لن تلِدَ ثورتُنا كائناً مشوّهاً .. كلّا !!

 


 

 

 

أقلّ ما توصف به بداية ليلة الأحد 19 مايو إلى صباح الإثنين أنها ليلة الترقّب المرهق للأعصاب. ومثل الملايين من السودانيين داخل وخارج الوطن ، مكثت أمام شاشة حاسبي الآلي / هاتفي المحمول حتى الساعات الأولى من الصباح. وقد تابعت عبر الشاشة مئات الآلاف الذين احتشدوا في ساحة الإعتصام أمام مبنى القيادة بالعاصمة الخرطوم يتطلعون إلى لحظة ميلاد ما ضحوا من أجله بالمهج والأرواح وانتظروه طيلة ثلاثين سنة، أعني تحقق السلطة المدنية كاملة الدسم، تؤسس لشعار : حرية ، سلام وعدالة !


إستمعت إلى كثير من المقابلات التي أجريت مع أفراد من الجمهور ، رجالاً ونساءاً. تابعت قدر الإمكان كثيراً من التعليقات في البث الحي. تابعت عبر شاشة هاتفي الجوّال وجوه الناس. حاولت قرأءة لغة الوجه واللغط ، والضحكات القصيرة ، وما قدمه ممثل قوى الحرية والتغيير من على ساحة الإعتصام من ربط موفق بين شوق الملايين وتضحيتها من أجل وطن حر ، وما يقوده مفاوضو قوى الحرية والتغيير في الغرف المغلقة. رأيت كيف تجاوب الآلاف في ميدان الإعتصام مع الأناشيد الوطنية تنساب عبر حناجر كبار مطربينا : محمد وردي (يا شعباً لهبك ثوريتك) وعثمان حسين (أفديك بالروح يا موطني) والعطبراوي (أنا سوداني ..أنا)! كان التوتر يكسو الوجوه وهي تنتظر أن يعتلي المنصة من يذيع بيان ميلاد الدولة المدنية. لكنّ الخبر يزف إليهم بنصف ما توقعوه. وأن بلادنا لم تزل بانتظار ميلاد الحلم الكبير. فجنرالات النظام الذين يدعون بأنهم انحازوا إلى الثورة والذين طالما رددوا على مسامعنا قبل شهر بأنهم ما جاءوا طلبا لسلطة وإنما لينقلوها للمدنيين، هم الذين مارسوا "الكنكشة" و"الجرجرة" لشهر كامل حتى يظل ملايين السودانيين داخل وخارج الوطن في ترقب يتلف الأعصاب. الكل يعرف أنهم ما جاءوا لينقلوا السلطة للمدنيين. نحن نعرف وهم يعرفون أنهم يكذبون!

ما قرأته البارحة في اللوحة البشرية الحية وهي تترقب بنفاذ صبر ما تتمخض عنه محادثات ممثلي قوى الحرية والتغيير ، أنّ هذه الجماهير لن تتنازل عن مجلس سيادي بأغلبية مدنية ، وتمثيل عسكري وبالطبع أن تكون رئاسة ذاك المجلس مدنية وذلك لما ترمز إليه رئاسة المجلس السيادي من عنوان للسلطة المدنية التي روت دماء آلاف الشهداء أرض السودان الواسعة من أجل تحقيق حلم الملايين بها.

إن على المجلس العسكري (وقد لحق بقطار الثورة في محطته الأخيرة) أن يعلم أنّ رئاسة المجلس السيادي تعني لملايين السودانيين أكثر من مجرد سلطة تشريفية. إن قمة السلطة ممثلة في كيان تشريفي هي العنوان الحقيقي لشكل السلطة في بلد من البلاد. وعالم اليوم الذي يتطلع لمخاض الثورة السودانية الضخمة لا يعقل أن تلد له ثورتنا كائناً مشوهاً: جسده مدني ورأسه عسكري!
على جنرالات المجلس العسكري أن يعرفوا حقيقة مرة وقاسية تقتضي شراكتهم للثوار أن نصارحهم بها ، وهي أنّ وجودهم كممثلين للقوات المسلحة لضمان أمن البلاد فوق العين والرأس ، لكنه لا يعني مطلقاً أن يكونوا هم رأس البلاد السيادي وإلا فلا قامت للسلطة المدنية في السودان قائمة!! فالملايين التي صنعت واحدة من أكبر ثورات هذا القرن وأكثرها تحضرا بإمكانها أن تواصل المشوار وبوتيرة أكثر قوة ومنعة مما هو كائن الآن، حتى يتحقق حلمها بقيام دولة مدنية غير منقوصة! فالحرية حق لا يستجديه من يخرج من أجلها. ومئات الآلاف الذين صعدت أرواحهم في كل أنحاء البلاد على مدي ثلاثين سنة ثمناً لها، لن يخيّب أحد حلمهم بقيام الدولة المدنية الديموقراطية كاملة الدسم. لا أحد يستجدي الحرية ويدعي أنه ثائر. يقول نيلسون مانديلا - أيقونة النضال في عصرنا: (العبيد فقط يطلبون الحرية، أما الأحرار فيصنعونها.) وقد ظل هتافنا : ثوار، أحرار، حنكمل المشوار !!

وأخيراً ، كلمة نصح لمن فوضتهم الملايين داخل وخارج البلاد ليأتوها بمطالبها كاملة غير منقوصة، أقول: إنكم أمام امتحان أخلاقي عسير بأن تأتونا بما فوضتكم الجماهير للأتيان به - وبالواضح سلطة مدنية إنتقالية بدوائرها الثلاثة : مجلس سيادي مدني بتمثيل عسكري وعلى رأسه مدني ، وجهاز مدني تنفيذي (وزارة) ومجلس تشريعي مدني. وأي كنكشة من جنرالات المجلس العسكري في تكوين المجلس السيادي وتنازلكم لهم تحت أي ذريعة فإن ملايين السودانيين الذين ينتظرونكم بفارغ الصبر يعتبرونه خيانة لدم الشهداء ولتطلعات شعبنا الثائر من أجل سودان جديد.
الأفضل أن ينفض اجتماعكم مع الجنرال رضوان وزمرته دون التوصل لاتفاق من أن يكون رأس الدولة عسكري يمثل سيادة البلاد ! لا تنحنوا للعاصفة ، فإن وراءكم شعباً وقف أبناؤه وبناته صناديد في وجه مطر الرصاص حتى حولوه إلى سحابات فرح!
اللهم هل بلغت ؟ اللهم فاشهد !

لندن- في 20/05/2019

fjamma16@yahoo.com

 

آراء