في ذكرى غيابه الفادح، ما بين كرامة أوروبا وكرامته .. كيف استلف محجوب شريف ثقافتها لشوارع العاصمة؟!.

 


 

 


نقاط بعد البث

"الهبابة" حجم ورقها A5، ولها غلاف من نفس حجم ومقاس أوراقها التي لا تتعد العشرين صفحة أو أقل، بسيطة وذات رونق جميل، وما أضفى عليها حُسن المنظر هو في كونها لا تحتوي على أي الوان بل هي بالأسود والأيض، أما موادها فهي من نوع الموضوعات خفيفة الظل، لم تكن متحذلقة في المعلومات التي تطرحها، بل كانت بسيطة بساطة مؤسسها، تدخل إلى العقل بتؤدة فيهضمها بروية ويختزنها دون عناء فهم، وهي ذات الموضوعات الصحفية التي تناسب الكبير والصغير معاً، وهي تحتوي على وجبة ثقافية دسمة سريعة الهضم، أو هذا ما أراده لها مؤسسها وصاحب امتيازها.

هكذا أصدرها محجوب شريف بعد أن أقنع بفكرتها عدداً من أصدقائه الصحفيين والمحررين والكتاب حتى الكبار منهم والذين تداعوا – بعد هضم مضمون الفكرة – لمساعدة محجوب على التنفيذ بهمة ومحبة، وتبرع لتصميمها عدد آخر من أصدقائه ومريديه التشكيليين أيضاً، وهكذا بدأ إصدارها ينتظم دورياً، وحالما أصبح شهرياً ثم اسبوعياً فيما بعد.
فكرة "الهبابة" هي فكرة "كرامة لله يا محسنين" بتلك النغمة كسيرة الخاطر للسائل والمحروم، فما بالك أن تجري على أفواه صغار بريئين لا مأوى لهم في الدنيا!.
فكرتها أن يقوم بتسويقها "الشماسة الصغار" والذين يغذون السير في الطرقات بحثاً عن فتات الخبز بين القمامة وفضلات المطاعم وبقايا الطعام في الطرقات، بحيث يتم توزيع هذه المجلة لهم مجاناً، فيحمل الواحد من هؤلاء الصغار عدداً منها كيفما استطاع توزيعها، ثم يبيعها في محطات المواصلات وفي الأسواق ووسط المارة وعند الاستادات الرياضية وحشود الناس في كل مناسبة، حيث أن صغر حجم المجلة والموضوعات المسلية التي تحتويها تصبح سهلة التناول وتمكن قارئها من تصفحها أثناء الانتظار سواء في طوابير المواد التموينية كصفوف العيش أمام الطوابين،، أو طلمبات البنزين أو داخل دور الرياضة بين الشوطين أو خلافه، ثم أن ثمنها الذي لا يتعدى مبلغاً زهيداً يشجع القراء للتجاوب مع الباعة الصغار الذين يستفيدون من ريع بيها في مصروفاتهم، وهي تقف بديلاً عن "الشحدة" أو إراقة ماء الوجه من أجل الحصول على لقمة عيشهم، بينما ينهرهم الناس ويطردونهم ويشتمونهم، فيلملم هؤلاء الصغار بقايا كرامتهم وينزوون متنقلين إلى آخرين يحسنون فيهم الاحسان!.
ما هو مدهش، هو أن الفكرة وبحذافيرها، وقفت عليها عندما أتيحت لي فرصة الحياة في أوروبا فيما بعد!، حيث أن منظمات المجتمع المدني الأوروبية والتي تهتم بحياة ومعيشة الـ " homeless" والذين لا مأوى لهم – وهم كثر – في طرقات أوروبا، تخصص لهم مجلات دورية بنفس فكرة وأهداف مشروع محجوب شريف، بحيث تجد هؤلاء الذين بلا مأوى يحملون المجلة المعنية ويقومون بتسويقها في تجمعات الناس سواء أمام المحال التجارية أو بوابات المترو أو استادات الرياضة المختلفة، أو أماكن الديسكو واللهو أو خلافه!.
سؤالي الذي لم يجاوب عليه محجوب حتى الآن هو من أين استمد روح الفكرة وكيف واتته في الأساس، وهو الذي لم يغادر السودان وقتها لأي بلد أوروبي، لكي يقف على الفكرة وينقلها كأحد مشاريعه الاجتماعية التي يتوسل بها مساعدة ذوي الحاجات؟!. وهي ليست تجربة محجوب الأولى في مثل هذه النشاطات ذات الأفكار المدهشة.
إن هذه الفكرة تجسد إنتاج شرافة جديدة يستشرف بها محجوب آفاق التكافل الاجتماعي في السودان، ويطور من روح التضامن والاحسان، ولذا فهو القائل عن صدق واعتبار:ـ
"ﺗﻤﺸﻰ ﺍﻧﺖ ﺗﻠﻘﻰ
ﻓﻰ ﺍﻟﻀﻠﻤﻪ..ﻟﻤﺒﻪ
ﺃﻟﻒ ﺿﺤﻜﻪ ﺣﻠﻮﻩ
ﺗﺴﻨﺪﻙ ﺑﺠﻨﺒﻪ"
فمحجوب في غالب أشعاره الانسانية الصميمة يلامس شغاف القلوب الرحيمة، ودائماً ما يبشر بمشاريع العدل الاجتماعي، والدعوة للعمل من أجلها، وما فكرة مجلة "الهبابة" إلا أوضح مثال لدعواته لكي يتحول المجتمع لكي يكون بالنسبة لهؤلاء الأطفال بمثابة الأم الرؤوم والأب العطوف ،، أن يكون الكفيل الرؤوف!.
إنها روح الابتكار والقدرة النشطة على ابتداع ما يمكن أن ينتج فكرة غير تقليدية، تلك الكامنة لدى محجوب، وله منها عليه الرحمة مخزون جم لا ينضب معينه، وسنستعرضها تباعاً في هذا الكتاب!.
هل يمكن لجهة ما أن تحرص على اسمرارية هذه الفكرة العبقرية إحساناً بشماسة البلاد وتخليداً لذكرى شاعر مجيد كمحجوب الذي تسرب من بين الأصابع ويستحق أكثر من ذلك؟!.
ـــــــــــــــــ
* ضمن كتاب تحت الطبع بعنوان "محجوب شريف ،، حكايات بلا حدود".


helgizuli@gmail.com

 

آراء