الثورة السودانية أسبابها ومألآتها

 


 

 

 

morizig@hotmial.com

لا شك أن التكنلوجيا الحديثة لعبت دوراً مهماً في فتح آفاقٍ شاسعةٍ من العلوم الإنسانية ومساراتٍ واسعةٍ من الخيال والمعرفة وأمدت الشباب برصيدٍ وافٍ من المعلومات التي تصل إلى الواحد منهم قبل أن يرتد إليه طرفه، وفي المقابل حملت هذه التكنلوجيا معها ثلة من القيم والمباديء المشتركة والأخلاق الجديدة التي تُلقح بها المجتمعات الإنسانية المختلفة فتحدث تفاعلاً عالمياً ينفعل إنسانه ببعضه بعضاً. ولذلك لعبت التكنلوجيا الحديثة دوراً كبيراً في توجيه الحياة الإجتماعية والإقتصادية والسياسية للشباب المعاصر. والحال هكذا وجد الشباب السوداني نفسه في صراعِ أجيال فرضه عليهم الواقع مما قد لإنسداد في الافق السياسي والثقافي والإجتماعي، والسودان الآن يشهد صراع ثلاثة أجيال هي:
1- جيل ما قبل الإستقلال وكثير منهم أحياء يسيطرون على المشهد السياسي والثقافي.
2- وجيل ما بعد الإستقلال
3- وجيل التكنلوجيا الحديثة الذي قاد هذه الثورة
ومما لا شك فيه أن لهذه الثورة أسباب موضوعية لا تنحصر في الصفات الثورية الذاتية للشباب وحسب، وإنَّما ترجع في الواقع لتطور الحياة الحديثة، وضغوطات الحضارة المعاصرة، وتداخل الثقافات في بعضها بعضاً مما جعل الشباب أكثر فئات المجتمع شعوراً بمحيطه وخوفاً على مستقبله، فاصبحوا يتذمرون من الكبار ومؤسساتهم التقليدية بما فيها قيم الأسرة المحافظة. وقد ذهب بعضهم أبعد من ذلك لدرجة التشكيك في المسلمات الفكرية والعقدية والإجتماعية للمجتمع. ولقد أتاحت لهم التكنلوجيا خلق مجتمعات إسفرية إفتراضية يتلاقون فيها ويتبادلون فيها مشاعرهم وأفكارهم ونظراتهم للحياة والكون الفسيح.
هذا الفضاء الإسفيري شجعهم ليتطلعوا للمشاركة الفاعلة في شئون مجتمعهم الذي يعيشون فيه أسوة بشبابٍ كثيرٍ من بلدان العالم الذي يرونه رأي العين وتأتيهم أخباره في لمحة البصر! بل هم على اتصال بشباب كثير من البلدان رغم بُعد المسافة وإختلاف الثقافة. ومع انشغال الشباب بالتكنلوجيا ولهثهم وراءها فقدوا رؤية ابصار القديم فانقطع حبل التواصل بينهم وبين الأجيال السابقة فأحدث ذلك الإنقطاع فراغاً أفقدهم البوصلة وهدد وجودهم في ذاته فكانت المعركة بالنسبة لهم معركة وجود في المقام الأول ((To be or not to be كانت بدايتها في المسرح السياسي الداخلي الذي يمهد الطريق لتغيير كثير من المسارح الأخرى التي تهم وتؤثر على الشباب تأثيرا مباشراً.
فأول أسباب الثورة هي تلك الأزمات الحياتية اليومية المباشرة التي جعلت الحياة في السودان جحيماً لا يطاق، فزادت شحنة الغضب في النفوس فتهيأ الناس وخاصة الشباب للخروج احتجاجاً على عجز الدولة في توفير الأساسيات التي هي مهمتها الأساسية. فعندما إنفجرت مدينة عطبرة لم تنفجر بسبب سياسي وإنّما أخرجها الجوع الكافر فطارت منها شرارةٌ أشعلت الوطن الصابر على الجوع غضباً فخرج الجميع يطلب العيش الكريم والرزق الحلال ممثله مثل كل الشعوب.
وعندما تعامل النظام بعنف مع المتظاهرين وسقط منهم عدد كبير من الشهداء –والسودانيون بطبعهم ينفرون جداً ويستهجنون بشدة الدماء التي تسيل في غير ساحة الحرب ولذلك هالهم عدد الشهداء الذي لم يشاهدوا مثله في تاريخهم القريب- هنا أصبحت مواجهة عنف الدولة سببا ثانياً زاد النار لهيباً، فأصبح كل ما يسقط شهيد ويرى الثوار دمه الطاهر يزدادوا عزيمة وإصراراً لقلع النظام كأنهم يجسدون المثل السوداني "شمَّ الدم وقال حرَّم!" وهو مثل معروف يقال في الحماسة طلباً للثبات والكر.
بالإضافة للأزمات الخانقة والبطالة المقعدة والاستبداد بالقمع، نجد سبباً رابعاً للثورة وهو سؤ الخطاب السياسي من جهة بعض رجالات الحكومة، وقد كان بالفعل خطاباً بائساً مستفزاً للشعب يتضمن تهديدات للثوار تصريحاً وتلميحا وقد صب الزيت على النار صبّاً.
ومن الأسباب التي دعت للثورة أيضاً تلك الأوضاع المتردية في الولايات الطرفية شمالاً وشرقاً وغربا وجنوباً. ولكن في ولايات دارفور وكردوفان وجنوب النيل الأزرق كانت المحنة أكبر حيث شلَّتِ الحروبُ الحياة فيها، وارتفعت الاسعار، وتوقف الإنتاج تماماً، فضاق إنسانها ذرعاً بالمركز وإنسانه المترف نوعاً ما. وعندما ضربت الضائقة المعيشية المركز نفسه اتحد السودان كله في ثورة عارمة رفعت شعاراً متشدداً يرفض المساومة هو "تسقط بس".
كانت تلك هي الأسباب الداخلية التي شعر بها شباب الثورة وهي أسباب تهدد وجودهم كما ذكرنا آنفاً. ولكن من ضمن الأسباب التي أدت للثورة أيضاً تلك المهددات الخارجية التي تهدد الوطن في وحدة أراضيه ووحدة شعبه.
لقد رأى هؤلاء الشباب كيف لعبت القوى العالمية والإقليمية واجهزة استخباراتها دوراً في فصل الجنوب!! ورأوا بأمِّ عينهم كيف تعدت مصر على حلايب وشلاتين وأخذتها عنوة وهم ينظرون!! ورأوا كيف يتعدى الفلاحون الحبش على أراضي الفشقة الزراعية الخصبة محميين بعصابات الشفتة الحبشية المسلحة بالدوشكا!! ورأوا كيف اعتدى إخوان الأمس على هجليج. ورأوا كيف تتدخل دول الخليج في الشأن السوداني بسفور بيّن!! ورأوا الدور الليبي في الشأن السوداني دعما بالمال والسلاح والتدريب والمعلومة!! ورأوا وعاشوا مقاطعة أمريكية جائرة لمدة خمسة وعشرين عاماً انتقصت من أعمارهم وأرزاقهم وتعليمهم ومستقبلهم!!
بسبب هذه الظروف الداخلية والخارجية استوت كل الاسباب التي تقود الناس لانفجارٍ شعبي بلا قيادة سياسية معروفة وبرامج واضحة وأهداف بيّنة. وأنا أفرق بين "الإنفجار الشعبي" وبين "الثورة الشعبية" في المفهوم، فالإنفجار الشعبي المفاجيء يمكن أن يتحول لثورة منظمة لو وجد قيادة رشيدة حكيمة موحدة توجهه لأهدافٍ محددة معقولة متفق عليها سلفاً. أما الثورة فلا تنقلب لإنفجارٍ أبداً لأنَّ رسنها مقبوضٌ عليه من البداية وتحرُّكها محسوبٌ وموزون، وقياداتها معروفة وأهدافها معروفة، وحتى الكيفية التي تتحقق بها تلك الأهداف معروفة أيضاً.
فالذي حدث في السودان هو في الحقيقة انفجار شعبي سببه الجوع والضوائق المعيشية ثمَّ بدأ يتشكل بسرعة البرق في صورة ثورة سياسية بعد ظهور "تجمع المهنيين" كقيادة متحالفة مع "قوى الحرية والتغيير" التي تكونت من تحالفٍ ضمَّ بعض المكونات السياسية في الساحة السودانية.
عقبات الثورة السودانية :
مما لاشك فيه إنَّ الهدم أسهل وأسرع من البناء وهذه حقيقة يعلمها الجميع. ويعلمون أيضاً أنَّ البناء عندما ينهدم تكون أنقاضه في حد ذاتها مشكلة تحتاج لحلٍ ووقتٍ قبل تجهيز المكان والشروع في بناءٍ آخرٍ جديد. فالثورة قد نجحت في إسقاط النظام واعتقال رموزه ولكنَّها تواجه الآن عقابات كبيرة منها الآتي:
أولا، تأسيس رؤيةٍ لبناء الدولة الجديدة.
ثانياً، الحفاظ على الأمن وتسيير الحياة بصورة طبيعية.
ثالثا، الحفاظ على سلمية الثورة.
رابعاً، وقف الحروب وإقناع الحركات المسلحة بوضع السلاح والإقبال على المشاركة السياسية.
خامساً، التوفيق بين مكونات القوى الشبابية الحديثة والأحزاب التقليدية.
سادساً، التوافق على سنين الفترة الإنتقالية وتكوين الحكومة الإنتقالية.
سابعاً، التوافق على دستور يرضي الجميع.
ثامناً، التعامل مع الشأن الإقليمي وخاصة الشأن الليبي بحذر شديد وحكمة وحسمٍ بعزيمة لا تلين خوفاً من تداعيته على الشأن الداخلي فيزيد الأمر تعقيداً والطين بِلة.
تاسعا، سد الفجوات الإستهلاكية التي تحرك الشارع كالفجوات في الخبز والبنزين وغيرها.
عاشراً، التعامل مع الدولة العميقة وتفكيكها بحنكةٍ وحكمةٍ من غير أن تُدفع للعمل المضاد لإجهاض الثورة وإفشال مساعيها.
هذه عشرة عقباتٍ حقيقة تواجه الثورة في هذه اللحظات العصيبة التي تعاني فيها الساحة السياسية والإدارية من فراغٍ مخيف وإذا استمر طويلاً فلن تحمد عقباه حتماً.
مآلات الثورة السودانية:
هذه الثورة قد غيرت الواقع السياسي على أرض السودان وأربكت كل الحسابات لأنَّها جاءت بغتة. فلا النظام ولا المعارضة كانا يتوقعان هذا الفراغ السياسي بهذه السرعة، والتاريخ علمنا أن الثورات قد تنتصر جملةً، وقد تنهزم جملةً، وقد تنتصر ثم تنهزم بعد ذلك. فبداية الثورة في كثير من الأحيان يحدد مآلاتها أيضاً. فالثورة التي يتحكم فيها الخارج يضعف إستقلاليتها وبالتالي يتحكم في مألآتها أيضاً. والثورة التي تبدأ بغموض تنتهي إلى غموض، والثورة التي تروم تطبيق آيدلوجية على شعبٍ كاملٍ متشعب المدارس الفكرية تنتهي بالفشل والإنحراف عن مسار تلك الآيدلوجية وتفنى حيث قامت حتماً.
من أول المآلات أن يصبح السودان معتركاً لصراع دولي واقليمي تنتج عنه حرب أهلية شاملة أو صراعات مليشات بالوكالة كما حدث في سوريا حيث تصارعت الأفيال فتشرد الشعب السوري وتُركت بلاده دكَّا. فإذا حدثت في السودان حرب أهلية شاملة سيتبع ذلك ارتهان الكيانات السياسية كلها لأطرافٍ خارجية طلباً للدعم المالي والحصول على السلاح والمأوى لقياداتها.
ومن المألات أن تتشدد وتندفع الثورة وبالتالي تفشل في تقسيط الكفاح وفقاً للظروف والمعطيات على أرض الواقع، فتقع في تخبطٍ وأخطاءٍ فادحة تُحمِّل الشعب أكثر مما يحمل فينفَّض الشعب عن الثورة وقد يثور ضدها أيضاً.
ومن المألات أن يحدث خلاف عميق في قيادة الثورة بسبب المكابرة والإنكار والتحكم والإقصاء فيقبل بعضُهم على بعضٍ يتلاومون فتذهب ريحُهم، ويصبح حالهم كالتي نقضت غزلها بعد قوة أنكاثا!!
ومن المألات أن تقف القوى الإقليمية وراء المؤسسة العسكرية بقوة وتدفعها للإنفراد بالحكم واستصحاب قوى مدنية يمكن التحكم فيها تغبيشاً للرأي العام العالمي. هذه القوى قد تقبل - لمصالح راجحة لديها - إسالة بعض الدماء للوصول للإستقرار الذي يحقق لها مصالحها الإقليمية وهذا ما حدث في مصر بالضبط.
ومن المألات أن تستشعر القوى السياسية الخطر فتتحد وتتعاون مع المجلس العسكري ويصلوا لحلول سياسية تساعد في استقرار البلاد وإقامة انتخابات حرة نزيهة يرضى بنتيجتها الجميع.
ومن المألات إذا فشلت الثورة سيذهب اليسار السوداني كله في خبر كان من غير عودة. ولكن في حالة نجاحها سيكسب اليسار شعبية شبابية عريضة إذا نجح في التصالح مع قيم وتقاليد ومعتقدات الشعب.
ومن المألات الحتمية أن أطروحة الإسلام السياسي في السودان ستتغير بنسبة 180 درجة بغض النظر عن نجاح الثورة أو فشلها. وبالرغم من مرارة التجربة سيظل الإسلام السياسي يلعب دوراً أساسياً في مستقبل البلاد ولكن بطرح ومنهج مختلف كما ذكرنا.
وفي الختام، أتمنى أن أكون قد وضحت أسباب الثورة السودانية ومألاتها حسب جهدي وعلمي المتواضع والله محيط بكل شيء وهو عال الغيب والشهادة الكبير المتعال.

 

آراء