بسم الله الرحمن الرحيم "فاتحة كل خير وتمام كل نعمة" منشورات حزب الحكمة:
abdelmoniem2@hotmail.com
مقدّمة: قصدنا أوّلاً وآخراً أن نثير حواراً لربما يؤدّى لخير هذه الأمّة السودانية، فالمؤمن مسئول عن سعيه فقط مع إخلاص النيّة، والله من وراء القصد وهو يهدى السّبيل. لكلِّ إنسان معتقدات يعطيها قيمة عالية وتصير أحكاماً قلّ أن يتزحزح عنها، مهما كانت مصداقية الحجّة المضادّة لها، لأنّ هذه الأحكام وليدة تجارب حياته وتأثير بيئته، فالمرء على دين خليله، ولذا بهذه المعتقدات يُعرّف نفسه ويتّخذها هويّة. وهذه الهوية مغروسة في غريزة بقائه، ولذا فتغييرها ليس بالأمر السّهل حتّى وإن ثبت ضررها، بل قد يحارب دفاعاً عنها. معني ذلك أنّ الإنسان غير مُحايد بطبعه ويميل لا تلقائياً نحو معتقداته حتى وإن ادَّعى الموضوعية. ولذلك فمعظم البشر يتناقض لديهم القول مع الفعل أو السلوك. والمثل المصري يقول: أسمع كلامك أصدقك، أشوف عمايلك أستعجب. والمولى سبحانه وتعالى أثبت ذلك في تحديد درجة علم الإنسان المُكتسب عند الولادة وتحديد وسائل الإدراك والفهم لتحقيق هدف واحد وهو معرفة الله وشكره: ""وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ والمصطفى صلّى الله عليه وسلّم أكّد ذلك:" كلّ مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه". ولاختلاف التنشئة ومكانها وزمانها، وأثر الوراثة على الإنسان لا يزال النّاس مختلفين إلى يوم القيامة، وهي حكمة الله سبحانه وتعالى: " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلذلِكَ خَلَقَهُم"ْ والمرحومين قلّة: " وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ " وقد حذّر المولى عزّ وجلّ من الإكراه في هذا الأمر: " "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ"، وقوله سبحانه وتعالي: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِين؟"َ لأنّ حكمة ذلك خطّة ربّانية تأذّن الله بها ولا تبديل لها: " ""وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. ولذلك فمحاولة جعل النّاس متناسقة فكراً وثقافة وطبعاً ضدّ مشيئته تعالى: " "أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا؟ والمعنى واحد إذا كان معنى اليأس هو انقطاع الرّجاء أو العلم بالشيء. بل إنّ هداية النّاس أجمعين ليست غرض الخالق وهذا المعنى معكوس في هذه المفارقة في الحديث الشريف: "والذى نفسى بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله تعالى بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون". وذلك أوضح في قوله عليه أفضل الصلاة والسلام: "اعملوا فكلٌّ ميسّرٌ لما خلق له" وهو تأكيد لاختلاف الأهواء والمواهب والكفاءات والمقدرات التي تتكامل إذا تعاونت على هدف واحد، رغم اختلاف العقائد والتّوجّه والجنسيات. ونخلص من هذه المقدّمة أنّ معتقدات النّاس مختلفة، حتى في أهل الملّة الواحدة، لأنّ النظرة للأشياء تشوبها تجاربنا الخاصّة، والجبلّة في طبعنا، والسياق الذي نعيش فيه حياتنا، ولكن مع ذلك يذهب البعض منّا لمحاولة خلق جماعة متجانسة في معتقداتها، وفي طبيعتها وتصرّفها وعواطفها، بكلّ ما أوتى من قوّة وعزيمة ومصادر، فيضيق بالتّفرّد والاستقلاليّة الفكريّة، وبالرأي المخالف. بل يفعل ذلك ومقياسه وتقييمه يقومان على افتراضات لا تثبتان تحت مطرقة العلم، تجافيان الواقع وتعملان بما يجب أن يكون لا بما هو كائن، يحسبها المرء حقائق لا يرقى إليها الشكّ، بل ويشكّل الحقائق ويهصرها في قالب أفكاره حتى تطابق افتراضاته أو تبرّرها. وهذا الأمر نبّه له المولى عزّ وجلّ حين سمّى الحقائق الحق، وسمّى الافتراضات الظنّ أو الباطل: " " "وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ۚ إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا بل وأكّد زوال الباطل وإن علا صوته وكبرت صورته: "وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا " وقد رأينا في حكم الإنقاذ باطلاً عظيماً، وإن جاء باسم الإسلام وصُرفت في تمكينه البلايين، وتوقّعنا له الزوال فالحمد لله الذي أرانا الحق. ولذلك للحكم على معتقدات النّاس وتصرّفاتهم لا بدّ من استعمال مقياس موضوعي يقوم على العلم النّافع المرتبط بالواقع، والمفهوم في سياقه لا على الهوى: " "فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ" وفي قوله سبحانه وتعالي: " "وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ" ونسأل الله عزّ وجلّ أن يوفّقنا في إنشاء مقياس علمي يقوم على البرهان والدليل، ولا يحابى أحداً ولا يخشى إلا الله. ولكن برغم معرفتنا لذلك فإنّ الإذعان لأمر الله، إن كان الأمر لا يتّسق مع هوى النّفس، هو من أشق الأمور على النّاس، بل هو اختبار لصدق إيمانهم وتمام تسليمهم لمشيئة الله: " "أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ ۚ؟ "ولذلك فالتغيير الحقيقي لا يكون بغير ذلك، خاصّة في مسألة العدل الأزليّة: "فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا". والحرج واردٌ، مهما سمت النّفوس، وهو مدخل الشيطان ولذلك ليحدث التغيير فلا بدَّ من رفع الوعي للإنسان بالحاجة للتغيير. ولأنّ التغيير هو أقسي شيء في الحياة، فغالباً ما يقاومه الناس، لأنّ في ذلك إقرار بأنّ الإنسان على خطأ، وهذه هي العقبة التي وقف فيها إبليس وتخطّاها سيدنا آدم عليه السلام. وهذا يعني التواضع للحق وطلب الاستغفار وهو الذي يجعل الاستغفار باب كل الخير. والغالب أيضاً أنّ الذي يريدك أن تتغيّر ينصحك ولكن كلّ نصيحة ثقيلة ولذلك يقولون لا ترسلها جبلاً ولا تجعلها جدلاً. وللنصيحة شروط منها: العدل، مهما كانت مشاعرنا تجاه غيرنا: " "وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئآنُ قَوْمٍ علـى ألاَّ تَعْدِلُوا وحسن التخاطب: وقال أيضاً عزّ من قائل: " " "وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ والإحسان: "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ" " والصبر هنا على الحق والذي بعدمه يصير الخسر: " إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ". ونريد أن ننبّه أنّ الإنسان بطبعه عندما يقرأ شيئاً يبحث فيه عمّا يوافق معتقده وفلسفته في الحياة، فإن وجده ارتاح واستبشر به، لأنّه يوائم أحكامه الأساسية التي تحكم حياته، فيحسّ حينها بالأمان، ويعتريه الاطمئنان، وذلك لإحساسه بأنّه على الطريق المستقيم، وبهذا يؤكّد هويّته التي ارتضاها، ويعطي نفسه شرعية لمواصلة حياته على نفس النمط. أمّا إذا ما وجد شيئاً مخالفاً فردّ فعله المباشر يعتمد على مدى وقيمة الاختلاف، وهل هذا الاختلاف مهدّد رئيس لطريقة حياته؟ فإن كان كذلك فيتملّكه رفض تلقائي له، بل ويسلّط عليه معاول هدمه حتى يتركه قاعاً صفصفاً، وإن فعل فرح بنجاحه في تقويضه. أمّا الذي يتطرّف في معتقداته لا يهمّه بأي المعاول يهدم غيرها، وتبريره أنّه لو كان يمتّ للحقيقة بشيء لما استجاب لطرقات المعاول. هذا التزييف للواقع أو التطمين للذات نبّه له المولى عزّ وجلّ: " لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارنَا بَلْ نَحْنُ قَوْم مَسْحُورُونَ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ" فهو عمى وصمم نفساني لا غير. ولهذا فإني أدعو قرّاء هذه الرسالة للصبر عليها وافتراض حسن النيّة بكاتبها، لأنّ ضدّة سوء الظنّ، والظن من عمل الشيطان وإنّ بعضه إثم، وحسن الظنّ بالآخرين من سمات المسلم. فهذه الرسالة محاولة جادّة لننظر في أنفسنا، لعلّنا نغيّرها، حتى يمنّ الله علينا بالتغيير الربّاني المؤدّى للرّضا. وأدعوك الآن لأن تتأمّل كيف أنّ أفكارك قد تغيّرت على مدى السنين، موافقاً أو معارضاً لآراء والديك، أو أساتذتك أو أصحابك أو تجارب حياتك. وسنواصل إن أذن الله سبحانه وتعالي ودمتم لأبي سلمي