واضح جدًا، أن موقف المؤتمر الشعبي، ملتبسٌ جدا. فهو، فيما يبدو، منقسمٌ في النظرة إلى الثورة المشتعلة الآن، بين مراراته القديمة، مع المؤتمر الوطني، ورغبته الدفينة في الثأر منه، وبين خوفه من أن يسقط النظام، الذي هو أصلا الابن الشرعي لأفكار المرشد والزعيم التاريخي للحركة الإسلامية السودانية، الدكتور حسن الترابي. فاقتلاع النظام من جذوره، وابعاد يده كليًا عن رقبة الدولة السودانية، سوف يقدم دليلاً، حاسمًا، على فشل فكر تيار الإسلام السياسي، وعدم قدرة من تربوا في حضن أيديولوجيته، القابضة، على إدارة البلدان بحكمة، وعقلانية، وبإيمانٍ حقيقي بالحرية، وبالتنوع، وبكامل منظومة الحقوق الأساسية، وبالديمقراطية، وحكم القانون، كما ينبغي أن يكون.
استمعت ليلة البارحة، إلى المؤتمر الصحفي الذي أقامه المؤتمر الشعبي، ونقلت طرفًا، وافيًا، منه قناة الجزيرة مباشر، ولم أتفاجأ بما سمعت. فقد دلَّل طرح المؤتمر الشعبي، في هذا المؤتمر، الصحفي، أن المؤتمر الشعبي، لا يستطيع الخروج من طبيعته المراوغة، أبدا. فهو، في تقديري، لا يزال مُرْتَهَنًا لأجندة مبهمة، هي أبعد ما تكون عن أجندة الوطن، وأبعد ما تكون من الشعور بمقاساة شعبه، ومعاناته، وآلامه، وعن الخوف الصادق على وقوف الدولة، على حافة الإفلاس والانهيار. لقد وضح، جليًا مما قيل، في المؤتمر الصحفي وبصورةٍ جليةٍ جدًا، أن المؤتمر الشعبي مشغولٌ بمصير أدلوجة الإسلام السياسي، في بعدها العابر للأقطار، أكثر من انشغاله بمصير السودان، وأهله. لا شيء يمكن أن يفسر موقف المؤتمر الشعبي، غير هذا، في تقديري.
حديث المؤتمر الشعبي عن الاستمرار في مسار الحوار الوطني، بصورته التي رأيناه بها، ليس سوى فرشٍ لبساطٍ زلق، يحاول أن يجتمع فيه مع المؤتمر الوطني، لإنقاذ تجربة الإسلام السياسي الفاشلة، في السودان، عن طريق إخراجها في ثوبٍ جديد. هذا البساط، الذي يفرشه المؤتمر الشعبي للمؤتمر الوطني، مغازلة لإنشاء تحالفٍ جديد، يرى الشعبي أن حالة الهوان والضعة، التي دبَّت في أوصال المؤتمر الوطني، حاليَّا، تجعله أكثر إمكانا. فالجماهير رفعت، بخروجها الملحمي هذا إلى الشوارع، في مدن وقرى السودان، سقف المطالب إلى علوٍ شاهق. ولم تعد جالسة في انتظار تحقق الوعود المخاتلة، التي أفرزتها مماحكات الحوار الوطني، التي استمرت لسنوات، لتنتهي إلى إبقاء كل شيء في محله، كما كان. بل، والأسوأ، محاولة تعديل الدستور، لجعل الرئيس البشير، رئيسًا، مدى الحياة. هذا، فضلاً عن أن ما سمي بالحوار الوطني، ترك قوى سودانية، ذات وزن جماهيري، وعسكري، معتبر، خارج المعادلة. بل وترك قطاعات عريضة غير منتمية للكيانات الحزبية خارج المعادلة. ومنها قطاع الشباب، الذي وضح الآن أنه هو الذي يقود هذا الحراك، الذي زلزل أركان النظام.
واضح لكل ذي عينين، الآن، أن خروج الجماهير وبهذه الصورة الواسعة، التي شملت كل أقاليم السودان، تقول، وبوضوحٍ شديد، أن ثوب هذا النظام، قد بلي تمامًا، ولم يعد قابلاً للترقيع. وكثير من الإسلاميين، أنفسهم، أصبحوا يشاركون الجماهير هذه الرؤية، وأخذوا يخرجون علينا، كل صبح جديد، بتسجيلات صوتية، تؤكد تبخر المشروع. فالدعوة وسط الإسلاميين بمراجعة التجربة من أساسها، والعمل مع طيف الآخرين العريض، الذي طال إقصاؤه، من أجل تأسيس نظامٍ توافقي جديد، كليًا، تتصاعد، الآن. وستزداد كلما استمر هذا الحراك السلمي، ذي القاعدة العريضة. فالمطلوب هو تأسيس نظامٍ ديمقراطيٍّ يقوم على حكم القانون، وعلى التداول السلمي للسلطة، وعلى الديمقراطية، بعيدًا عن أي أوهامٍ إيديولوجية. فالمعتقد الإيديولوجي يخص الجماعة المعينة والحزب المعين، ولا ينبغي تفصيله ثوبًا يجري إلباسه قسرًا، على جسد الدولة، وهي كما نعلم، دولة بالغة التنوع.
خلاصة القول، إن المؤتمر الشعبي يستغل الورطة الحالية، الخانقة، للنظام، محاولاً أن يبدو في صورة اليد الوحيدة، المنقذة. وهو إنما يفعل ذلك، لكي يعود إلى الواجهة، من جديد، بعد أن فقد مقعده فيها، منذ المفاصلة في عام 1999. المؤتمر الشعبي، فيما أرى، مشغولٌ بالكسب الحزبي، وليس بقضايا الجماهير، التي كرهت نظام الانقاذ، بكل تاريخه، وتشعباته.
لو سار المؤتمر الشعبي في هذا الدرب الزلق، فإنه سيذهب مع هذا النظام، الذي خرج من قلوب الناس، وفقد ثقة الشعب، وثقة الجوار الإقليمي، وثقة العالم، بسبب إسرافه غير المسبوق في الفساد والاستبداد. لو سار المؤتمر الشعبي في هذا الدرب التكتيكي، منتهجًا أسلوب التعامي عن جوهر القضية، فلسوف يخرج، من دائرة الفعل السياسي المؤثر، مع ذهاب هذا النظام، طال الزمن أم قصُر.