اختاروا المعركة ضد شعب .. لذا خسروا الرهان!

 


 

فضيلي جماع
18 January, 2019

 

 

لم أسمع في حياتي ولم أقرأ أنّ عصبة من البشر - حزباً كان أو جماعةً مسلحة - قد هزم في النزال أمة بأكملها. لم يحدث ذلك في التاريخ القديم ولا في عصرنا الحاضر . أقول هذا لأنّ الصراع الدائر اليوم في بلادنا من أقصى شمالها في حلفا وأمري إلى جنوبها الجديد في كاودا وخور يابوس ، ومن الجنينة في أقصى الغرب إلى بورتسودان في الشرق- هذا الصراع على طول وعرض التراب السوداني لا يقبل القسمة اليوم إلا بين خصمين: الخصم الأول يمثله الشعب السوداني الذي توحّدت فصائلُه تحت قيادة ميدانية وإعلامية تغلب عليها تركيبة شابة، تتراوح أعمارهم بين سن ال18 والأربعين عاما لأعلى تقدير.

أما الخصم الثاني فهو دولة الأخوان المسلمين (حزب سياسي بمسميات عدة). عصبة تربى أنصارها في حضن هذا الشعب. تلقى قادتها مثل كل السودانيين مراحل تعليمهم من المدارس الأولية (الإبتدائية) حتى إكمال كل مراحل التعليم أو بعضها. بل نال بعضهم داراسات فوق الجامعية. كل ذلك على حساب دافع الضرائب السوداني. وتعلموا فن المران الديموقراطي في المدارس الثانوية وعبر إتحادات الجامعات طوال حقب الحياة الديموقراطية قصيرة الأجل. لكنهم ظلوا طيلة الستين سنة ونيف - عمر الدولة السودانية- يسقطون في اختبار التعايش السلمي مع الآخر. الحياة في عرفهم لا تقبل "الشراكة"..إما هم ، وإما ....هم!! نفي الآخر المختلف هو خيارهم. لذا فقد كان متسقاً عندهم الإجهاز على التجربة السودانية الديموقراطية في 30 يونيو عام 1989 تحت تبريرات فقه الضرورة ، مبشرين بدولة ما أطلقوا عليه "المشروع الحضاري". ولأنّ أطروحة الأخوان المسلمين كما قلنا لا تعترف بالآخر المختلف ، فقد تخندق النظام وأنصاره منذ بداية هذه المعركة في جهة ، وبقية الشعب السوداني كله في جهة أخرى- اللهم إلا من بعض الأرزقية وآكلي فتات الموائد.

ثلاثون سنة ومؤسسات الدولة تباح كما لو أنها مسجلة بأسمائهم. إقتصاد قام على سياسة تخصيص مؤسسات خدمية حكومية لأفراد منهم ، يديرونها كما تدير أي أسرة حانوتاً أو مزرعة. نهب وتوزيع مقدرات البلاد بين عضويتهم باسم فقه التمكين. تصفية أفضل الخبرات في المؤسسة العسكرية (قوات مسلحة وشرطة و سجون) وإبدالها بمليشيات لخوض حروب قامت مذ أتوا ولم تنته حتى ساعة كتابة هذا المقال. حروب قسمت البلاد وأبادت العباد. ثم قس على ذلك الإجهاز على مؤسسات التعليم والصحة وغيرهما. فكانت النتيجة أن يجوع شعب إلى حد أن يأكل البعض من القمامة ، ويذل أبناء وبنات شعب السودان إلى حد المهانة. ولأول مرة تجلد فتاة تجلد ويسمع الغاشي والماشي في قارعة الطريق عويلها. والسبب الإشتباه في (كذا) أو بسبب ما ترتديه من ملابس يقوم عقلهم المربض بترجمة ما يوحيه!

إختار الإسلامويون أن تكون دولتهم في المعسكر الخصم للشعب السوداني. ولمن لا يعرف أطروحة الإخوان المسلمين جيداً فإن الوطن عندهم لا يعني سوى محطة صغيرة من تصور هلامي لدولة "الإسلام" القادمة. لذا شاهدنا تبرع نسائهم بذهب الشعب السوداني المسروق في تظاهرة شهيرة مناصرة لأطفال غزة ! كان بعضهن ينوح ويقلن للرجال : إعطونا السلاح لنحارب اليهود ما دمتم لا تحررون فلسطين! بهذا الفهم الفطير لقضية الشعب الفلسطيني ودفنها في غمار أيديولوجي ضيق ، يكون تفكير عضويتهم بأن أطفال غزة أقرب إليهم من أطفال يقصفهم طيران نظامهم الفاشي ويحرق قراهم وأطفال في دار فور وآخرين في جبال النوبة وفي جنوب النيل الأزرق تقصفهم الأنتينوف بالبراميل المتفجرة. مثل هؤلاء الأطفال لا يعنون بالنسبة للجماعات الإسلاموية شيئاً البتة. وحيث اندلعت شرارة ثورة تحرير المدن في عطبرة في 19 ديسمبر 2018، عرف كل ذي بصيرة أنّ ما يجري سوف يضع موازين الصراع في جبهتين ليس إلا: قوى الشعب السوداني في جهة ونظام الأخوان المسلمين وقلة من الأرزقية في الجهة الأخرى.

ولأنّ النظام قد أُخِذَ على حين غرة بثورة ترفع شعار (سلمية) في كل المدن والقرى لشهر كامل حتى الآن، فقد لجأ إلى آلته العسكرية والإستخباراتية مستخدماً الرصاص الحي ضد الصدور العارية. ظنّ النظام الذي يعاني من انهيار إقتصادي وعزلة سياسية قاتلة أنّ المعركة لن تطول. لكن طبيعة المعركة مختلفة هذه المرة. عصبة تحاول إسكات شعب بأكمله، لترتفع حناجر الملايين كل يوم بالهتاف: (الشعب يريد إسقاط النظام). تقول صحيفة لوموند الفرنسية ذائعة الصيت بتاريخ 17 يناير 2019 بأنّ ".. المؤشرات لا تدل على أن هذه الاحتجاجات بدأت تخمد، بل العكس، فالمتظاهرون لا يريدون الاستسلام رغم ما تعرضوا له من قمع."

ما لم يجعل منه مراسل لوموند ، ووكالات الأنباء عنواناً رئيسياً بعد ، هو أنّ شعباً أعزل بقيادة يغلب عليها عنصر الشباب، ظلت حناجرهم داوية بالهتاف بسلمية تظاهراتهم في كل أنحاء البلاد شهر اً كاملاً حتى اللحظة، دون تخريب رغم أن قناصة مليشيات الأخوان المسلمين تصوب الرصاص الحي إلى صدور المتظاهرين السلميين، الذين يزيد حماسهم ضراوة كل يوم. بطولات لا تحصى ربما حان وقت أن تطير بها وكالات الأنباء وشاشات التلفزة إلى أقاصي العالم. فتيات في عمر الزهور يتسابقن مع الشبان لنيل شرف المواجهة وتحدي الغاز المسيل للدموع والرصاص الحي. أي ملحمة يضيفها أحفاد المك نمر و أبطال شيكان وكرري وحفدة السلطان تاج الدين والمك عجبنا وود حبوبة إلى رصيد أجدادهم!!

أختم بثلاث نقاط اراها هامة لأبناء وبنات شعبنا في هذا المنعطف الخطير من تاريخ أمتنا:
* أولاً : لا يراهن على كسب نظام الإبادة في السودان للمعركة إلا شخص لا يعرف ثورات الشعوب في عصرنا الحديث. هذا النظام - وبشهادة بعض أنصاره أو من ناصروه ذات يوم- يخوض معركة خاسرة. لذا وجب ألا نعطي النظام فرصة ليجرنا إلى نبذ سلمية معركتنا التي هي سلاحنا الفعال.
* ثانياً: على أبناء وبنات شعبنا أن يدركوا أنّ المعركة مع هذا النظام ربما تتطلب وقتاً أطول. لذا وجب الصبر والجلد وفعل كل ما يرفع معنويات شعبنا. ليس لشعبنا ما يخسره . الخاسر الأكبر هو النظام الذي يصرف على شرطته ومليشياته من خزانة فارغة!!
* ثالثاً وأخيراً: الثورة العظيمة لا تقصي أحداً. إنّ ما يميز أهداف ثورة 19 ديسمبر هو أنها قامت لبناء وطن يسع الجميع. وفي هذا الإطار فإنّ أي سوداني ينضم لصفوف ثورة شعبنا سيجد من الشارع المنتفض كل الترحاب ، طالما أنه يؤمن بالمبادئ التي ينادي بها شعبنا. هذا طبعا لا يسقط حق المحاسبة تحت طائلة القانون لكل من سرق أو ارتكب جرماً ، فدماء الشهداء لا يعطيها الثوار قفاهم. فالمحاسبة للجناة واللصوص حق لا يسقطه حسن النوايا.

فضيلي جمّاع
لندن في 18 يناير 2019

fjamma16@yahoo.com
/////////////////

 

آراء