ماذا فعل الإخوان المسلمون في السودان بعد أن اختطف الدكتور حسن الترابي المنهج المصري وسودنه على نمطه الخاص؟ أولاً اختلفوا رغم وصية إمامهم، ثمّ ركّزوا على البناء الحركي والتنظيمي وليس الفكري، ودخلوا السياسة من باب المخادعة لا من باب المبادئ والأخلاق، وحاولوا قطف ثمار حركتهم وهي لم تنضج فكرياً ولا عمليّاً. فلا هي تركت فكراً يقودها ولا هي جرّبت الحكم باختيار الناس فحازت حكمة التجربة والخبرة، وإنَّما شاركت حكومة شمولية تربت في أكنافها حتى ملكت المال والرجال ثم اختطفت الحكم وهي لا تدري ماذا ستفعل به، إذ ظنُّوا أن الإجابة موجودة وواضحة في ذهن مرشدهم الدكتور حسن الترابي وما عليهم إلا التنفيذ. هذا هو منهج قطيع القبيلة التي يقوم شيخها الأب بكلّ شيء بينما يظل أفراد القبيلة أطفالاً تقودهم الحماسة البدائية والأحلام الفطيرة لا يتحملون مسئولية ولا يحسنون عملاً. وقد كان في قول إمامهم حسن البنا لأمثالهم موعظة حسنة: " أيها الإخوان المسلمون وبخاصة المتحمسون المتعجلون منكم : اسمعوها مني كلمة عالية داوية من فوق هذا المنبر في مؤتمركم هذا الجامع: إن طريقكم هذا مرسومة خطواته موضوعة حدوده. ولست مخالفاً هذه الحدود التي اقتنعت كل الاقتناع بأنها أسلم طريق للوصول، أجل قد تكون طريقاً طويلة ولكن ليس هناك غيرها. إنما تظهر الرجولة بالصبر والمثابرة والجد والعمل الدائب، فمن أراد منكم أن يستعجل ثمرة قبل نضجها أو يقتطف زهرة قبل أوانها فلست معه في ذلك بحال، وخير له أن ينصرف عن هذه الدعوة إلى غيرها من الدعوات. ومن صبر معي حتى تنمو البذرة وتنبت الشجرة وتصلح الثمرة ويحين القطاف فأجره في ذلك علي الله، ولن يفوتنا وإياه أجر المحسنين: إما النصر والسيادة، وإما الشهادة والسعادة." وقبل الانتقال لتطبيق المقدمات التي طرحتها على الحالة السودانية الراهنة أودّ أن أرجع إلى أنواع التفكير ونحن نقترب من خاتمة هذه المقالات. فالتفكير ينقسم إلى صلب مادي، وهو بدائي، وتفكير تجريدي وهو ناضج. والتفكير الصلب المادي له أربعة أقسام وهي الانشقاقي وهو الذي يقسم الأشياء إلى أبيض وأسود بحيث تنعدم درجة الرمادي ويكمن اليقين فالناس مثلاً إمّا كفار أو مسلمين، أو هم منّا أو ضدنا. والقسم الثاني هو التفكير المستقيم وهو تفكير يسير كالخط المستقيم بحيث تؤدي وجهة نظر إلى وجهة نظر وحيدة ولا يمكن أن يكون هناك مجال لوجهة نظر أخري فمثلاً يصرُّ شخص على أنّ فهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب للإسلام هو الفهم الوحيد ولذلك يجب اتباعه كالمشي على صراط مستقيم وبذلك فهو يحاول أن يجد عيوباً في فهم الإمام حسن البنا مثلاً أو غيره من المجددين. أمّا القسم الثالث فهو التفكير الانفعالي وهو يتعامل بردود الأفعال ولا يتفكّر في المسائل أو يتدبر عواقبها ونجد ذلك كلّ أقسام التفكير الصلب المادي واضحة في المؤسسات العسكرية. والقسم الأخير من التفكير الصلب المادي هو التفكير الافتراسي وهو صنو التفكير الانفعالي ولكنّه أساس الأنانية في النفس البشرية إذ أنّ التفكير الانفعالي قد ينتج من موقف أخلاقي سليم مثل أن يهاجمك جنود المستعمر إذا كنت تدافع عن وطنك فتطلق عليهم الرصاص بدون تفكير. فالعسكر يقسمون المجتمع إلى عسكري ومدني، وهذا مثال للتفكير الانشقاقي، فيرون في المدنيين ضعفاً وفوضي فيبخسون قيمتهم ويعلون من قيمة العسكر وإن تظاهروا بعكس ذلك. فنظامهم قبلي بدائي يقوم على الهرمية التي يرأسها شيخ قبيلتهم ولذلك عند تهديد غريزة البقاء يلجأ العسكر لأفراد قبيلتهم للمنعة والنصرة ولنا في قرارات المشير البشير الأخيرة خير مثال، بل حتى اختياره لرئيس مجلس الوزراء وحزب المؤتمر الوطني اختيار عسكري فهما مشهوران بالحزم والقرارات الحاسمة لأنّ تفكيرهما وسلوكهما عسكري وإن لبسا لباس المدنيين. أمّا التفكير المستقيم فمثاله في العسكر تنفيذ الأوامر بغير تفكُّر كالخط المستقيم ولذلك فقيمة الضبط والربط لا تعلوها قيمة في ذهنية القادة إذ بغيرها تسرح الفوضى. ولذلك نري الصلابة وانعدام المرونة. أمّا التفكير الانفعالي فهو السائد عند تنفيذ المهمات العسكرية فالجندي تدريبه أن يطلق الرصاص أولاً ثمّ يسأل لاحقاً ولنا في تصرف جنود الأمن مع الثوار المثال الأسطع. والتفكير الانفعالي يستخدم العاطفة كمبرّر للفعل بدون تفكّر ولا أي درجة من التفكير لأنه انعكاسي. وهو لا يحمل في طياته أي حلول للمشاكل وإنّما هو مفيد فقط في حالات الهجوم المباشر والتهديد لغريزة البقاء، مثل أن يهجم عليك نمر فأمامك أن تقاتله أو أن تفر منه أو تتجمد أو تستسلم. وهو يصاحب حالة الهلع التي تصيب الإنسان ويكون محتوي التفكير فيها سالب وقد وصّف الله سبحانه وتعالي هذه الحالة مع كل التغيرات الجسدية والفيزيولوجية والنفسية والفكرية في قوله: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا"" وهو تفكير يمقته الرب لأنّ قلب المؤمن يجب أن يكون ثابتاً بالإيمان والتوكّل على الله واللجوء إليه عند النوازل بعد الاستعداد للمعركة وهذا السلوك لا يتمّ إلا بالتفكير التجريدي: "وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ، وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ" والتفكير الافتراسي يؤدي إلى الفتك بالعدو حتى إذا كان أعزلاً أو لا يسبب خطراً مباشراً ومن أمثالنا العربية: "تغدّ به قبل أن يتعشى بك". وتعذيب المعتقلين أو قتلهم ممارسة للتفكير الافتراسي والمولي عزّ وجلّ ينهي عن التفكير الافتراسي حتى مع العداوة فيقول: " ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ" ونجد الإسلام يحثّ على مسئولية الفرد على التفكّر قبل الفعل ولو أفتي له الناس أو أمره الأمير الذي هو قمّة المسئولية فنحن نجد في رواية الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه خير مثال: " بَعَثَ النبيُّ ﷺ سَرِيَّةً فاسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنَ الأنْصارِ وأَمَرَهُمْ أنْ يُطِيعُوهُ، فَغَضِبَ، فَقالَ: أليسَ أمَرَكُمُ النبيُّ ﷺ أنْ تُطِيعُونِي؟ قالوا: بَلى، قالَ: فاجْمَعُوا لي حَطَبًا، فَجَمَعُوا، فَقالَ: أوْقِدُوا نارًا، فأوْقَدُوها، فَقالَ: ادْخُلُوها، فَهَمُّوا وجَعَلَ بَعْضُهُمْ يُمْسِكُ بَعْضًا، ويقولونَ: فَرَرْنا إلى النبيِّ ﷺ مِنَ النّارِ، فَما زالُوا حتّى خَمَدَتِ النّارُ، فَسَكَنَ غَضَبُهُ، فَبَلَغَ النبيَّ ﷺ، فَقالَ: لو دَخَلُوها ما خَرَجُوا منها إلى يَومِ القِيامَةِ، الطّاعَةُ في المَعروفِ." ولنا في قصة مشورة سيدنا الحباب بن المنذر رضي الله عنه في مسألة منزل ماء معركة بدر الكبرى مثال آخر على التماس القائد المسلم لتفكير جنوده الاستراتيجي والنزول عند رأيهم إذا بدا له صلاحه وهو تفضيل للتفكير التجريدي بأنواعه كلّها على التفكير الصلب المادي. أمّا نوع التفكير الذي يماثل الهدنة في حالة انعدام أو العجز عن الفعل فهو التفكير الترددي، وهو ما يعرف بالوسوسة، وهو يتملّك الناس الذين في حالة عجز ولكنّهم في حالة أمن نسبى؛ أي أنّ غريزة البقاء غير مهدّدة تهديداً مباشراً في نفس اللحظة فيشلّهم عن الفعل. وهو عبارة عن ترديد أسئلة بدون القدرة على إيجاد الأجوبة مثل: "ماذا أفعل يا رب في هذا الأمر؟ أو اتخاذ قرار يجدون فيه اليقين: " "وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ. والرسل أرسلت لتنهي حيرة البشر وتجد لهم اليقين بعد الشك وتجاوب الأسئلة الوجودية سليلة التفكير الترددي: " "قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ
والنضر بن الحارث كان المثال الأوضح لأصحاب التفكير الترددي ولذلك سعي ليتعرف على ديانات الأمم الأخرى ليجادل بها المصطفى صلى الله عليه وسلم بل ودعا الله لينزل عليهم العذاب إن كان ما جاء به الرسول هو الحق: " قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ". وللوصول لليقين سعي لأهل الكتاب يستشيرهم فقالوا له أن يسأله عن أصحاب الكهف وذا القرنين والروح"، ولم يمنعه العداء للرسول صلى الله عليه وسلم من الصدح بالحقيقة فقال مخاطباً قريش: " يا معشر قريش، إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلاماً حدثاً أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثاً، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب، وجاءكم بما جاءكم به، قلتم ساحر[؟]، لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم؛ وقلتم كاهن، لا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم؛ وقلتم شاعر، لا والله ما هو بشاعر، قد رأينا الشعر، وسمعنا أصنافه كلها: هزجه ورجزه؛ وقلتم مجنون، لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه، ولا وسوسته، ولا تخليطه، يا معشر قريش، فانظروا في شأنكم، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيمٌ!" وليس في بداية القرآن صدفة والله يقرّر: " ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ" وما هي صفات المتقين؟ " وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ*الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ، وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ*وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ"، ومن يقوم بذلك غير أصحاب التفكير التجريدي بأقسامه المختلفة من تفكير نقدي وتحليلي وتفكّري وتدبري وإبداعي؟
ولذلك فأهم نوع من العجز هو العجز الفكري أو المعرفي أو العلمي وفي ذلك توجيه من المولي عزّ وجلّ لمواجهة الجهل وإيجاد الحل: بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ" فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ " ثمّ دعاهم الله سبحانه وتعالي لمباشرة التعلّم من ذكره، والسعي لفهمه بنوع من أنواع التفكير التجريدي وهو التفكير التأملي الذي يستخدم الاستنباط: " وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ"، وإذا ما صعُب عليهم الفهم فما عليهم إلا أن يردّوه لمن يستطيع ذلك: " "وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلًى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ ولكن ذلك سلوك صاحب البصيرة الذي يسعي للحق ويستثمر في الآخرة أمّا الذي يفضل ظلمات الجهل على نور العلم فلن يفعل شيئاً من ذلك وسيرجع إلى نوع التفكير البدائي الصلب المادي بأقسامه الأربعة فيكرر سلوكه وينتظر نتيجة أخري. وإذا تأملنا قرارات المشير البشير الأخيرة بعد فترة حيرته نجد تكراراً لنفس المنهج القديم، فهو يحلّ حكومة ليكون حكومة من ذات الأشخاص، ويقول إنّه يريد حكومة رشيقة ذات كفاءات ثمّ يواصل تعيين الوزراء ووزراء الدولة، ويدعو لحوار وهو لم يطبق مخرجات الحوار السابق، ويريد أن يعالج الأزمة الاقتصادية بطباعة النقود فيزيد في انهيار قيمة العملة السودانية ويُدخل الاقتصاد في ثقب أسود. أصحاب التفكير الصلب المادي بأقسامه الأربعة يدخلون شعوبهم في نفق مظلم ويكررون أخطاءهم حتى تقع الكارثة وذلك لبدائية ذهنيتهم المنبثقة من طاغويتهم المظلمة بالجهل، والبدائية السلوك، إذ لا تثق إلا في القوة الخشنة كحلّ وحيد كالنجار الذي لا يستخدم إلا المطرقة ويظنّ أنّ كل شيء هو مسمار يجب أن يُطرق. وسنواصل إن اذن الله سبحانه وتعالي ودمتم لأبي سلمي