الثورة صناعة والجيش يلقاها عند الغافل (2)

 


 

 

 

 

كيف يقابل الثوريون قضية السلطة؟ واجه الثوار في مدنهم هذه القضية من رحم البراكسيس، من ممارستهم الحية. اقتحم المتظاهرون في مدينة الرهد مقار الحكم وفتحوا عنوة مخازن ديوان الزكاة يطلبون عدالة التوزيع. بذلك طرحوا مسألة السلطة السياسية كما يختبرها الناس في لحمهم الحي، قوى باطشة تستولي على الموارد، بجذرية غير مسبوقة وشقوا طريقا جديدا للثورة السودانية تجلى فيه الوعى الطبقي لغمار الناس بردا وسلاما عليهم.

تقدم الثوار بالفعل سنين ضوئية على الصفوة السياسية المعارضة وكيف لا. ألم يقل لينين أن عقودا قد تمر دون أن يحدث فيها شئ ذو بال ثم تمر أسابيع تختصر عقودا من التاريخ. هذا هو ما نشهد على وجه الدقة. انصرمت في هذه الأيام الثلاثة عقودا من التاريخ وانفتح أفق جديد لم يكن ليدر بخلد أحد. لا غرو إذن أن الصفوة السياسية عدمت ما تقوله سوى تكرار المناشدة باستمرار التظاهر كأن الثوار الذين احتلوا الشوارع ينتظرون من المعارضة الرسمية كروت دعوة لممارسة فنهم.

تقف اليوم الصفوة السياسية تغالب ترددها بإزاء هذه الجذرية الشجاعة. قال السيد الصادق المهدي أن الثورة الناشبة أمام أعينه وهو المنادي زمانا بالجهاد المدني "دخان مرقة"! اجتمع رجالات الإجماع الوطني لتكرار الدعوة للانتفاضة كأن الذي يجري أمام أعينهم "بروفة". واجتمع حزبا المؤتمر السوداني والحزب الشيوعي في العاصمة ليصدرا بيانا لا يحوي سوى المباركة والمناجاة بوحدة قوى المعارضة لكن لا يطرح صيغة جديدة لمقارعة السلطة لم يكتشفها الثوار أو تكتيكا مستحدثا للتقدم، أما ياسر عرمان فطالب بتشكيل "قيادة موحدة في الداخل والخارج" و"خروج قيادة معلومة للعلن لقيادة الشارع".

ظني أن هؤلاء جميعا يقرأون من الصفحة الخطأ فالجواب الذي خرج من براكسيس الثوار على سؤال السلطة لا يمكن اختصاره في صيغة الحلف الحزبي الذي يلوح للمعارضة الرسمية بل يعد بتحول في علاقات القوى الاجتماعية لصالح غمار الناس يفرض نشوء قوة سياسية جديدة تجعل من هذا التحول هدفا للعمل. إن لم يتضح هذا الطريق الثوري بعد فقد اتضح جليا طريق الثورة المضادة. ترددت أقاويل عن تدخل الجيش لاستبدال السلطة القائمة وبالضرورة سد الطريق أمام نشوء السلطة التي ذاقت الجماهير في الرهد وغيرها كما شاع أن مدير جهاز الأمن صلاح قوش ربما حدث نفسه باستلام الحكم وسيجد لا بد من يصفق له. غير ذلك، طغى حسن الظن بالنفس على طائفة من الناشطين ذوي الشأن فطفقوا يحدثون أنفسهم بتوزيع الحقائب الوزارية، فلان لرئاسة الوزارة وهذا للإعلام، ذلك بعد أن يتحقق لهم النصر بشوكة الجيش المنحاز لثورة الشعب.

يرفد هذا الهلج جميعه من عقيدة الانقلاب الثابتة في دليل البرجوازية الصغيرة السياسي. تستدعي الصفوة البرجوازية الصغيرة الجماهير للفداء وتصفق للشهيد والفقيد لكن متى ما انطرح سؤال السلطة كفرت بالجماهير الثائرة وفضلت طريق الانقلاب القصير. يتضمن هذا التكتيك المكرر التبشير بسلطة الجيش بزعم حياده وسمته الوطني الباذخ. تعمى هذه الصفوة في ساعة المصلحة المنظورة وربما لاتعمى عن حقيقة أن الجيش قوة سياسية قائمة بذاتها وليس حكما محايدا في صراع السلطة وما سنين الدكتاتورية المتطاولة في السودان سوى حكم الجيش. كما أن لحكم ضباط الجيش مضمون طبقي هو الذي هب ضده ثوار عطبرة والرهد وليس سوى قادة الجيش الذين يسألون عن الرعب الذي بثوا عبر سنين سلطتهم المستمرة لعقود في أرياف السودان وليس سواهم من ظلوا يدعون للمقارعة الحربية كلما جاء السؤال عن تداول السلطة السياسية.

لماذا تستدعي الصفوة البرجوازية الصغيرة الجيش هذه الساعة إذن؟ لأنها من موقعها في النادي السياسي ترتعد من الروح الثوري الذي يحوم حول عطبرة والرهد والقضارف، من المجهول الذي قد يحمل في طيه تهديدا لعلاقات الملكية والتراتب الاجتماعي المستقرة. فمن شرعوا لأنفسهم السيطرة على مخازن ديوان الزكاة وتوزيع ما تحوي على من يحتاجها يمكن أن يشرعوا في قفزة أخرى للخيال السياسي معادلات جديدة لتوزيع الثروة الاجتماعية والسلطة السياسية لا فضل فيها لأولاد المدارس الفصيحين. بطبيعة الحال، لا يمكن سوى تقريظ قرار ضابط نشط الهمة تحييد الآلة القسرية للدولة تحت إمرته وحماية المؤسسات العامة بمهنية من موقع المواطن، لكن لا يعني هذا التقريظ، مهما بلغ، التبشير بالانقلاب كمخرج للأزمة العامة في البلاد. ما الانقلاب بأي شعار جاء سوى قطع طريق الثورة وإجهاضها إما مباشرة أو بعد حين. هكذا كانت تجربة الانتفاضة ضد حكم جعفر نميري في ١٩٨٥ وهكذا كانت تجربة الثورة المصرية المعاصرة ودونكم خلاصات الاشتراكيين الثوريين من شمال الوادي في هذا الخصوص.


m.elgizouli@gmail.com
/////////////////

 

 

آراء