انتفاضة الشباب وتحديات الانتقال والتحول الديمقراطي: أسئلة تبحث عن إجابات!

 


 

د. الواثق كمير
20 February, 2019

 

 

Kameir@yahoo.com

تورونتو، 18 فبراير 2019

مقدمة

أعددت هذه الورقة أصلا لتقديمها في اللقاء التفاكري الثالث الذي ينظمة المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (الدوحة، 16-17 فبراير 2019)، الذي حالت ظروف طارئة دون المشاركة فيه. يعد هذا اللقاء بمثابة ملتقى للتداول حول تحديات الانتقال الديمقراطي السلمى في السودان والحوار الجاد حول أبعاد الأزمة الحالية، واستكشاف السيناريوهات الممكنة وآفاق المستقبل. سأتطرق في هذه المساهمة إلى ثلاثة مواضيع، وثيقة الصلة، حول انتفاضة الشباب وتحديات انتقال السلطة والتحول الديمقراطي. قد أخيب ظن من يتوقع مني إجابات قاطعة، قد لا أملكها، حول هذه المواضيع في ظل استمرار انتفاضة الشباب الساعي للحرية والتغيبر وقد دخلت شهرها الثالث، يقابلها النظام بعنف غير مسبوق أفضى إلى إزهاق إرواح العشرات من الشهداء وإصابة المئات، مما خلف أوضاعا سياسية بالغة التعقيد. ولكن، في المقابل سأطرح أسئلة هامة تحتاج لإجابات ملحة، وأظن انه من الافضل تقديم الأسئلة الصحيحة حتى يثمر اللقاء التفاكرى عن إجابات شافية لها مما يخدم قضية التغيير في السودان ويدفع بها الى الأمام. وحتى مجرد أسئلتي قد لا تعجب كثيرون، ففي أتون هذا الجو المشحون سياسيا أضحت الأسئلة مثار شك واتهام!


1) انتقال السلطة: هل من دور للرئيس؟
منذ نهاية الفترة الانتقاليَّة وانفصال الجنوب، في يوليو 2011، تشهد البلاد مآزق مستمرَّة ومتتابعة على نطاقٍ غير مسبوق، ومناخا سياسيامحتقنا ومتوترا، وتعيش في مرحلة “توازُنٍ الضَّعف”، حكومة ومعارضة. فالآن هناك استقطاب “رأسي” حادٌ وملحوظ بين الحكومة من جهة، والمعارضة السلميَّة والمسلَّحة على حدٍ سواء، وبعض منظمات المجتمع المدني والتكتلات الشبابيَّة، من جهة أخرى. أيضاً، هناك الانشقاقات والانقسامات “الأفقيَّة” داخل الأحزاب السياسيَّة، بما فيها الحزب الحاكم والحركة الإسلاميَّة، وتواتر معلومات عن تذمُّرٍ وتمَلمُلٍ داخل القوَّات المسلحة، مع تنامي الولاء القبلي والعرقي، وظهور السلفيين والجماعات الإسلاميَّة المتطرِّفة. ويتجلَّى هذا الاستقطاب السياسي الحاد في النزاع المسلح وتدهوُر الوضع الأمني في دارفور، الذى تهبط وتعلو وتائره من حين إلى آخر، والحرب الدائرة في جنوب كُردُفان والنيل الأزرق، وتردِّي الأوضاع الاقتصاديَّة إلى مستوى غير مسبوق وتفشي الفساد بشكل غير معهود، وفوق ذلك كله، كيفيَّة التعامُل مع المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة.

على هذه الخلفية، قبل سبع سنوات بالتمام، في 11 فبراير 2012، نشرت مقالا على نطاق واسع تحت عنوان "الكرة في ملعب الرئيس: تفكك الدولة السودانية السيناريو الأكثر ترجيحا" طرحت فيه اقتراحا (يسمى مبادرة هذه الأيام، أيام المبادرات) مفاده أنه ما زال لدى الرئيس البشير فرصة ذهبية في لعب دور تاريخي حاسم، يقود من خلاله عملية توافُقٍ سياسي على برنامج وطني يستجيب للتحديات الجسام التي تكتنف الأزمة الوطنية الماثلة، وعلى آليات تنفيذه. فلدى الرئيس صلاحيات دستوريَّة واسعة تتيح له تطوير حزمة من الإجراءات والتدابير اللازمة التي من شأنها أن تجنب تدهور الأزمة والانحدار نحو سيناريو تفكك الدولة، وبالتالي معالجة موضوع المحكمة الجنائية. ومن ضمن الخطوات التي اقترحتها:

1. تكريس وتخصيص الفترة المتبقية من ولايته (المنتهية في 2015) لقيادة عملية إنجاز المهام التي لم تكتمل في تنفيذ اتفاقية السلام الشامل، والمنصوص عليها في الدستور القومي الانتقالي، وذلك بهدف ضمان الانتقال السلمي إلى نظام ديمقراطي تعددي.

2. ابتدار، والشُّروع في، حوار صريح ومباشر وجاد مع جميع القوى السياسية في المعارضة من أجل التوصُّل إلى توافُقٍ وطني واتفاق سياسي على العناصر الأساسية لبرنامج “قومي” يُفضي التنفيذ الأمين له إلى مقابلة التحديات التي تواجه البلاد في هذا الظرف الحرج والدقيق من تاريخها الحديث.

3. توسيع قاعدة الحكم من خلال تشكيل “حكومة مشاركة” حقيقية، على المستويين الاتحادي والولائي، وذلك بتمثيل القوى التي لها ثقلٌ سياسي وقاعدة شعبية لدعم تنفيذ هذا البرنامج، بغضِّ النظر عن مشاركتهم في الانتخابات الماضية أو مقاطعتهم لها، في هذه الظروف الاستثنائية.

4. البدء في صياغة آليات العدالة الانتقالية ووسائل المصالحة والحقيقة الوطنية الشاملة، وتضميد الجراح في جميع أنحاء البلاد، وخاصة في المناطق المتأثرة بالحرب.

5. الشروع في مراجعة دستوريَّة شاملة في سياق عملية تتسم بالتوافُق والشمول والشفافيَّة والمشاركة الواسعة لكل القوى السياسيَّة والمدنيَّة، بغضِّ النظر عن الشكل الذي تتخذه هذه العملية، وذلك بهدف معالجة، والتوصُّل إلى توافُق الآراء بشأن كل القضايا الخلافيَّة الوطنيَّة.

6. تمهيد الطريق والتوصُّل إلى توافقٍ في الآراء مع جميع القوى السياسية المتنافسة على الشروط اللازمة والتشريعات الضروريَّة لتهيئة المناخ وتسوية أرضيَّة الملعب لإجراء انتخاباتٍ حُرَّة ونزيهة بما يرضي هذه القوى، بما في ذلك تشكيل هيئة ذات مصداقيَّة لتنظيم الانتخابات والإشراف عليها.

وبالرغم من، أن المقال وجد استحسانا وقبولا من عدد من المهتمين والمهمومين بشأن التغيير في البلاد، من جهة، إلا أنه وضعني في "دروة" معارضين آخرين كثر من كتاب الرأي والسياسيين ممن لم ترق لهم فكرة قيادة الرئيس لعملية انتقالية تنهي ولايته إلى أجلها بغرض الوصول إلى انتخابات حرة ونزيهة، من جهة أخرى. من أول المعلقين على أطروحتي الصديق سيف الدين حمدنا الله بقوله "ليس لدينا خلاف مع الدكتور الواثق كمير فيما أورده في السيناريو الأول والثاني، بيد أننا نختلف مع الدكتور الواثق كمير في أن يكون حل هذه المعضلة بيد الرئيس البشير، فالرئيس هو المشكلة لا الحل. فإن الجراح التي خلفها هذا النظام في نفوس الشعب طوال ربع قرن غائرة ولا تزال تنزف بغذارة، فقد إرتكب هذا النظام كل الموبقات في حق الشعب من قتل ودمار وتشريد وإعتقالات وتهجير ومظالم وفساد، ولا يمكن القبول بالمسئول الأول عن كل هذه الجرائم ليكون هو الحل، فليس صحيحاً أن الكرة في ملعب الرئيس، والصحيح أن الرئيس يلعب بنا الكرة" (الرئيس هو المشكلة لا الحل!! تعقيب على مقال د. الواثق كمير، سودانايل، 18 فبراير 2013).

كما كتب الدكتور عبد الوهاب الأفندي بالحرف، أن "آخر المنضمين إلى ثلة الوافدين على بلاط البشير وحملة العرضحالات إلي جنابه، الدكتور الواثق كمير، القيادي السابق في الحركة الشعبية، الذي بعث برسالة مفتوحة إلى الرئيس البشير يطالبه بأن يتولى تنفيذ برنامج أعده هذه المرة الدكتور كمير، الذي قد يكون من المناسب وقتها دعوته لتولي مهمة مستشار أو "مساعد" رئيس الجمهورية للإشراف على برنامج يقود إلى التحول الديمقراطي" (عبد الوهاب الأفندي، "الرئيس السوداني بين تحمل المسؤولية والتهرب منها!"، الراكوبة، 1 أبريل 2013). لم أسع ولا أسعي لنصيب في السلطة، وبالطبع لم ترد هذه الوظيفة أبدا في خاطري ولا أظن الرئيس أعار كلامي أي اعتبار، بل كان رده أن الانتخابات هي الحل، وهذا ما ظل يردده، كذلك قيادات الحزب الحاكم حتى لحظة كتابة هذه الورقة. أما السيد الإمام، الصادق المهدي، فقد بعث إلي بتعقيب مكتوب على مسودة المقال، في 23 يناير 2012، اتفق فيه معي، على حد قوله "على جوهر الموضوع والأطروحة المقترحة"، إلا أنه قدم لي اقتراحا مفاده أن "للبشير فرصة تاريخية ليدعو الكافة للاتفاق على رئيس وفاقي"، مقترحا آلية محددة بمشاركة البشير في الاختيار والموافقة على هذا الرئيس الوفاقي. فالسيد الإمام كان يدعو لتنحي الرئيس منذ الوهلة الأولي قبل خطبة الجمعة في 25 يناير 2019، التي أعلن فيها مطالبته له بالتنحي المتفاوض عليه.

ومع ذلك، ففي الوقت الراهن وبعد مرور شهرين من انتفاضة ديسمبر الشبابية التي انطلقت في كل ربوع السودان، عادت فكرة قيادة الرئيس لعملية الانتقال للتدوال بين السياسيين والمهتمين بايجاد حلول للوضع السياسي المحتقن. فقد تقدمت بعض الشخصيات والجهات السياسية والمراكز البحثية باقتراح مشابهه لما طرحته قبل ست سنوات. فتقرير مركز دراسات الجزيرة الأخير يعتبر أنه من أفضل خيارات التغيير هو تخلي الرئيس عن الترشح لانتخابات 2020 مع تقديم ضمانات واضحة لعدم الترشح (مركز دراسات الجزيرة، الحراك في السودان: الفاعلون الرئيسيون والسيناريوهات المستقبلية، 21 يناير 2019). كما أحيت مجموعة ال 52 شخصية لمبادرة تقدمت بها في أواخر العام 2015 والتي تطالب الرئيس بتشكيل حكومة انتقالية تتوافق عليها القوى السياسية. ذلك، إضافة الى ما طرحه القيادي الإسلامي البارز، الأستاذ الشفيع أحمد، في رسالة صوتية يدعو فيها الرئيس إلى الاستماع لرأي الشباب المطالب باسقاط النظام وأن يكون هو جزءا من التغيير ضمن تدابير انتقالية متفاوض عليها تفضي إلى نظام جديد. كما استمع الرئيس مباشرة خلال لقائه بالصحفيين وكتاب الرأي إلى دعوة من أحدهم لأن يكون قائدا للتغيير وليس هدفا له. ومع ذلك، وبنفس القدر يبدو أن قيادة البشير لعملية انتقال السلطة أمر ليس بمقبول إطلاقا من تنظيمات الشباب الممسكة بزمام الانتفاضة وتجمع المهنيين المعترف به كقيادة جماعية لحراك الشارع، إضافة إلى غالبية القوى السياسية المعارضة الموقعة سويا مع التجمع على "بيان الحرية والتغيير" المطالب بإسقاط النظام ، دون قيد أو شرط، وتشكيل سلطة انتقالية ديمقراطية. وفي تعبير مباشر عن هذا الموقف، تواترات بيانات متعددة من شخصيات عديدة تنصلت وتبرأت فيه من علاقتها مع "مبادرة السلام والإصلاح"، مجموعة ال 52، ومعلنة بأشد العبارات تمسكها والتزامها بإعلان الحرية والتغيير. ولمزيدا من التحري، قمت بمساعدة بعض الأصدقاء بتوزيع استبيان حول الأمر إلى عدد من الشباب المنخرطين في خضم الانتفاضة. أكثر من 90% من الإجابات ترى أن مثل هذا الطرح قد تم تجاوزه تماما وأن على الرئيس التنحي فورا وأن التفاوض معه لا يعني غير ضياع دماء الشهداء.

ولكن، على الضفة الأخرى هناك القوى السياسية المنضوية تحت لافتة الحوار الوطني، المشاركة منها في حكومة الوفاق أو تلك التي مؤخرا سحبت ممثليها من الأجهزة التنفيذية والتشريعية، والتي قد لا ترى بأسا في القبول بإعلان الرئيس تخليه عن الترشح مجددا وأن يقود الانتقال بحسب مخرجات الحوار حتى انتخابات 2020، ولو تم التوافق على تأجيلها لعام آخر. ونحن نتفاكر حول الحلول في هذا اللقاء، فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا ويحتاج إلى إجابات: هل نتجاوز هذا الخيار برمته بحثا عن خيارات أخرى، وغض الطرف تماما عن قوى الحوار الوطني؟ حقا، هناك عدد مقدر من الأحزاب تصطف وتتحالف مع المؤتمر الوطني، من بينها الاتحادي الديمقراطي، زعامة مولانا الميرغني، والمؤتمر الشعبي، إضافة إلى حركات مسلحة موقعة على اتفاقات سلام مع الحكومة مضمنة في الدستور، اتفاقية شرق السودان، واتفاقية الدوحة، ومع فصائل من الحركة الشعبية في جنوب كردفان والنيل الأزرق. أم أن الأمر لا يزال مثيرا للجدل ونحتاج للتوقف عنده وأن نترك باب الحوار مفتوحا حوله؟ خاصة وأن لقائنا هذا قد لا يكون جامعا لكل وجهات النظر.


2) قوى الانتفاضة والحلقة المفقودة: متى تتوحد الرؤية؟
من المهم، أن نقرأ بعمق طبيعة القوى المشاركة في انتفاضة ديسمبر المستمرة والهادفة إلى إسقاط النظام، في مقابل الحزب الحاكم وحلفائه، والتبصير بتحديات انتقال السلطة التي تواجه هذه القوى والعقبات التي تقف فى طريق تحقيق هدف التحول الديمقراطي والتغيير المنشود، وذلك في سياق المشهد السياسي العام.

شباب الانتفاضة
ظلت القوى السياسية المعارضة، المدنية منها والمسلحة، ترفع شعار "إسقاط النظام" منذ النصف الثاني من عام 2012، خاصة في أعقاب الاحتجاجات الشعبية الشبابية ضد إجراءات التقشف الاقتصادية التي فرضتها الحكومة في يونيو من نفس العام. ولكن، لم تجد هذه الدعوة صدى ملحوظا وسط المواطنيين ولم تكتسب زخما أو تؤخذ بجدية إلا بعد إنطلاق الانتفاضة الشبابية كاملة الدسم منذ منتصف ديسمبر 2018. حقا، لقد أصبح شعار "تسقط بس" الذي ابتدعه الشباب هو الحافز والدافع لحشود هائلة من الشباب بين عمر 17 إلى 32 عاما، مع حضور طاغي للنساء، والذي أصبح نغمة مفضلة للتلفونات، وانتشر الشعار اقليميا وعالميا بفضل وسائط التواصل الاجتماعي. المفارقة، أن هؤلاء الشباب قد نشأوا وتربوا في حض نظام الانقاذ وغالبيتهم من خريجي ثورة التعليم العالي. هذه الريادة والمشاركة الشبابية هي السمة المميزة، ضمن اختلافات أخرى، لهذه الانتفاضة عن التجارب السابقة للانتفاضات التي شهدها السودان، فالشباب هم وقودها وشهدائها. والجدير بالذكر هنا، أن انتفاضة الشباب هذه ليست بوليدة اللحظة، كما يظن البعض، بل هي تتويج لتراكم من الانتفاضات وتجارب في المقاومة بالخروج إلى الشارع. ومن المرجح أن هذه التنظيمات الشبابية كانت تعد وتخطط للانتفاضة منذ أمد بعيد على أن تقوم في وقت لاحق في بداية السنة الجديدة، بينما اضطرتهم تباشير الاحتجاجات العفوية خلال النصف الأول من ديسمبر 2018 لتقديم موعدها والانخراط فيها بدون انتظار.

مع تراكم التجربة في المقاومة والتصدي للعنف الأمني اكتسب الشباب مهارات في توجيه الحراك في كل المواقع المعلنة باللجؤ إلى أسلوب "القيادة الأفقية" في تنظيم المظاهرات وضبطها في مواقع متفرقة ومدن مختلفة واستخدام التكتيكات البارعة في مقاومة القوات الحكومية والموازية الباطشة. تتألف المجموعات شبابية مختلفة المشارب ومتعددة الأطياف، دون حاجة لذكر أسماء، وتضم عضويتها المستقلين، ويشكلون الأغلبية، وأيضا المنتسبين أو المنتمين إلى تنظيمات سياسية متباينة الأطياف التوجهات والواجهات الفكرية، فمنهم اليساريين والديمقراطيين وبعض مناصري الحركات المسلحة، ومنهم شباب حزب الأمة والاتحاديين وإسلاميين، خاصة من المؤتمر الشعبي سابقين وحاليين، وحتى السائحون. وهم يعرفون بعضهم البعض جيدا منذ العام 2006 عبر عمل مستمر تطوعي وخيري وانساني وحقوقي وسياسي-فكري، وشاركوا في مكافحة كوارث السيول والفيضانات والمبادرة بالمقاومة في الشارع منذ أخريات عام 2011، وصلت إلى درجة أعلى من ناحيتي الحجم والتنظيم في يونيو 2012، ثم انتفاضة سبتمبر 2013، وصولا إلى العصيان المدني في نوفمبر 2016، تحديا لقياداتهم التي يرمونها بالتردد في اتخاذ القرار الحاسم. فهم عازمون على عدم التراجع ومصممون على المضي في طريق الانتفاضة حتى تبلغ هدفها: تسقط بس.

إصرار وعزيمة الشباب فى عدم التراجع أو الرجوع عن "تسقط بس" تستدعي، وبالضرورة، بذل جهد مواز أكبر لامتلاك الأدوات اللازمة والتصور الواضح لآليات ودينمات عملية الإسقاط والانتقال، كشرط رئيس للوصول بالانتفاضة لتحقيق أهداف التحول الديمقراطي، والحرية والسلام والعدالة. عوامل ثلاثة رئيسية ينبغي ألا تغيب عن ذهن الشباب أو تفوت على فطنتهم، وهم في أتون حراك المقاومة الميداني: القيادة، والتظيم، والرؤية الواضحة لما بعد تسقط بس. لا شك أن هذا الحراك الشبابي الضخم والمنظم سيفرز قياداته وأنه بقادر على انتاج أكثر من "أصم"، خاصة وأن الشباب هم من نذروا أنفسهم ووضعوا على عاتقهم مسؤولية قيادة الشارع الذي ينتظر ويتطلع إلي حياة أفضل ومستقبل آمن. ولابد لهذه القيادة أن تتكئ على تنظيم متماسك يمنحها الشرعية ويوفر المعاون والأداة اللازمة لتنفيذ الاستراتجيات والبرامج الموعودة. الافتقار للتنظيم هو السبب الرئيس في فشل "ائتلاف شباب الثورة" في مصر في يناير 2011، وفي تبعثر قياداتها، من أمثال وائل غنيم وأسماء محفوظ وأحمد ماهر وعلاء عبد الفتاح وأحمد دومة، فهم إما خلف القضبان أو اختاروا اللجوء السياسي أو اعتزلوا النشاط السياسي نهائيا وتفرقوا الى حيواتهم العملية. فهكذا، "خرج شباب ميدان التحرير من "مولد الثورة" بدون حمص. فجعتهم الديمقراطية، التي طالما تمنوها ونادوا بها، شر فجيعة، إذ أتت بالأخوان إلى الحكم. فخرس صوتهم المنادي بها، ووهن عزمهم على حمايتها" (النور حمد، حول طرح السر سيد أحمد، الراكوبة، 22 أبريل 2018). لا أدري، لكن لا أستبعد أن تتضمن أجندة الحوار والنقاش الدائر وسط الشباب التفكير في ابتداع الطريقة السليمة والمناسبة لإنشاء مظلة سياسية أو تحالف أو حركة، سمها ما شئت، تمثلهم وتعبر عن رؤيتهم وأفكارهم.

وربما الأهم، هو بلورة وتسييل شعار "تسقط بس" عن طريق صياغة رؤية واضحة لتفاصيل الميثاق الذي تعاهدوا على تنزيله على أرض الواقع. من الأهمية بمكان أن يكون للشباب تصور متكامل للترتيبات الانتقالية والمرجعية الدستورية لفترة الانتقال، على المدى القريب، وللتحول الديمقراطي فيما يلي مرحلة ما بعد انقضاء الفترة الانتقالية والدخول في مرحلة الانتخابات، على المدى البعيد. يستدعي تطوير هذه الرؤية الاطلاع على توجهات وبرامج الأحزاب السياسية المختلفة، وبذلك يسهل تحديد مسافات الاقتراب من، والافتراق بين الشباب وهذه الأحزاب. أكاد أزعم أن غالبية شباب الانتفاضة لا علاقة له بالأحزاب، بل والبعض قد لا يعلم عنها شيئا وقد لا يطيقها البعض الآخر، لمجرد أنها في أعينهم تمثل "الجيل القديم" الذي لم يورثهم إلا عسرا. ومع ذلك، لعل الشباب يدركون أنه لا غنى عن الأحزاب السياسية، طالما ارتضينا طريق التحول الديمقراطي، فهي تشكل الأعمدة التي يتأسس عليها النظام الديمقراطي التعددي، الهدف الأساس الذي ينشده شباب التغيير. وفي الواقع، هناك أعداد من شباب هذه الأحزاب المتمرد على جيل القيادات وسياساتها، وظلوا مشاركين بفعالية في كل هذه السلسلة من المقاومة والاحتجاجات.

كما أنه من المتسق مع شعار الانتفاضة الرئيس: حرية عدالة سلام، الانفتاح على الآخر وتقبل الرأي المخالف، مع تحاشي الوقوع في فخ الإقصاء الوارد ضمن أجندة القوى السياسية المتناحرة على السلطة أن لا يتم إقصاء أي طرف سياسي، إسلاميين أو غيرهم، إلا من أرتكب جرما أو تلوثت أيديه بالدماء أو من انتهك حقوق الإنسان، وذلك بحسب القانون وفق معايير العدالة الانتقالية وآلية الحقيقة والمصالحة المتوافق عليها. فقد اتضح أن عددا لا يستهان به من شباب الإسلاميين شارك في الخطوط الأمامية للمظاهرات والمواكب في مجابهة جهات ملثمة غاشمة وقوات أمنية مدججة بالسلاح، فاستقبلوا الرصاص على صدورهم وبطونهم واستشهد منهم من استشهد. باتباع هذا الفهم والمنهج يدفع شباب الانتفاضة بعجلة التغيير والتحول الديمقراطي نحو بناء دولة المواطنة والعدالة والمساواة في الحقوق والواجبات، ليثبتوا حقا أنهم جيل الريادة وقيادة التغيير من أجل حياة كريمة وآمنة لهذا الشعب الصابر المكلوم والمغلوب على أمره. على الشباب أن ينأوا بأنفسهم عن أي تفكير أو ممارسة للإقصاء لأي طرف من الأطراف بسبب الخلاف في الرأي أو الفكر أو العقيدة، فهذه من مواصفات "السودان القديم" الذي انتفض في وجهه هذا الجيل المتوثب ل "سودان جديد"، فهم الأجدر برسم معالم مستقبل البلاد.


تجمع المهنيين
رضي الشباب، وارتضوا ب "تجمع المهنيبن" كقيادة جماعية لحراكهم هذا، ولو بدون كشف عن هذه القيادة، ربما لأسباب موضوعية وذاتية يدركها المنظمون لهذا الحراك. ويتشكل التجمع، الذي أعلن عنه في نوفمبر 2018، من اصطفاف لما عرف ب"النقابات الموازية" التي تتولى الدفاع عن قضايا المهنيين ولا تعترف بالنقابات الخاضعة لسيطرة الحكومة. ولقيت قيادة التجمع لهذا الحراك قبولا واسعا من قطاعات مختلفة وتنظيمات سياسية واصطفاف كببر خلفها وسط السودانيين في الاغتراب والمهجر. يتشكل من ثمان أجسام مهنية، تشمل ضمن آخرين، صحفيين وأطباء ومهندسين وصيادلة وأساتذة جامعات ومحامين ومعلمين، تتفق على هدف إسقاط النظام. ومع ذلك، يظل الناشطون الفاعلون في هذا الحراك بإسم التجمع هم قيادات المنظومات الشبابية. وبالرغم من إنتماء عدد من عضويته لأحزاب سياسية فإن نشاطهم يتسم باستقلال كبير عن هذه الأحزاب وعن ارتباطاتهم الأخرى. لا أدري إن كان تجمع المهنيين قد استعار فكرة "التجمع النقابي"، المظلة التى انضوت تحتها عدد (ارتفع من 6 كيانات نقابية مؤسسة إلى 44 بنهاية أبريل 1985) من النقابات العامة والهيئات التقابية التابعة للاتحاد العام لنقابات المهنيين، الذي كان حينئذ في قيادة الانتفاضة. في الواقع، الفكرتان متشابتهان وبينهما قاسم مشترك. فكل من التجمعين بمثابة تحالف نقابي له هوية سياسية حدد بموجبها موقفه من النظام الحاكم وتحالف مع القوى السياسية المعارضة لإسقاطة في أبريل 1985 وفي ديسمبر 2018. فقد وقع التجمع النقابي الميثاق الوطني مع الأحزاب السياسية، أيضا كما وقع تجمع المهنيين إعلان الحرية والتغيير مع عدد من القوى السياسية. ومع ذلك، فهناك أيضا اختلافان جوهريان بين تجربة التجمعين. أولهما، أن التجمع النقابي، ولو كان بمثابة مظلة سياسية ضد النظام، إلا أن النقايات المنضوية تحت لوائه هى كيانات لكل منها جمعية عمومية وقيادة تنفيذية منتخبة وتمارس نشاطها النقابي وفقا للقانون المنظم للعمل النقابي في البلاد. وثانيهما، كانت النقايات المؤسسة للتجمع النقابي تسيطر على مؤسسات الدولة والقطاع العام، مما كتب النجاح لإعلان الإضراب السياسي العام الذي شل تماما دواليب العمل الحكومي.

وبالرغم من، أن التجمع النقابي كان هو رأس الرمح في تفجير وقيادة حراك الانتفاضة، خاصة بعد نجاح مهيب لموكب 3 أبريل الذي دعا له التجمع، إلا أنه ككيان منظم لم يصمد طويلا بعد سقوط نظام مايو وتشكيل الحكومة الانتقالية. بقيادته للحراك، تصور التجمع أنه قوة سياسية من الوزن الثقيل فتقدم بعدد من المطالب لم يفلح أيضا في تحقيق أي منها. كنت شاهداً عن قرب على مجريات أحداث مارس/أبريل 1985 بحكم موقعي النقابي آنذاك في اللجنة التنفيذية للهيئة النقابية لأساتذة جامعة الخرطوم، وكنت سكرتيرها المالى حينما وقع انقلاب الجبهة الإسلامية القومية، وما أقوله في هذا الصدد كنت مشاركا فيه فعليا وليس بتكهن أو شهادة سماعية. فقد طالب التجمع النقابي بأن ينص البند الأول من ميثاق الانتفاضة على تمثيل "القوي الحديثة" في جميع الهياكل الدستورية الانتقالية. وكان المفهوم السائد آنذاك هو ان مشاركه النقابات، خاصة المهنية منها، في نظام الحكم هو السبيل الوحيد لتخليص البلاد من التركات المتعددة لنظام مايو، ولا سيما الحالة الاقتصادية الحرجة. وبذلك، فقد طالب التجمع النقابي بحصة الأسد في هياكل الحكم الانتقالي، 60% من الحقائب الوزارية، بما في ذلك رئيس الوزراء، و40% من الهيئة التشريعية. لكن، لم تأت الرياح بما تشتهي سفن التجمع، فقد احتكر المجلس العسكري الانتقالي السلطة التشريعية، بينما أوكل إليه أمر ترشيح رئيس الوزراء والوزراء، شريطة أن تجد قبول الأحزاب السياسية والمجلس العسكري. بسبب هذا العزل والابتعاد تماما عن هياكل السلطة الانتقالية ، تضعضع دور التجمع النقابي إلى مجرد مراقب للأحداث من مقاعد الجالسين على الرصيف. إن إقصاء التجمع من مؤسسات الحكم الانتقالي لم يثنه عن النضال من أجل قانون انتخابي يسمح بتمثيل القوات "الحديثة" في الهياكل الدستورية للجمهورية الديمقراطية الثالثة. وتحقيقا لهذه الغاية ، قدم التجمع النقابي مقترحات محدده لتحديد الدوائر الخاصة التي سيقتصر فيها الحق في التصويت والترشيح علي العمال والمهنيين والمزارعين. بالطبع، اعترض المجلس العسكري والأحزاب السياسية (الأمة والاتحادي) علي هذا الاقتراح بذريعة أنه غير ديمقراطي ويخالف القاعدة الديمقراطية الأساسيه ل "صوت واحد لناخب واحد". وعقب مدوالات مطولة، تم التوصل إلى توافق في الآراء بشان تخصيص 28 مقعدا ل "الخريجين"، على أساس إقليمي وليس قوميا لتمثيل القوات "الحديثة". وبذلك، خرج التجمع من المسرح السياسي نهائيا، ففي نهاية المطاف فازت الجبهة الإسلامية القومية بالاغلبيه الساحقة من مقاعد الخريجين، بعد أن صممت القوانين التي تحكم العملية الانتخابية لصالحها.

هذه دروس من تجربة التجمع النقابي، التى استهدى بها تجمع المهنيين، ينبغي أن لا تغفل عنها قيادة هذا التجمع. فهل أيضا ترى هذه القيادة أن استقرار واستدامة النظام السياسي الديمقراطي مرهون بالمشاركة الفعالة للنقابات في مؤسسات الحكم، أم أن هذا فهم قد تجاوزه الزمن؟ وما هو حظ تجمع المهنيين، في ظل ظروف موضوعية وذاتية مختلفة تماما من تلك التي سادت أبان انتفاضة أبريل 1985، في استدامة الكيان حال نجاح الانتفاضة؟ هل هناك من مجال لتحويله وتطويره إلي تنظيم سياسي، بغض النظر عن الشكل إذا ما كان حزبا أو حركة أو تحالف، أم سيتفض السامر وتتفرغ قياداته إلى ممارسة العمل السياسي من خلال أحزابهم، فللأحزاب ممثلين لها في قيادة التجمع، أم يعود غير المنتمين حزبيا إلي منازلهم ولمزاولة أعمالهم المهنية؟


3) القوى السياسية المدنية والمسلحة
من جهة أخرى، لم تتوان كافة القوى السياسية المدنية والمسلحة، على حد سواء، من دعم حراك الشباب في بيانتها المتواترة ومناشدة عضويتها في الانخراط في المظاهرات والمواكب والاعتصمات التي يدعو لها تجمع المهنيين. فهكذا، وقع تحالفا "نداء السودان" و"قوى الإجماع الوطني"، ويضم كل منهما عدد من الأحزاب السياسية المعارضة والحركات المسلحة، إضافة إلى كيانات فئوية أخرى وتنظيمات المجتمع المدني، مع تجمع المهنيين على "إعلان الحرية والتغيير"، 1 يناير 2019. وبالرغم من ذلك، لم تستطع هذه القوى السياسية لملمة أطرافها والاتفاق على ميثاق موحد للانتفاضة، أو رؤية واضحة لطبيعة السلطة الاتقالية وماهية القوى التي ستقوم بتشكيلها. فمن ناحية، طرح السيد الإمام منذ أواخر العام الماضي "ميثاق الخلاص الوطني والمواطنة"، ولم يتوافق عليه حتى حلفائه في نداء السودان، بينما تنادي قوى الاجماع الوطنى بالرجوع إلي وثيقة "البديل الديمقراطي"، الموقعة في يوليو 2012، في الوقت الذي تتمسك القوى الشبابية وتجمع المهنيين ب"إعلان الحرية والتغيير". وبالرغم من المؤتمر الصحفي الذي عقدته قوى إعلان الحرية والتغيير، الأربعاء 13 فبراير، إلا أنه لم يتحقق اجماع بعد بين القوى السياسية على رؤية واضحة لترتيبات الانتقال. أما الحركات المسلحة المنضوية في تحالف نداء السودان، حركة تحرير السودان/مناوي وحركة العدل والمساواة/ جبريل، والحركة الشعبية شمال/عقار، لم تشارك في المؤتمر الصحفي بدار الأمة، كما جرت العادة، وما تزال تتقاصر عن التوقيع على ميثاق الخلاص الوطني، الذي اقترحه رئيس التحالف نفسه، مما عطل الإعلان عنه حتى هذه اللحظة. فقد اعتذرت قوى نداء السودان عن انعقاد المؤتمر الصحفي المزمع فير6 فبراير 2019. ذلك، مقرونا مع إعادة إحياء تحالف "الجبهة الثورية" بعد انقسامها إلى جبهتين ثوريتين، في آواخر عام 2015، إحداهما بقيادة د. جبريل إبراهيم والأخرى بزعامة الفريق مالك عقار، فهل للأكمة ما ورائها، وأن تبدلا وشيكا قد يطرأ على التحالفات السياسية؟

ومن جانب آخر، هناك ثمة تكتل سياسي آخر لعدد من الأحزاب والتنظيمات السياسية تحت مظلة "الجبهة الوطنية للتغيير"، يبدو أنه غير مرحب به للانضمام إلى جبهة الحرية والتغيير، ربما بسبب الطابع الإسلامي لعدد من أحزاب الجبهة الوطنية. وهذا هو نفس المصير الذي لاقته مبادرة "السلام والإصلاح"، برئاسة الجزولي دفع الله، بعد أن رفض تجمع المهنيين الحوار حولها داعيا أصحابها لخيار التوقيع على الإعلان فقط. للمفارقة، نشرت مقالا قصيرا أشرت فيه إلى التقاء وتوافق بعض قوى المعارضة مع الإسلاميين على هدف واحد وهو إثناء الرئيس عن الترشح لولاية رئاسية جديدة، في مخالفة لدستور البلاد. تساءلت في المقال ما إذا كان لهذا التوافق ما بعده، بمعنى تجاوز وضع التواصل السياسي مع الإسلاميين في خانة "المحرمات السياسية" أم "كل في فلك يسبحون"؟ (الواثق كمير، "مفارقة: هدف مشترك للمعارضة والإسلاميين!"، سودانايل، 2 أكتوبر، 2018)

وما قد يثير التساؤل حول جدية تحالفي نداء السودان والاجماع الوطني، أو أي منهما، في التوافق الكامل مع تجمع المهنيبن وإعلان الحرية والتغيير، هو المستوى القيادي للموقعين على الإعلان نيابة عن تحالفي نداء السودان والاجماع الوطني، وكأنما قيادة التحالفين "تقدم رجلا وتبطئ الأخرى"! في رأيي، أنه ما تزال القوى المعارضة عاجزة عن القراءة من نفس الصفحة، بينما تواجهها أسئلة صعبة تستدعي أن تبحث هذه القوى على إجابات شافية عليها، بحكم مسئوليتها في قيادة التغيير. على رأس هذه الأسئلة، هل هناك توافق على طبيعة ومدى التغيير المطلوب؟ بمعنى هل هذه القوى متفقة على تعريف دقيق لهدف إسقاط النظام؟ بعبارة أخرى، هل المقصود هو إزاحة رأس النظام، وهو هدف تلتقي فيه مع قطاعات مقدرة من الإسلاميين ومن المجموعات المناهضة للبشير في المؤتمر الوطني؟ أم الهدف هو إلغاء كافة المؤسسات الدستورية القائمة؟ وهل يشمل ذلك حل الحزب الحاكم، وبالتالي مجمل المنظومة الحزبية، والرمي بمخرجات الحوار الوطني في سلة المهملات، خاصة وأن مكونات هامة في المعارضة لا تعترف لا بهذا الحوار ولا بمخرجاته؟

وإلحاقا للإساءة بالأذي، تكاثرت المبادرات وتعددت المواثيق، المتشابهة المضمون فيما يلي تنحي الرئيس عن السلطة وتشكيل حكومة انتقالية، بل بدأت الدعوات تتوالى من جهات مختلفة لتدخل الجيش واستلام السلطة. فكل هذه المبادرات قائمة على فرضية سقوط النظام وهكذا انتقال السلطة إلى هذه القوى للقيام بتنفيذ مواثيقها وبرامجها المعدة للحكم. هذه الوثائق قد تصلح كمانيفستو انتخابي للتحالف والتنافس بين القوى السياسية. ولنا في مقررات أسمرة للقضايا المصيرية عبرة، فهي أجود وثيقة صاغتها القوى السياسية السودانية في تاريخها، فلم تجد إلا الإرشيف مرقدا لها، فقد فشلت قوى التجمع الوطني الديمقراطي في الحيازة على السلطة. ولكن في حقيقة الأمر، فإن التحدي الرئيس الذي يجابه هذه القوى هو الاتفاق على ترتيبات عملية انتقال السلطة والذي من الطبيعي، وبحكم التجربة محليا واقليميا، أن يتم بين قيادة الجيش المستلمة للسلطة والقوى السياسية الفاعلة. في 1985, مثلا، تم التوافق على ميثاق الانتفاضة بين 3 أحزاب سياسية و6 كيانات نقابية، ممثلة في التجمع النقابي، هي التي تفاوضت نيابة عن الشارع مع المجلس العسكرى الانتقالي. أما الآن، هناك ثلاث مشاكل تستدعي الانتباه والمعالجة من قبل تجمع المهنيين والقوى السياسية الداعية لإسقاط النظام. أولاً ، من هى القوى هذه المرة التي ستتفاوض مع القيادة العسكرية الجديدة، في ظل وجود اكثر من مائة حزب ما بين مشارك في الحكومة ومعارض لها؟ وهل ستقبل القوى المعارضة بمشاركة أحزاب الحوار في المشاورات مع قيادة الجيش؟ فإن وافق المجلس العسكري في 1985 على استبعاد الإسلاميين، بضغوط من تجمع النقابات والأحزاب، من المفاوضات حول الترتيبات الانتقالية وتشكيل الحكومة، فمن باب الواقعية السياسية: هل هذا في حكم الممكن اليوم؟

خلاصة الأمر، لا شك أن الاتفاق على طبيعة وشكل الحكومة الانتقالية ومدتها وتحديد مهامها يشكل معضلة كبيرة. ثانياً، من الضرورة بمكان الاتفاق على مرجعية دستورية لتنظيم المشاركة السياسية في الفترة الانتقالية. في أبريل 1985، تم تجاوز هذه النقطة بالتوافق، بين القوى الموقعة على ميثاق الانتفاضة والمجلس العسكري، على دستور السودان المؤقت لسنة 1956 المعدل في 1964، كمرجعية لتأسيس نظام حكم برلماني من مجلس سيادي ومجلس تنفيدي للوزراء.أما الآن فدستور 2005 الانتقالي هو الذي يدار الحكم على أساسه، ينهض على نظام حكم رئاسي كامل الدسم، فهل تنظم الحياة السياسية بموجبه على الفترة الانتقالية؟ ذلك، خاصة وأن كافة القوى السياسية المعارضة قد توافقت على هذا الدستور، بعد توقيع التجمع الوطني الديمقراطي على اتفاقية القاهرة مع النظام في يونيو 2005، بل وشاركت، باستثناء حزب الأمة القومي، في المؤسسات التشريعية والتنفيذية الانتقالية. وثالثاً ، مشكلة أخرى تكمن في كيفية معالجة النزاع المسلح ووقف الحرب في المنطقتين ودارفور. ففي أعقاب انتفاضة مارس/أبريل 1985، وصف د. جون قرنق عملية الانتقال بمايو 2 بسبب استبعاد الحركة الشعبية من مفاوضات تشكيل حكومة الانتقال وكافة الترتيبات الانتقالية، فهل سيتكرر السيناريو أم ستكون لقوى الانتقال رؤية مختلفة؟ أم ستبارك الحركات المسلحة الانتقال بغض النظر عن مشاركتها في المفاوضات حوله؟

فإلي متى تتناسل المواثيق ويستمر مسلسل المبادرات، بينما الجدل لا ينقطع حول من يبادر أو توكل له مهمة جمع هذه المبادرات والتنسيق بينها. ألم يحن الوقت للخروج بوثيقة واحدة فقط تخاطب وتعالج مثل هذه القضايا الخلافية، تتوافق عليها كل القوى المعارضة، المدنية منها والمسلحة، خاصة وهذه القوى تجزم بأن النظام قد سقط فعليا أو في طريقه للزوال؟ يبدو أن الخلاف بين القوى السياسية ليس حول مضامين هذه المواثيق المتشابهة إلي حد كبير، بل جوهر الخلاف ينصب على من تؤول له القيادة. فميثاق الانتفاضة في أبريل 1985، لم يزد عن صفحة واحدة، تم التوافق عليه بين التجمع النقابي والأحزاب السياسية، تحت مظلة تحالف "التجمع الوطني لانقاذ الوطن" في خلال يومين فقط. يظل الشرط الضروري للوصول بانتفاضة الشباب إلى نهاياتها المنطقية هو تماسك قوى الانتفاضة، القوى السياسية، من جهة، وتجمع المهنيين وتنظيمات الشباب، من جهة أخرى. فقد قدَّمت لنا تجربتا الانتفاضة في 1964 و1985، وكذلك ثورات الربيع العربي، ثلاثة من الدروس المهمة. أولاً، توافق إن لم يكن اجماع القوى السياسية والمجتمعية المنظمة على ميثاق ينظم ترتيبات انتقال السلطة. ثانياً: بعد سقوط النظام، وفي أثناء عملية الانتقال، تكون القوى السياسية الأكثر تنظيماً وتماسكا، تحت قيادة توافقية، هي الأكثر تأثيرا ونفوذا على مسار العملية الانتقالية والتحول الديمقراطي. ثالثاً: دخول العمل المسلح على خط الانتفاضة السلمية ومشاركة المسلحين في الحراك له آثار كارثية تهدد البلاد قد تفضي إلى تفكك الدولة.


4) القوى السياسية: هل من خيارات أخرى؟
سؤال المليون دولار هو: إذا لم تصل انتفاضة الشباب إلى نهايتها المنطقية في إسقاط النظام، وذلك في حالة نجاح الرئيس في البقاء على سدة الحكم، بسبب ظروف موضوعية من جانب النظام، من جهة، أو من ناحية الشباب وتجمع المهنيبن والقوى السياسية، من جهة أخرى، فثمة اسئلة هامة تطل برأسها. أولاً: كيف إذن ستوظف القوى السياسية ما انتزعته هذه الانتفاضة من مكتسبات، من بينها كسر حاجز الخوف لدى الشباب الثائر واكتساب مساحة كبيرة من حريات التعبير والتنظيم، قد لا يجرؤ النظام على، أو أنه من الصعب، التراجع عنها، وتمهيدها لخلق مناخ موات للتنظيم والنشاط السياسي؟ أم هو من المرجح أن ترجع هذه القوى إلى كتابها القديم وتواصل دعوة الإسقاط في انتظار انتفاضة شبابية أخرى؟ ثانياً: ما هو الخيار الآخر، غير الدعوة لإسقاط النظام المتوفر لدى هذه القوى للدفع بعملية التغيير إلى الإمام؟ أليس من المفترض لأي قوي سياسية أن يكون لها كرتا آخر وحيلة ثانية غير إسقاط النظام لتحقبق اهدافها النهائية؟ فاسقاط النظام لا ينبغي أن يكون "عقيدة أو هدف في حد ذاته". إنما محطة لتحقيق التغيير المنشود. وطالما ظلت القوى السياسية تحبس نفسها في هذه المحطة، ولم توظف الحراك لصالح التنظيم والاستعداد وتقديم القيادة المقنعة وطرح الرؤية الواضحة المتوافق عليها، فسيتم التغيير لصالح قوى أخرى قريبة من مؤسسات وأجهزة النظام، والأهم من ذلك أن هذه القوى تسعى بشدة لتضمن سهما مقدار في أي سلطة قادمة، مستغلة شبكة علاقاتها الممتدة داخل أروقة الحكم، فهي لا تكتفي باصدار البيانات والإدانات من على بعد. ومن زاوية أخرى، فانتفاء الخيارات السياسية أيضا سيحرج ويضعف موقف تجمع المهنيين. فالتفسير المتداول لعدم كشف هوية وقيادة التجمع المهني هو أن ذلك يعرض القيادات للاعتقال وربما التصفية. بالطبع هناك غرابة في أمر أن يكون لأي حراك شعبي يهدف إلى الإطاحة بالحكم قيادة غير معروفة. وبالرغم من ذلك، طالما رضيت وقبلت قطاعات معتبرة من السودانيين بقيادة التجمع للحراك، فالسؤال الذي يثور هنا: إذا لم تفلح الإنتفاضة في إزالة النظام: هل سيعلن قادة التجمع عن أنفسهم ويواصلوا الصراع السياسي على طريق تحقيق أهدافهم في التغيير نحو الحرية والسلام والعدالة؟ أم أن هدفهم يقتصر فقط على أداء مهمة الإسقاط، ومن ثم اللجوء مرة أخرى إلى الانزواء، أيضا في إنتظار انتفاضة جديدة؟
في هذا الظرف، هناك ضرورة مُلِحَّة لتوحيد مواقف كل قوى التغيير للمثابرة ومباشرة الضغط على النظام وحزبه الحاكم لتقديم التنازلات الضرورية والمطلوبة. أليس من سبيل لهذه القوى لاستخدام وابتداع كافة الوسائل السلميَّة لإجبار المؤتمر الوطني للجلوس حول مائدة حوارٍ منتج، يكون جوهر مخرجاته وضع حد لهيمنة الحزب الحاكم على مؤسسات الدولة وتحقيق تحول ديمقراطي حقيقي، والإيفاء بمستحقَّات الحوار وشروط تهيئة المناخ لانتخابات حرة ونزيهة؟ كافة القوى السياسية مطالبة بتقييم تجاربها السياسية والبحث عن إجابة فرضها واقع الحراك الشبابي الجسور، صعودا وهبوطا، على الحياة السياسية والاجتماعية في كل أرجاء البلاد: لماذا عجزت الأحزاب السياسية في جذب واستمالة الشباب إليها، ناهيك عن اشراكهم في قيادتها، مما دفعهم وحفزهم لأخذ أمر التغيير بأنفسهم غير عابئين بها؟ انتفاضة الشباب وضعت القوى السياسية على المحك، فكيف توظف القوى السياسية المعارضة وتجمع المهنيين ما خلقته الانتفاضة، من وعي جديد بالحريات واستعداد للتضحية بالأنفس، للدفع قدما بعملية التحول الديمقراطي؟ فالتحدِّي الحقيقي الذي تواجهه كل الأحزاب والقوى السياسيَّة، هو الخروج من حالة العُزلة التي تعيشها حالياً، وتعبئة قُدراتها وحَشْدِ كُلِّ طاقاتها، وتسخير إمكانيَّاتها، لإعادة بناء هياكلها التنظيمية وإعداد برامجها وسياساتها. وهذه مهام يستحيل تحقيقها بدون التواصُل المنتظم والالتحام مع قواعدها، والتعبير عن نبض جماهيرها ومطالبها وتطلعاتها لمستقبلٍ أفضل. فالجماهير هي مصدر قوَّة هذه الأحزاب الحقيقيَّة، ولكنها ظلَّت مستبعدة من دائرة الفعل، بينما تستخدمها القيادات مطيَّة لتحقيق مصالح ضيِّقة. وأشدد هنا على أنه حان الوقت لأن تقوم هذه القوى بإعادة النظر في استراتيجياتها وأشكال تنظيمها، وبإجراء تقييم موضوعي لما أحرزته من تقدم في سبيل تحقيق أهدافها المعلنة. فالكيانات السياسية لا تقيّم فقط ببرامجها جيدة السبك والكتابة، رغم أهميتها المؤكدة، وإنما بقدرتها على تعبئة قواعدها المعنية وتنظيمها بشكل فعّال، وتأثير تلك البرامج في الواقع العملي.
حقيقة، لا يجد المرء عذراً للقوى السياسيَّة المعارضة في تضييع الفرصة التي أتاحتها الفترة الانتقاليَّة، 2005-2011، المُترتبة على اتفاقيَّة السلام الشامل، بما أشاعته من حريَّاتٍ نسبيَّة في التنظيم والتعبير والتواصُل مع القواعد. فبدلاً عن تركيز الأحزاب علي مخاطبة ومعالجة مشكلاتها التنظيميَّة، وإعادة بناء لُحمَتِهَا الداخليَّة بعد طول انقطاع عن قواعدها، تركت هذه الهموم خلفها فأضاعت وقتاً ثميناً في توجيه النقد صوب الاتفاقيَّة، خاصَّة قسمة الثروة والسُّلطة. وأصابت الصحفيَّة النابهة، رشا عوض، بقولها "إن الذي أدَّى إلى تهميش أجندة التحوُّل الديمقراطي في تسوية اتفاقيَّةالسلام الشامل "نيفاشا" هو إخفاقُ المعارضة المدنيَّة المُفترض أن تكون صاحبة المصلحة الراجحة في التحوُّل الديمقراطي، إخفاقها في أن تفرض نفسها كمتغيِّر مستقلٍ في معادلة توازُن القوى" (رشاعوض، "تحليل سياسي: إعلان باريس ومعضلة قلب الطاولة علي التسويات المعطوبة"، صحيفة التغيير الإلكترونيَّة، 20 أغسطس 2014).


خاتمة
سبق الشعب السُّوداني الشعوب العربية الأخرى “الربيع العربي” بتحقيقيه لثورتين/انتفاضتين شعبيَّتين أسقطتا نظامين عسكريَّين استبداديَّين، في الستينات (1964) والثمانيات (1985) من القرن المنصرم. ومع ذلك، لم تبلغ الثورة، في التجربتين، هدفها الرئيس في تأسيس واستدامة نظام حكم ديمقراطي حقيقي، يلبِّي طموحات قوى التغيير، بل ارتدَّت على أعقابها، ليعود حُكمُ الفرد أو الحزب الواحد، ويتعثَّر بناء دولة المواطنة والديمقراطية، المستوعبة لتعدُّد وتنوُّع مكوِّنات السُّودان السياسيَّة والإثنيَّة والدينيَّة والثقافيَّة، والفشل في معالجة كافة أشكال الإقصاء والتهميش لشعوبه. في رأيي، يرجع فشل الثورة فى تحقيق أهدافها إلي، ضمن أسباب متعددة، عاملين جوهريين عنوانهما. أولهما، هو إخفاق قوى التغيير، خاصة النقابية منها تحت قيادة التجمع النقابي، نتيجة للفهم الخاطئ والخلط بين طبيعة النقابة والحزب السياسي، في تحويل نفسها إلى كتلة سياسية منظمة يعتد بها، تمتلك القدرة على التحول إلى قوة انتخابية. وثانيهما، هو فشل الأحزاب السياسيَّة السودانيَّة، خاصة تلك التي كانت على سُدَّة الحُكم وقمَّة السُّلطة في تطوير التجربة الديمقراطية-النيابية وفي الدفاع عنها عند التعرض للعواصف. فعجزت عن تفعيل “ميثاق الدفاع عن الديمقراطيَّة”، الذي وقعت عليه كل القيادات الحزبيَّة، ما عدا المنتمين للجبهة الإسلامية، في ليلةٍ أمدرمانيَّة حاشدة، في 17 نوفمبر 1985. فهل عكفت قيادات القوى السياسية على مراجعة التجربة وتقييم مردودها لاستخلاص الدروس والعبر يما يضيء طريق التغيير الشاق والطويل؟

لذلك، فإن نجاح انتفاضة الشباب في الوصول لهدفها في تحول ديمقراطي حقيقي، أو أي تغيير مرتقب، يظل مرهونا بميزان القوى الاجتماعية السياسية التي تمتلك القدرة عل على صون هذا التغيير واستدامته، بعد سقوط النظام. قبل سبعة أعوام مضت، في ورقة قدمتها هنا في الدوحة، خلال اللقاء التفاكري الثاني، سبتمبر 2012، تحت عنوان "نحو بناء دولة المواطنة السودانية: إسقاط النظام أم صناعة البديل؟" خاطبت فيها قوى الساعية للتغيير، خاصة الشباب، بأن تغيير النظام أمر وشيك وحتمي. لذلك، فإن التحدِّي الحقيقي الذي يواجه القوى السَّاعية للتغيير الآن، وعلى رأسها الشباب وتجمع المهنيين والقوى السياسية المدنية والحركات المسلحة، في هذا المنعطف التاريخي الحاسم، لا تكمُنُ في مسألة “إسقاط النظام” فحسب. بل، في بناء "كتلة تاريخية" أو تيَّارٍ وطني عريض يُشكِّل بديلاً صالحاً للنظام، قادر على حشد الشعب السُّوداني من حوله، وهي مهمة تتطلب مشاركة واسعة وحوار عميق وجاد وسط وبين وجميع القوى السياسية السُّودانية، بما فيها الحركات المسلحة، في سياق هذا الحراك الشبابي المحتدم، لا يَستَثنِي أو يُقصِي أحداً، والاتفاق على الآليات الضروريَّة واللازمة لتحقيق التوافق الوطني على القواسم الوطنيَّة المشتركة.

 

آراء