(1) وقفت طويلا على مقال المفكر الأكاديمي السياسي، عزمي بشارة، والذي خصّ فيه السودان، شعبه وحكومته، بضرورة النظر في التجارب المشابهة لانتفاضتهم الحالية، وأن يتم استيعاب ما فيها من دروس، فتنتهي التجربة إلى إيجابياتٍ مثمرة، لا إلى سلبياتٍ مدمرة. لا يحتاج مني بشارة إشادةً مستحقة، ولا إلى تأييد ما كتب، فهو صاحب قلمٍ يشهد له المتابعون برصانته وعميق تحليله، وقوة حجّته. أدلف هنا إلى جملة ملاحظات، أو هي محض هوامش على متن مقاله الرصين في "العربي الجديد" (15/1/2018).
(2) تتصل أولى الملاحظات بالطرف الذي يخاطبه بشارة، وهو النظام القائم في الخرطوم. الأحداث تسير على وتيرةٍ متسارعةٍ بين شعبٍ أعزل يرفع صوته محتجّاً، يطالب بتغييرٍ في بنية البلاد السياسية والاقتصادية، ونظامٍ ثبت أقدامه ثلاثين عاماً في حكم السودان بقوةٍ باطشة. إن كانت الشدة والتضحيات في العقد الأول من عمر ذلك النظام لكان أمرها مقبولاً، إلا أن الشدة ازدادت مع مضي السنين، فصارت إدارة البلاد أقرب إلى القسوة. وصار المسلك السياسي والاجتماعي بطشاً وإذلالاً ممنهجاً. لقد أدّى توطيد الحكم الإسلاموي في السودان إلى انفصال البلاد إلى بلدين، والأمة الواحدة إلى أمتين. ولم تأت تلك المصائر المأساوية على أيدي المستعمرين الذين حكموا البلاد نحو ستين عاما، بل تمت بيد غيرهم. تلك الطبيعة الإسلاموية الموغلة في التطرّف، والممعنة في القهر، تركت السودانيين تحت نير حكم استبدادي، أفضى بالبلاد إلى حالةٍ من العزلة غير المجيدة، وإلى مقاطعة حتى من أقرب الأقربين. كان التوقع أن تتجه رسالة المفكر عزمي بشارة إلى تنبيه عرّابي ذلك النظام إلى الدروس المستقاة من تجارب بعض ثورات الربيع العربي، يمكن أن يفيد منها النظام السوداني الذي يقف على أبواب موسم ربيعه الثالث، فيما الدنيا تبدأ موسم شتائها.
(3) في ملاحظة ثانية، كنت أرى أن للسودان تجاربه الثورية الغنية في تغيير أنظمته السياسية، بما قد يغنيه عن النظر في تجارب الآخرين. وقد ملّ الكتّاب السودانيون من التذكير بمواسم ربيعهم الذي حل أولها في عام 1964 (قبل أكثر من خمسين عاما)، وحلّ موسم ربيعهم الثاني في 1985 (قبل أكثر من ثلاثين عاما). لم تصحب الموسمين زلازل سياسية، ولا أريقت دماء كثيرة، ولا انزلقت البلاد إلى حروب أهلية. لعل العكس هو ما حدث، فإسقاط النظامين في ذينك العامين تم لأسبابٍ تتصل بضرورة وقف الحرب الأهلية في جنوب السودان وقتذاك. وكان رأي الشارع السوداني أن يذهب الفاشلون ليأتي العقلاء الذين يستطيعون إيقاف نزيف الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب. كان ربيع السودان في الحالتين حقيقيا، ولو تمعّنت مواسم الربيع العربي التي وقعت في بعض بلدان الشرق الأوسط في دروس التجربتين، لأمكن تجنب الانتكاسات التي منيت بها المواسم العربية. لم يقتل في السودان رئيس له بعد إزاحته من سدة الحكم. بعد تسليمه الحكم للقيادات السياسية التي قادت الانتفاضة ضد حكمه. تنحّى الفريق إبراهيم عبود في 1964، وذهب إلى بيته، ثم بعد وفاته في 1983 بكاه شعبه. وأزيح جعفر نميري في 1985، وحين وفاته في 2009، شيعه ملايين من السودانيين إلى مثواه في أم درمان، مسقط رأسه. لم يهرب الرؤساء السابقون في مواسم الربيع السوداني إلى المنافي، ولا تعرّضوا لبشاعة السحل، ولا للإهانة في المحاكم، ولا للإذلال في السجون.
(4) ثمّة ملاحظة ثالثة، هي في اتباع المنتفضين في السودان التواصل بينهم، بوسائط أتاحتها لهم مساحات الإنترنت، من "فيسبوك" و"واتساب" و"تويتر" و"إنستغرام"، عبر الهواتف الذكية. تلك خاصية جديدة في التحشيد الثوري بفعاليةٍ عالية، وهي التي تفسّر انخراط الشباب، وخصوصا الفتيات، واندفاعهم بحماسٍ مشهودٍ لتحويل تلك الاحتجاجات إلى ثورةٍ كاسحةٍ في شوارع مدن سودانية عديدة وطرقاتها. ومن فعالية ذلك التواصل الإلكتروني، أن الانتفاضة لم تقتصر على العاصمة وحدها، بل تعدّتها إلى أصقاع ومدن بعيدة في السودان. تلك خاصيةٌ غير مسبوقة، ولم تكن متوفرةً لانتفاضاتٍ شهدتها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، منذ ربيع تونس وما بعده من مواسم. وقد دفع اختيار السودانيين الساحات الافتراضية والإلكترونية النظام إلى النزول إلى الساحة نفسها لحجب مواقع إلكترونية، وللنظام أذرعه الممسكة بكل شركات الاتصالات في السودان.
(5) ملاحظة أخيرة تتصل بالرسالة التي تمنيت أن يرسلها المفكر بشارة إلى الحكام المستبدّين، ممن استمرأوا البقاء في الحكم، على الرغم من إخفاقاتهم فيه، والذين امتهنوا الغطرسة على شعوبهم، فتصوّروا أنهم والدولة كيان واحد، إن ذهب هو ذهبت الدولة ولحقها الفناء. القضاء على مساعي تخليد الاستبداد لا يتم عبر تعديلاتٍ ديكوريةٍ في الدساتير التي يعتمدها الطغاة، ولكن عبر كنسهم وأنظمتهم بانتفاضاتٍ جادّة، وذلك خيار له ثمن باهظ، يدفعه الثائرون من دمائهم ومن أرواحهم. أشار عزمي بشارة إلى تجربة ديكتاتور تشيلي بينوشيه، وهي تجربةٌ جديرة بالنظر. حكم الرجل بيدٍ من حديد، بعد القضاء على الرئيس الشرعي، سلفادور الليندي، في انقلاب عسكري دموي. يكفينا ما قرأنا عن الديكتاتور فيما كتبت الروائية إيزابيل الليندي، وما كتب غارسيا ماركيز مستلهماً قصة الرجل في روايته "خريف البطريرك". لكن آخر أمره، كان بينوشيه رحيما ببلاده على الرغم من أفاعيله البغيضة، إذ أزاحته انتخابات دستورية عن سدّة الحكم، وقَبِلَ بدورٍ ثانويٍّ قائدا صوريا للجيش، وأتاح له ذلك تمتّعاً بحصانةٍ، لم تعرّضه لإذلالٍ أو إهانة، ولكن ذلك كان إلى حين.
(6) في تجربة بينوشيه ما يلفت النظر، كما في تجارب قريبة أخرى هنا في القارة الأفريقية. رئيس موريتانيا، وقد جاء إلى الحكم بانقلاب عسكري، لكنه خضع لدستور بلاده، وأعرب عن عزوفه عن الترشح للرئاسة في انتخابات مقبلة. ذلك درسٌ جدير بالنظر وبالاتباع. لكن جنرال السودان ينتظر من مؤسساته أن تعدّل الدستور، فيحكم فترة رئاسية مقبلة... تُرى، هل قرأ "خريف البطريرك"؟