في عام 1978م كنت أعمل في مستشفى بحري وكنا من قادة إضرابات الأطباء في تلك السنوات، جعلنا هذا هدفاً للاعتقالات. في تلك الايام الملتهبة كان صدقي كبلو ضيفاً على ميز الأطباء لأن زوجته كانت ترقد في المستشفي وفي أحدى غارات الأمن تم اعتقاله وتم تسفيره لسجن شالا حتى الإنتفاضة. مساء الاربعاء مع كتمة مدني في سبتمبر 2013 كان صدقي عائداً من انجلترا للسودان وتم اعتقاله من المطار لمدة اسبوعين وحبس في زنزانة انفرادية، فخرج وهو لم يسمع عما حدث في سبتمبر 2013م، لكن أكيداً كان له ضلع فيها.
عندما التحقت بالحزب في عام 1972م في القاهرة، وكان الحزب مطاردا ومستباح الدم من ديكتاتورية النميري. كنت أسمع ان الشيوعيون يطلقون على أنفسهم ويطلقه غيرهم عليه: ملح الأرض. ومع أنني قضيت في الحزب حوالي الربع قرن لم اتساءل عمن اطلق الأسم ولماذا ومتى وأين وهكذا من الاسئلة التي ستشغلني فيما بعد عن كل المسلمات التي نتداولها. الاحزبب في الأسر ربما لأول مرة في تاريخهم يوجد في المعتقلات قيادات واللجان المركزية للحزب الشيوعي، حزب البعث والمؤتمر السوداني والإتحاد النسائي ومجموعة منسم وغيرهم. وهذا بناء على تحليل تصدقه الأجهزة الأمنية أن الثورة العارمة في اطراف السودان وآنائها تحت إمرة هذه الأحزاب، وهذه "تهمة لاينكرونها وشرف لايدعونه". هذه الاحزاب كلها من ناشري الوعي والاستنارة مع غيرهم من الاحزاب والمنظمات والأفراد. لكنهه كان مصممين خاصة في العقدية الأخيرة، ومصرين وثابتين في موقفهم من "إسقاط النظام" وتفكيكيه صامولة تلو أخرى. ودفعوا الكثير من جراء هذا الموقف وضحىوا في سبيلها بوحدة المعارضة، لكنهم لم يتراجعوا أو يلينوا. رغم أنهم جزء من كل في الثورة، إلا أنهم مصدر أغلب اناشيدها من محجوب، حميد، ووضعت تكتيكاتهم الأساس للشباب كي يطوروها. ربما لم يسمع الآلاف من الذين يتدافعون في الحلال والشوارع والأزقة عن الشيوعيين والبعث والمؤتمر وغيرهم من قبل إلا من إعلام النظام، ولربما لم يقابلوا في حياتهم واحداً منهم، لكنهم تركوا "أسطورة مدينية" كنساء ورجال تميزوا بالنزاهة، الشجاعة، التواضع والصر الشديد، عكس مايرونه في حكامهم فعلاً وقولاً. شبابهم منخرط في التظاهرات اليومية والليلية والاسبوعية والشهرية، وسط اقرانهم. لكن نثار الوعي الذي بذروه مع الآخرين كان الذي أينع منه هؤلاء الذين يخرجون من كل مكان. أغلب من في الأسر الطويل من شيوخ الاحزاب والعمل العام من صديق يوسف وعلي سعيد، عمر الدقير، احسان فقيري، عديلة الزيبق، محمد يوسف أحمد المصطفى، محممد عثمان ابوراس، محمد وداعة، صدقي كبلو ومختار عبد الله، محمد ناجي الأصم، عمر عشاري وفائزة نقد وغيرهم مما يستحيل احصائهم. وتحتل الكنداكات العدد الأكبر في الحبس الطويل من هبة عمر، هويدا محمد الحسن، آمال جبرالله (في مجموعهم 157 كنداكة). لأن الاجهزة هي نموذج قديم قائم على أن الثورة الفعلية تصنعها الاحزاب والنقابات والاوعية المنظمة تناسوا أن الشعب السوداني يخزن تجاربه من أحزابه وصناع رأيه، لكنه أيضاً يزداد وعيه من قفة ملاحه، كراسي جلوس اينائه في الدارس ومرافق صحية عاملة وغيرها. من ديمغرافية من خرجوا نعرف أن الانقاذ آذت كل السودانيين على بكرة أبيهم، فخرجوا جميعاً من أدناها لأقصاها ضدها وحملوا شعارهم الواحد بلغاتهم المتنوعة: تسقط بس. ضارباً عرض الحائط بالدستور والقانون لاشيء يقال سوى أطلقوا سراح كل المعتقلين . نموذج الدولة الدينية القديم جاء في الأسافير أن حفيدي عوض الجاز يستقبلانه ب "تسقط بس"، لكن هذا ما قاله صحفيوا النظام أن الثورة دخلت بيوتهم وشقت أسرهم، وما يتردد عن اعتقال أبناء قياديين في السلطة في المظاهرات. خرجت المظاهرات في الرياض، المنشية، شارع الستين، المعمورة، بري وجبرة، كافوري وغيرها حيث يسكن معظمهم. هذه توارثتها الأجيال عقب الأجيال منذ أكثر من عشرة آلفيات من حضارات سودانية رسخت مباديء وأخلاق وقيم، حاولوا أن يقطعوا دابرها من الشعب، فردت لهم الصاع صاعين. كغيره من الأحزاب، نشأ حزب الأخوان المسلمين بيافطاته الكثيرة في الخمسينات. منذ نشأته وضع الحزب الشيوعي واليسار والليبراليين عموماً معادلاً موضوعيا كاعداء من عبد الناصر للدول الاشتراكية، ورغم أن بدايات نشوئهم كانت ممتزجة بشعار العدالة الاجتماعية فقد كفروا بما يمت للاشتراكية بصلة. ومن الالتحاق بمعسكر معاداة الشيوعية اثناء الحرب الباردة، تحول للعداء لأمريكا التي دنا عذابها. في سنوات حكمه تحول عدائه لكل القوى التي لاتؤمن بايديولوجياته الإقصائية. كغيره من الاحزاب خضع "الاخوان المسلمين" لقوانين التغير الاجتماعي وحدثت فيه صراعات السلطة، والفساد وحكم الفرد. عبر السنوات من التقلبات من حال لحال وصلوا لدولة كلبتوكراسية (حكم اللصوص) متلبسة الغطاء الديني بتراث "فقه الضرورة". وكديكتاتورية عابرة من القرن العشرين فقد وكلت أمر فكرها واقتصادها وتسيير أمور دولتها ل"أجهزة الامن". أجهزة الأمن الحالية هي تعبير عن أزمة النموذج القديم، لديها قوائم لحزبيين وناشطين تعرفهم وتتابعهم وتظن أنهم من يحركون الأحداث. خرج لهم من الأحياء أشباح لم يروها من قبل، وليسوا موجودين في سجلاتهم وجاءوا رتلاً تلو رتل. شباب، حاولوا افساده وتغييب وعيه ورشوته. خلاف من شاركوا في أكتوبر( دامت 5 أيام) وأبريل (دامت عشرة أيام) ممن لم تكتمل قصصهم الشخصية، فشباب هذه الثورة لديهم قصصهم، رواياتهم وحكاويهم مخزنة في شكل بوستات، صور وفيديوهات، وذكريات يومية طالت حتى تقارب السبعين نهارأ وليلاً. كتبت في مقال عام 2014 بعنوان "ربع قرن على انقلاب الانقاذ: شباب السودان": في حديث لي مع احد الاصدقاء من الكهول، كان اكثر ما لفت نظري في حديثه كان اصراره على قدرتهم على تجاوز التفكير الابوي. كان هذا تناولاً مختلفاً عن الكثير من الذين يقرعون الشباب، يتحدثون عن ضعف محصولهم الثقافي والفكري عند المقارنة بالجيل الاسبق، نقص الخبرات والتجارب وغيرها. ولأن الشباب سوى اردنا ام لا هم الذين سوف يصنعون المستقبل، عزمت على التفرس في كل هذه الاراء ومحاولة فتح حوار حول صورة الشباب لدي الاكبر سناً وصورتهم نحو انفسهم والقضايا والهواجس التى تدور في اذهانهم. المقال أيضاً تحية اعزاز وتقدير من ستيني لشباب بلدي في كافة ارجاء الوطن العريض. لقد اثبت شباب السودان قدراته السياسية، التنظيمية والادارية في مناسبتين. الاولى كانت في تحركات سبتمبر- اكتوبر 2013 ، هذه الطاقة الجبارة التي حرمت من الانفاس في المدارس او المحاصرة بالقيود الادارية، في الفضاء المدني بالمنظمات الاخطبوطية العملاقة القائمة على العمل التجاري ومراكمة الثروة، منظمات السلطة الشبابية، النسائية، اللجان الشعبية، الاتحادات وغيرها، سدت المنافذ لكن عندما انفجر الحدث وتمت التحركات، رأينا تنسيقاً وهارمونية في تحريك المجاميع من قادة لم نرهم او نسمع عنهم. وعندما تفجرت سماء العاصمة بالامطار وتحولت لسيول ومجار، اصاب العطب طرقات المدينة، انهارت مبان لم تكن حقاً مبان ولكن القدرة على عمل سقف. ومع صيحات الشعب الفقير في الاحياء الطرفية من المدينة، فجاءة ظهرت منظمة نفير. بسلاسة وبراعة تولت منظمة تكونت في يومها العمل الطوعي في كامل الخرطوم. كل المنظمات العملاقة والمنظمات الحكومية والاجهزة المترهلة غابت تماماً. لقد ظهرت القدرات التنظيمية والادارية لشباب متطوع في امكانية انشاء جهاز لادارة الازمة بدون أي امكانيات سوى الايمان العميق بشعبهم وابداعهم الخاص. لم يكن هذا من فراغ ولكن من اتساع مداركهم المعرفية وتحصيلهم من المتاح لديهم. مع هذا التحرك الشبابي العارم ليس هناك سوى التنحي وتسليم مقاليد الامور لهذا الجيل ليبني وطنه آخيرا.