظام – بأن دولة الإسلام الحق لم تظهر معالمها عند الخلفاء الراشدين ، ولا عند بني أمية والعباسيين ، ولا..ولا....لكنّ معالمها تظهر اليوم هنا في السودان ، أي بمجيء إنقلاب الإسلامويين السودانيين بقيادته على السلطة الديموقراطية الشرعية! وإما حدثت المفاصلة بين الشيخ وتلامذته على كعكة الحكم قال فيهم ما لم يقله مالك في الخمر !!

ولكي يتحقق هذا الفردوس السماوي على الأرض ، كان لابد للإنقاذيين من طمس هوية الدولة السودانية التي ناضلت لها أجيال من أبناء وبنات شعبنا لعهود ، ودفعوا المهج والأرواح لرفع علم الدولة المستقلة. بدأ طمس الهوية السودانية بسلخ جلد القوات النظامية: الجيش والشرطة والأمن الوطني وتسريح الآلاف ، ثم خلق مليشيات الدفاع الشعبي ، وتوظيف الإعلام المملوك للدولة لحشد الشباب وإعدادهم لحروب بدأت مع بداية "الإنقاذ". حروب توجهت أولاً صوب جنوب الوطن بحسبان أن دار الإسلام تعلن الجهاد على أرض الشرك. وبدأت شعارات : (لا لدنيا قد عملنا// نحن للدين فداء)! ولأول مرة تعطى الحرب الأهلية في الجنوب ، ثم لاحقا في جبال النوبة صفة الحرب المقدسة (الجهاد). حدث ذلك بفتاوى رسمية. ولأول مرة تتم مخاطبة غرائز الشباب بأن نصيب الشهيد ستين حورية من حوريات الجنة. ولأول مرة ترعى الدولة ما يعرف بعرس الشهيد.. فبيت العزاء يتحول لجوغة إنشاد بدلا من الترحم على الميت. شيء ينكمش منه الطبع السوداني الرصين والمتسامح مع نفسه وخشوعاً لحرمة الموت ، واحتراماً لمشاعر أسرة الفقيد .

ثم إنّ طمس معالم الدولة السودانية لم يكن ببتر جسد القوات النظامية وحدها ، فقد سطى غول الأخوان المسلمين في السودان - تحت ما يعرف بفقه التمكين - على الخدمة المدنية ذات التاريخ العريق في سودان ما قبل وبعد الإستقلال، حيث أحيل عشرات الآلاف من الموظفين في كل الدرجات ومعهم أساتيذ الجامعات والمدارس الثانوية إلى التقاعد ، بل أودعوا بعضهم معتقلاتهم سيئة السمعة التي عرفت ببيوت الأشباح. وأشبعوهم تعذيبا، ليلقى البعض منهم حتفه تحت وطأة تعذيب وحشي لم تعرفه كل أنظمة الحكم التي سبقت ، وكأنّ بين اسلامويي السودان وشعب السودان ثأراً جاءوا لقضائه. حقد وكراهية لكل من ليس في قائمة عضويتهم. وكأني بلسان حالهم يقول: الذي لا يغني معنا فهو ضدّنا !!

وهكذا ينهار التعليم والإقتصاد، ويغيب الأمن وأخطر منها جميعاً الغيبوبة والهوس الديني وغياب الوعي، ليحل محل ذلك فقه يحصر كل الإجتهاد بين السرة والفخذين. وليتم فصل الجنوب - ولا نقول انفصل الجنوب. فالجنوبيون - وبنسبة عالية جداً - كانوا وحدويين وحريصين على وحدة تراب المليون ميل مربع أكثر من النازيين الجدد. لكن حين يكون خيارك الوحيد أن تعيش "ذمياً" في القرن الواحد والعشرين – أي أن تعيش في بلدك مواطناً من الدرجة الثانية لأن معتقدك وربما عرقك ينطبق عليهما قانون دولة الخلافة الجديدة، حينذاك لن يبقى أمامك غير خيار واحد: أن تنأى بجلدك عن دولة ترى فيك الآخر العدو. وقد ظنّ أسلامويو السودان أنّ فصل الجنوب سوف يعطيهم الرسن والسرج لحصان يطوعون به شعب السودان (العربي- المسلم) بزعمهم ! يبدون أن إخوان السودان كانوا - وإلى وقت قريب - يجهلون المكون الثقافي والنفسي لشعوب السودان.

قلنا إن كعب أخيل - نقطة الضعف - في تفكير دعاة الإسلام السياسي هو تصور الدولة. فالدولة عندهم طرح هلامي لا ينتمي بأي بحال إلى فكرة دولة التعدد تحت دستور تعترف قوانينه بحق المواطنة المتساوية للجميع ، حيث تكون درجة ارتقائك في المواطنة هي سعيك الدؤوب في أداء الواجب وقبولك بالآخر المختلف! لكن طرح الإخوان المسلمين - بتسمياتهم المختلفة أينما كانوا- لا يعرف دولة المواطنة. في تاريخ الشعوب كلها فإن الدين عند البعض هو الغطاء الذي يتم تحت مظلته الإستيلاء على السلطة ، وبسط الهيمنة ومن ثم نهب ثروات البلاد باسم التمكين وإرساء تشريعات وقوانين الإستبداد وتدمير البنية الإجتماعية والثقافية. وهذا ما سعوا إليه في السودان!

واليوم تصل قاطرة نظام الإنقاذ محطتها الأخيرة بعد أن فقدت كل مسوغ للبقاء. فالدول في عصرنا تقوم على نسيج اجتماعي يراعي وحدة الفسيفساء البشرية تحت مظلة الإعتراف بالآخر المختلف والتساوي معه في الحقوق والواجبات. والدولة العصرية تحترم المعتقدات الدينية وذلك بعدم الزج بها في معترك صراع السياسة. الدولة صنيعة الإنسان ، لذا فإن الإنسان وحده يقوم بترتيب أغراضه ومسلتزماته الحياتية تحت مظلتها. هنا تولد الدساتير وتسن القوانين التي تنبثق منها لترتيب مؤسسات الحكم والإدارة. هنا تصبح الشراكة والقبول برأي الأغلبية في المؤسسة الدستورية العليا (البرلمان) إطاراً يحكم الجميع برضا الجميع.

ولأن الدولة عند الأخوان المسلمين خاصة وعند دعاة الإسلام السياسي شيء هلامي غيبوي فإن تساقط مفاصله كما يحدث اليوم في السودان هو النتيجة الحتمية المنتظرة بعد كتمان أنفاس الشعب على مدى ثلاثة عقود. والمحصلة هي دولة الجوع: الجوع بمعنى حاجة المواطن للقمة الخبز، والجوع إلى فضاء شمس الحرية ودوحة كرامة الإنسان!

كل إنسان راشد في بلادنا يدرك اليوم أن نظام "دولة الإسلام" الذي تفتقت عنه عبقرية الدكتور حسن الترابي وتلامذته المخلصون - تلامذته الذين طعنوه في الظهر- هذه الدولة الهلامية غير واضحة المعالم في قرننا الواحد والعشرين، والتي ترفع شعار الآخرة ليموت أتباعها من التخمة وأكل مال السحت بينما يقضي نحبه المواطن فيها بحثاً عن لقمة يسد بها أوده- هذه الدولة يعرف كل عاقل اليوم أنها تلفظ أنفاسها الأخيرة. ولا ينكر ذلك إلا مكابر أو جاهل بمنطق التاريخ!

أيها الأخوان المسلمون ، بكل تسمياتكم المختلفة ، ومن جلس يقتات من فتات موائدكم ، تعرفون أن نظام الإستبداد والقتل والتشريد واغتصاب الحرائر الذي فرضتموه تحت فوهة البندقية وعناكب أجهزة الأمن .. تعرفون أن نظامكم هذا والذي يتسابق قادته على سرقة موارد بلادنا ، تحت فقه التمكين ، وتعاد بعض الأموال المنهوبة في وضح النهار باسم فقه "التحلل".. تعرفون أكثر من سواكم اليوم أننا - نحن شعوب السودان البالغ تعدادها الملايين- لم نعد نحتمل بقاءكم ساعة زمان.

الحل أن تسلموا مفاتيح البلاد دون إراقة مزيد من دماء أبناء وبنات شعبنا..وإلا فإن شعباً إجتث أجداده من الفلاحين والرعاة ذات يوم رأس ممثل أكبر إمبراطورية في التاريخ المعاصر – الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس – هذا الشعب يعرف كيف يجز رؤوسكم ويقيم دولة المواطنة والمساواة الحق في القرن الواحد والعشرين.

لقد سرقتم أعمارنا ، لكنكم لن تسرقوا أعمار أبنائنا وأحفادنا !
نسيت أن أقول: بأنّ ما يجري في أروقة عواصم الجوار وبعض عواصم الدول الصناعية الكبرى أضعف من أن يثني شعبنا عن انتفاضته التي تعرف كيف تطيح بكم في ساعة زمان – أرى شمسها على الأفق !


فضيلي جمّاع – لندن
صبيحة الخميس ، 13 ديسمبر 2018م.



fjamma16@yahoo.com

 

آراء