هل القرآن أمر بضرب الزوجات بسبب الخلافات الزوجية المعروفة؟ سؤال حيّر المسلمين منذ عهد طويل وسبب لهم حرجا مع أنفسهم ومع غيرهم!! سؤال يطرحه أعداء الاسلام بخبث في وجه المسلمين فلا يجد له المسلمون إجابة!! سؤال يكشف عن مفارقة بين رحمة الإسلام بالنساء وتحريره لهن من قيود الجاهلية من جانب وبين القسوة عليهن في نفس الوقت كأنّه يعطي باليمين وينزع بالشمال!
مقدمة:
مما لا شك فيه أن تفاسير القرآن الكريم هي آراء رجال مجتهدين قد يحالفهم الصواب وقد لا يحالفهم! ولذلك تجدهم يختلفون فيما بينهم بسبب تفاوت المعرفة وقدرة الربط والتحليل ورجاحة الدليل. فمنهم من هو أعرف باللغة من غيره كالزمخشري، ومنهم من هو أعلم بعلوم الطبيعية من غيره كالرازي، ومنهم من هو أعلم بالتاريخ والحديث من غيره كالطبري وهكذا دواليك، وتبايُن التفاسير لا يشكك في مصداقية النص، ولا قدسيته ولا عظمته وإنَّما يعكس الزوايا التي ينظر بها أومنها الناظرون ولا يُلام أحدٌ على رأي رأه وإن جانبه الصواب. عندما يقرأ المسلم الذي تخلق بالرحمة قول الله تعالى في سورة النساء آية 34: "( وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً ) يشعر بحرج بالرغم من إيمانه فيواجه هذا الحرج بالتسليم لأمر الله وقضائه! ولكن من أين جاء هذا الحرج والله تعالى يقول لنا: { هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس }؟ هذه الآية تنفي بصراحة شديدة أن يكون في دين الله أي حرج، وإذا وُجد الحرج فهو من خارج الدين وليس من داخله!! فإذن حرجنا الذي نحس به جميعا في هذه المسألة من خارج الدين؟!!! هذا الحرج بسبب عجزنا عن فهم الآية بتفكيكها وتحليلها وليس بسبب الحكم الذي تضمنته الآية كما سنرى بعد قليل.
الموضوع:
لقد انقسم الناس الى مذهبين في فهم قوله تعالى: ( وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً ) النساء/34 والمذهبان هما:
المذهب الأول هو مذهب عامة الناس وعامة المفسرين، ويقول بجواز الضرب وفقاً لظاهر الآية من غير تأمل عميق فيها. هؤلاء قالوا بجواز ضرب الزوجات بسبب النشوز والخلافات الزوجية المعروفة والمتكررة. إلا أن اصحاب هذا المذهب شعروا بالحرج من فهمهم هذا فقالوا برمزيته وجعلوا للضرب شروطا أفرغته من معناه! فقالوا يجب أن يكون بالمسواك أو بطرف الثوب مما لا يأذي!! وبهذه الرمزية والشروط التي وضعوها لكيفية الضرب أفرغوه من أهدافه المرجوة وهي الأصلاح والتقويم. فهم بهذه الطريقة لم يعارضوه مبدئيا ولكنهم أضعفوه عملياً فأصبح صورة لا جوهر لها ورخصة أقرب الى الحظر!! فأصبح الضرب بهذه الطريقة بالفعل قضية رمزية تخفف الحرج ولكنها لا تزيله تماما!! لم يقل أحد منهم أن ضرب الزوجات واجب أو مُستحَب، ولم يقولوا بإباحته مطلقاً بل قالوا بإباحته مع الكراهة! وقد دفعهم لهذا الإتجاه قول النبي الكريم الذي قال في الضاربين: "ولا تجدون أولائكم خياركم"! فالذين يضربون ليسوا خيار المسلمين وفقاً لرسول الله الذي روي عنه أنه قال: " خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي" فؤلئك ليسوا كرام المسلمين، وليس الرجل الكريم هو الذي يضرب، ولذلك تحرج فضلاء وكبار علماء وقضاة الإسلام من الضرب فروى عن القاضي المشهور شريح أنّه قال: " رأيت رجالاً يضربون نساءهم، فشُلَّت يمني يوم أضربُ زينب". فشريح القاضي امتنع عن الضرب تمسكاً بأمر النبي (ص): "لا تضربوا إماء الله" الذي رواه النسائي عن إياس بن أبي ذباب. فهذه الروايات المعارضة للقرآن الكريم جعلت الفقهاء يقولون نحن أمام رخَّصة من جهةٍ، وندب إلى تركه من جهة ثانية، ونهى عنه من جهة ثالثة. وهنا اختلط عليهم الأمر ووجدوا تعارضاً صريحاً فطفقوا يبررونه زمنيا فقالوا لعل نهي النبي (ص) سابقٌ للآية وبالتالي الحكم النهائي للآية لأنَّها تنسخ حكم النبي، وهذا كلام لا دليل عليه في هذه القضية وانما هو ظن ولا يغني الظن عن الحق شيئاً. المذهب الثاني هو مذهبٌ حديثٌ جداً يحاول تتبع معاني كلمة (ضرب) في سياقات القرآن الكريم المختلفة ووامتدادا في صحيح اللغة العربية أيضاً، وكانت نتيجة ذلك التتبع أن كلمة الضرب " تعني في غالبها المفارقة، والمباعدة، والانفصال والتجاهل خلافا للمعنى المتداول الآن لكلمة (ضرب )" وعليه فقد قرر أصحاب هذا المنهج أن الضرب المعني في الآية " يفيد المباعدة والانفصال والتجاهل" ولا يفيد الضرب بمعناه المتعارف عليه بين الناس. وأصحاب هذا المنهج لم يكونوا أمينين في بحثهم وفقا للشروط العلمية، ولا أمينين مع أنفسهم لأنهم تجاهلوا المعاني الأخرى للضرب والتي تعني إيقاع الأذى على الجسم بدرجات متفاوتة، ومن معاني الضرب العنيفة جدا هو القطع كما في قوله تعالى: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب)
ولكن كلا التفسيرين يدخلان الناس في إشكالات واضحة. فالمذهب الأول الذي يقول بجواز الضرب الجسماني في الحياة الزوجية -حتى لو كان رمزيا- يناقض مبدأ السكينة الذي بُنيَّ عليه مبدأ الزواج، ولذلك لم يسترح له كل المفسرين. والضرب يناقض أيضاً سيرة الإسلام في احترام وتحرير وتكريم المرأة خاصةً والإنسان عموماً، كما يناقض سيرة النبي (ص) مع زوجاته وتوجيهات النبوية الصريحة التي تنهى عن ضرب النساء، فإذن الإسلام يقول ليس الرجل الكريم هو الذي يضرب،.
ومن المعلوم أن دور السنة في التشريع هو تبيين مجمل القرآن الكريم ومقاصده العامة لا منازعته ومناقضته. وإثبات الضرب بالقرآن ونفيه بالسنة يجعل السنة تناقض القرآن الكريم وقد جاءت لتبينه وتتبعه وتدور حوله، فالتناقض بينهما إذن تناقض لا يقبله العقل! فكيف يأمر الله تعالى بفعل ويأتي رسوله فينهى عن نفس الفعل.!!! أهذه منازعة أم تبيان! كيف يتسق هذا مع قول الله عز وجل مخاطبا نبيه الكريم: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) النحل/ 44.
اما تفسير الضرب بمعنى "المباعدة والانفصال والتجاهل" هو أخذٌ ببعض المعاني الخفية وترك المعنى الظاهر! فالظاهر المعروف والمستعمل في الحياة العامة هو الضرب بمعنى ايقاع الأذى بدرجة من الدرجات تتفاوت إيلاماً ومقصداً.
محاولة فك التعارض بين الآية والحديث: رقم هذه الآية هو 34 من سورة النساء، وقيل أن سورة النساء نزلت بين أواخر السنة الثالثة للهجرة وأوائل الخامسة. وقال الإمام الشافعي في الأحاديث التي نهت عن الضرب يُحتمَل أن يكون قيلت قبل نزول الآية، وقد حاول الشافعي (رض) فك التعارض بين الآية التي تقول { وَاضْرِبُوهُنَّ } والأحاديث التي تقول: { لا تضربوا إماء الله} ولكن هذا اللإفتراض الذي افترضه الإمام الشافعي غير مؤسس علميا فظل التعارض حيّاً وهذا التعارض خلق حيرة في الوسط العلمي فلم يجدوا له جواباً. لماذا جاء الحُكم بالضرب في الآية؟ إن كل الناس يعتبرون النشوز هو السبب وراء حكم الضرب في الآية، وهذا للأسف فهم غير صحيح. والصحيح في نظري بعد تأملٍ، أن حكم الضرب جاء بسبب سلوك أخلاقي نتج عن النشوز كما تنتج أعراض المرض -من حمى وغيرها- بسبب المرض. ولذلك لا بد لنا من وقفة نعرف بها معنى "النشوز" وأطواره وأحكام كل طورٍ من أطواره، وهذا ما تجاهله علماء الماضي والحاضر للأسف إلا ابن عاشور فقد أشار اليه إشارة خفيفة فقال: "واعلم أنّ الواو هنا مراد بها التقسيم باعتبار أقسام النساء في النشوز" (التحوير والتنوير).
فالنشوز المقصود هو ترفع وعناد في السلوك يؤدي للخروج والتمرد والعصيان على المعروف في الحياة الزوجية والأخلاق التي تبنى عليها. ولذلك هو عند الفقهاء بغيٌ يسقط النفقة وجميع الحقوق الزوجية لأنه يعطل المؤسسة الزوجية التي تقوم أساساً على الأخلاق والعرف والقانون.
فالمرحلة الأولى من النشوز تظهر في شكل إهمال للنفس والأبناء والبيت والزوج، فتجد المرأة لا تهتم بنفسها وزينتها ونظافة بيتها ورعاية اولادها ...الخ وهذه المرحلة يمكن أن تعالج بالتواصل موعظةً وليناً ولطفاً ومساعدةً وإهداءً وغيرها من العلاجات التي يمكن أن تصل لاستشارة مختصٍ في شئون الأسر أو في علم النفس.
المرحلة الثانية من النشوز هي العدوان باللفظ وحركات الجسم وكسر الأواني والأثاث ....الخ وهذه المرحلة يمكن أن ينفع معها قطع التواصل هجراً في المضاجع أو هجرا للكلام في المضاجع حيث يحلو الإيناس بالكلام فيحل محله عدم الرضا والابتعاد وقطع التواصل.
المرحلة الثالثة من النشوز هي أن تتخذ الزوجة خطوات عملية للخروج من إطار الشرعية الزوجية بالتوقف عن المجامعة والذهاب لابعد من ذلك بانشاء علاقات عاطفية سراً من غير وقوع في فاحشة أو بالوقوع فيها فعلاً. هذه المرحلة هي أخطر المراحل وهي التي تستدعي الضرب. والضرب هنا هو عقوبة تقررها وتنفذها المحكمة حسب عظم الجرم. فإن كان الجرم علاقة عاطفية محرمة دون الفاحشة فعقابه الضرب تعزيرياً تقرره المحكمة أو أي عقوبة أخرى تحل محل الضرب إذا كان العرف لا يقبل الضرب، وإن كان الجرم فاحشية مبينة فالعقوبة هنا عقوبة حدية وهي مئة جلدة من الضرب غير المبرح الذي لا يقتل ولا يكسر ولا يعطل ولا يشوه لأن الضرب في الحدود هو ضربٌ غير مبرح في الأصل ومع ذلك مؤلم. فإذن الضرب في هذه المرحلة هو ضرب مؤلم غير مبرح وغير رمزي ولكنه ليس موجهاً للزوج ولا للأب ولا للأخ ولا غيرهم. بل هو أمرٌ موجهٌ للجهات القضائية والعدلية التي تثبت صحة التهمة، فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ بعد العقوبة المؤلمة المقررة من جهة المحكمة فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا. وفي هذا المعنى قال ابن عاشور: " ويجوز أن يكون المخاطب مجموع من يصلح لهذا العمل من وُلاَة الأمور والأزواج فيتولّى كلّ فريق ما هو من شأنه" (التحرير والتنوير) أي يقوم كل فريق بما كُلِّف به لمعالجة النشوز، فإن انصلح الحال وعادت المياه لمجاريها فالحمد لله رب العالمين، وإلا انتقلوا إلى مرحلة التحكيم الأسري، ومن بعد ذلك لمرحلة الطلاق في المحاكم {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} .
والدليل على صحة هذا الاستنتاج من السنة هو رواية الإمام مسلم عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حجة الوداع: "اتَّقُوا اللَّهَ في النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ فَإِنْ فَعَلْنَ ذلك فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غير مُبَرِّحٍ ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ". وعن عمرو بن الأحوص رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع : " أَلا وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ إِلاّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً أَلا إِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ فَلا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ وَلا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ أَلا وَحَقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ فِي كِسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ . " وَمَعْنَى قَوْلِهِ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ يَعْنِي أَسْرَى فِي أَيْدِيكُمْ . رواه الترمذي 1163 وابن ماجة 1851 وقال الترمذي هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ
ومن يقارن لغة هذه الأحاديث بلغة القرآن الكريم في الآيات التي ذكرت الفاحشة المبينة يجد بينهما تشابه شديد. مثلاً قوله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا، ولَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (النساء: 19) { يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا ) [ الأحزاب: 30 ) وهذا التشابه اللغوي يدل على أن أحاديث النهي عن الضرب جاءت بعد نزول الآية لأنها استخمت نفس لغة الآية. والنهي في الحديث موجه للأزواج والأمر في الآية موجه للمحاكم فلا تناقض إذن بينهما.
خطورة الضرب على الحياة الزوجية: في حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله ، ما حق زوجة أحدنا علينا ؟ قال : أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تقبح الوجه، ولا تضرب " رواه أبو داود 2/244 وابن ماجه 1850 وأحمد 4/446 . يقول المفسِّر العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور : "أمّا الضرب فهو خطير وتحديده عسير، ولكنّه أذن فيه في حالة ظهور الفساد لأنّ المرأة اعتدَتْ حينئذ، ولكن يجب تعيين حدّ في ذلك، يُبيّنُ في الفقه، لأنّه لو أطلق للأزواج أن يتولّوه، وهم حينئذ يشْفُون غضبهم، لكان ذلك مظنّة تجاوز الحدّ، إذ قلّ من يعاقب على قدر الذنب، على أن أصل قواعد الشريعة لا تسمح بأن يقضي أحد لنفسه لولا الضرورة. بيد أنّ الجمهور قيّدوا ذلك بالسلامة من الإضرار، وبصدوره ممّن لا يعدّ الضرب بينهم إهانة وإضراراً. فنقول يجوز لولاة الأمور إذا علموا أنّ الأزواج لا يحسنون وضع العقوبات الشرعية مواضعَها، ولا الوقوفَ عند حدودها أن يضربوا على أيديهم استعمال هذه العقوبة، ويعلنوا لهم أنّ من ضرب امرأته عوقب، كيلا يتفاقم أمر الإضرار بين الأزواج، لا سيما عند ضعف الوازع." (التحرير والتنوير) والضرب الخطير والضرب الذي نهى عنه رسول الله (ص) هو ضرب الزوج لزوجته، ولكن نهيه صلى الله عليه وسلم لا يشمل القاضي لأن ضرب القاضي عن حكم ومحاكمة. خلاصة البحث هي: 1- المشاكل الزوجية فيها ما يُحلُّ داخل الأسرة الصغيرة وفيها ما يُحلُّ داخل حوش الأسرة الكبيرة، ومنها ما يُحلُّ في المحاكم المختصة أمام القضاة ولذلك خاطبت الآية الكل حتى يعالج كلُ طرفٍ ما يليه. 2- الضرب في الآية هو خطاب للجهات القضائية والعدلية وليس للزواج، بينما الوعظ خطاب للزوج وغير الزوج من الأهل والأصحاب، أما الهجر فهو خطاب للزوج فقط. 3- الأصل في الشريعة ألّا يكون المسلم حكما على خصمه يقضي لنفسه بما يشاء، وانما يحكم بين المتخاصمين قاض عدلٌ. 4- الضرب المقصود هو الضرب غير المبرح الذي لا يقتل ولا يكسر ولا يشوه ولا يعطل عضواً أو حاسة إلا أنّه يؤلم وقد يؤلم ألماً شديداً دون الأذى. 5- الضرب المبرح لا يجوز في الشريعة لا في الحدود ولا في التعزيرات التي هي دون الحدود، وإن ضُربت الزوجة ضرباً مبرحاً فلها المطالبة بالطلاق أو القصاص أو الدية بغض النظر عن السبب. 6- الضرب في الآية مقابل الفاحشة المبينة أو العلاقات العاطفية المحرمة المبينة فقط لا غير كما شرحته الأحاديث. وفي هذا الإتجاه سبق الإمام الشوكاني بالفتوى. 7- لا يجوز للأزواج التعدي على الزوجات بالضرب المبرح ولا غير المبرح وإن كن ناشزات، وهذا رأي عطاء الذي سبق به الناس كما ذكر ابن عاشور في تفسير الآية حيث قال: " وبهذا التأويل أخذ عطاء إذ قال لا يضرب الزوج امرأته ولكن يغضب عليها"، ولعل عطاء قد تتبع سيرة النبي (ص) فما وجد في سيرته ضرب لامرأةً قط بل وجد نهياً صريحاً عن ضربهن وتقليل شأن من يضربهن بقوله: "ولن يضرب خياركم " 8- لقد أمر الله تعالى بالإحسان إلى الزوجة وإكرامها ومعاشرتها بالمعروف أو مفارقتها بالمعروف والضرب ليس معروفا في الحياة الزوجيةً. 9- بيَّن الإسلام أن للزوجة حقوقاً على زوجها وله حقوقاً عليها على قدم المساواة. 10- لا يوجد دين من الإديان الوضعية أو الأديان السماوية المحرفة ولا مذهب من المذاهب الوضعية سبق الإسلام في تحرير المرأة تحريرا كاملا من الجهل والتخلف والشعوذة والفواحش والأستغلال والرزايا كما فعل الإسلام. 11- لا يوجد إنسان كامل فلذلك قال رسول الله (ص) كم روى الإمام مسلم عن أبى هريرة (رض): " لا يفرك (يكره) مُؤمِنٌ مُؤمِنةً إن سخط منها خُلقاً، رضيَ منها آخر أو قال غيره". 12- الأصل في الحياة الزوجية هو المودة والرحمة، فقال الله { وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} وقال أيضاً {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} 13- الآية قد يكون فيها محذوف على طريقة العرب في اختصار الكلام {( وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ (إذا أتين بفاحشة مبينة) فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً )