لكم أفخَرُ بأنِّي مِنْكَ وفيكْ!

 


 

فضيلي جماع
2 January, 2019

 

 

يقول المسرحي الحداثي الفرنسي جان أنوي (1910-1987م) في حيرة وجودية قاسية: "الفن ضرورة قصوى. وآهٍ لو أعرف لماذا ؟!" ولعلّ كلَّ من شغل بالفن في أيِّ من ضروبه وحقوله المتنوعة، يعرف أنّ الإجابة على صرخة جان أنوي صعبة إن لم تكن مستحيلة. وأنّ الإكتفاء عبارته " الفن ضرورة قصوى" هي الإجابة العريضة التي قد لا تجيب على السؤال الوجودي المحير ، لكنها تكفي إجابة لعموميات التساؤل المشروع. وهذا قد يفسر أيضاً التواصل الحميم بين اللحن والكلمات في الأهازيج الثورية التي تنبثق من الثوار وهم يخوضون الملاحم والإنتفاضات بين لعلعلة الرصاص الحي وعويل قنابل الغاز المسيل للدموع، مثلما نراه واقعاً عند شبابنا هذه الأيام وهم يفتحون صدورهم العارية للرصاص في ثورة 19 ديسمبر المنتصرة بعون الله. فقد استمعت لأكثر من كلمات ثورية بلحن يرفع الهمة والمعنويات عالياً. الفن إذن ضرورة قصوى.

دعاني إلى هذه التقدمة إنبهاري بعمل غنائي كورالي كبير تناقلته هذه الأيام وسائط التواصل الإجتماعي السودانية بكثافة. مادة العمل الكورالي تقوم على أنشودة وطنية سودانية كتب كلماتها الفنان المسرحي السر قدور - أمدّ الله في عمره - في النصف الأول من القرن الماضي. وهي من ألحان وأداء الفنان القدير إبراهيم الكاشف - أحد رواد الأغنية السودانية الحديثة. الجديد في هذا العمل أن أحد رواد فن الجاز في السودان وفي أفريقيا - الفنان شرحبيل احمد هو الذي جلب الأنشودة من حيزها المحلي ليجعل منها كورالاً تجلت فيه لوحات من أنماط الرقص والفنون الأفريقية العريقة إلى جانب اللوحات المعبرة لطبيعة القارة السمراء أفريقيا.

ميزة أخرى ضمّها هذا العمل الكورالي الكبير، وهي مشاركة مجموعة كبيرة من المطربين والمطربات من دول قارتنا الفتية. فصار بمقدور الكورال أن يتسع لأصوات بلغات أفريقية غير العربية ، كالسواحيلي والبوغاندا والأمهرينا والأرومو. إلى جانب تنوع الأزياء السودانية من مناطق السودان المختلفة ، ومن بلدان أفريقية ، حيث يؤدي فيها الفتيان والفتيات السودانيين رقصات عديدة من الشمال والجنوب ومن الشرق والغرب ، مما يثبت القول بأن السودان أنموذج مصغر للقارة الأم أفريقيا. يحدث كل هذا الزخم وسط اندياح للحن الشجي الذي صدحت به حنجرة إبراهيم الكاشف قبيل نصف قرن ، وليكون جسراً تلتقي فيه أصوات أفريقية عدة تجسد المعنى الحي والبعيد لكلمات الشاعر والفنان المسرحي السر قدور، وتنقلها من محليتها إلى آفاق قارة التاريخ والمستقبل - أفريقيا. وهو ما يعني أن العمل الإبداعي المطبوع يتحدى أطر الزمان والمكان دائماً ، ليحجز مقعده في مسرح الخلود.

التحية أرفعها لأستاذنا الفنان التشكيلي ورائد أغنية الجاز الحديثة في السودان شرحبيل أحمد ، وهو يثبت بلا أدني شك أن الخيل الأصيلة تتصدر المضمار في آخر جولات السباق. والتحية مرفوعة لأشقائنا وشقيقاتنا من الفناين والفنانات من الدول الشقيقة: إثيوبيا وتنزانيا ويوغندة والمغرب. حيث شارك من إثيوبيا الفنان الكبير محمود احمد ومن يوغندا الفنانة الشابة شيفا موسيسي ومن المغرب الفنانة أسماء حمزاوي. قام بتصميم اللوحات الإستعراضية الراقصة الفنان ستيفن أوشيلا، أما التنفيذ الموسيقى فقد قامت به أوركسترا كلية الموسيقى والدراما بجامعة السودان، لهم التحية.

وأخيراً ، أودّ أن أقول لمن لا يزال ينكر النصيب الأكبر من هويته الفاعلة في القارة السمراء: من الأفضل أن تكون فخوراً بالمكان الذي يعطيك صورة الإنسان فيك، من أن تعيش الوهم القاتل بأن انتماءك شكلا وموضوعاً إلى غير هذا المكان، وأنك أصلاً صورة غير صورتك التي يراها كل من يراك ويتحدث إليك!
ما أجملك أيها السودان رغم الدرك الأسفل الذي وضعك فيه نظام الفاشيين الجدد قرابة الثلاثين سنة. ما أجمل شبابك وهم يشرئبون بأعناقهم - فتية وفتيات - هذه الأيام ليصنعوا غدك الزاهر. لكم أنا فخور أنني منك وفيك يا أفريقيا !


فضيلي جمّاع
لندن- 01/01/ 2019

fjamma16@yahoo.com

 

آراء