شعبنا لا يستجدي الحرية.. بل يصنعها

 


 

فضيلي جماع
29 June, 2019

 

 

يقول أيقونة النضال في عصرنا ، نلسون مانديلا (1918 – 2013 ): "العبيد فقط هم من يطلبون الحرية ، أما الأحرار فيصنعونها"!

منذ انفجارها الكبير في 19 ديسمبر 2018 حتى اللحظة ، انتقلت الثورة السودانية من الشارع لتدخل البيت والمكتب وكل منتدى. فالثورة بزخمها وإيقاعها اليومي الداوي على مدى ستة أشهر ونيف ، صارت مُعْطىً ثقافياً تجذّر في الوعي الشعبي. فقد انتقلت أهازيجها من الشارع، حيث القنابل المسيلة للدموع وزخات الرصاص الحي ، إلى بيوت الأعراس والمنتديات العامة والخاصة.

أضحت الثورة ثقافة شعبية. كسرت وإلى الأبد حاجز الخوف المتمترس لمدى ثلاثين عاماً في النفوس. الخوف الذي صنعته آلة القمع ، وشرعت له بخبث دولة الحزب التي جاءت لتقصي كل من لا يمت لحزبها بصلة. بل إن الإيقاع الثوري الذي لم يخمد أواره ونحن ندخل منتصف الشهر السابع للثورة قد صنع الشيء الأهم ، ألا وهو الوعي الثوري. لقد دخل الوعي بأهمية الثورة كأداة للإنعتاق من الظلم - دخل كل بيت. وهذا الوعي هو المحرك الحقيقي للملايين التي تنتظر كل يوم ما يقوله جدول تجمع المهنيين وقوى الحرية والتغيير لكي تكتظ الشوارع والأزقة والأحياء في جميع مدن السودان وقراه بالتظاهرات التي استعصت على كل أدوات القمع والإستبداد. إنّ شعبنا لا يستجدي الحرية ، بل يصنعها !

ينبغي أن نفهم أن هذا الوعي لم يأت عبر بيانات يصدرها تجمع المهنيين ونداءات لقوى الحرية والتغيير كقيادة للحراك الثوري. بل جاء هذا الوعي جراء تراكمات للغضب الجماهيري على سلطة أوتوقراطية مستبدة وفاسدة على مدى ثلاثين سنة. جاء كمحصلة طبيعية للرفض الشعبي ، ولثورات الهامش التي حملت السلاح حين عجزت عن الحصول على حقها في الحياة بالتي هي أحسن. جاء الوعي الثوري جراء الانتفاضات التي لم تنقطع مذ قام الإسلامويون بانقلابهم المشئوم على الديموقراطية التي تربوا في حضنها. ولعل من أميز تلك الإنتفاضات الشعبية السلمية انتفاضة سبتمبر 2013م والتي قمعتها أجهزتهم الأمنية بالرصاص الحي مما أدى لاستشهاد أكثر من مائتي مواطن جلهم من الشباب. هكذا تجذر الوعي الثوري في كل بيت في بلادنا. الوعي هو الأداة التي يخشاها ويعرف قوتها الطغاة والمستبدون!

قرأ كاتب هذه السطور فيما قرأ وسمع فيما سمع في الأيام القليلة الماضية من الأراجيف والخطرفات ما يضحك أو يسخر منه كل من عرف تاريخ الثورات ونضالات الشعوب. تكتب بعض الأقلام الهزيلة ناصحة قوى الحرية والتغيير بأن تقبل بما تفضل المجلس العسكري بالتنازل عنه من اقتسام للسلطة الإنتقالية!! هكذا وبمنتهى البساطة.. وكأن مجلس الجنرالات هو من صنع الثورة. هذا المجلس العسكر ي الإنقلابي الذي جاء بكذبة مفادها أنهم جاءوا منحازين للثورة وأنهم سيقومون بتسليم مقاليد الحكم لسلطة مدنية بأسرع فرصة ممكنة! قالوا بأنهم لا رغبة لهم في السلطة ولا شأن لهم بها !! ثم إما كثرت الأضواء والوقوف أما المايكرفونات، وزيارات بعض دول الجوار التي زودتهم بالنصح ، حتى عادوا لينقلبوا على كل وعد أعطوه للمفاوضين. بل أسرعوا في تنفيذ جريمة ستطاردهم جماعة وأفراداً ما حلموا بالعيش في هذا البلد. إن مجزرة 29 رمضان التي حصد فيها رصاص الجيش والأمن والجنجويد ما فاق المائة من الشهداء ومئات الجرحى وما زال هناك عشرات المفقودين ، هذه المجزرة التي ظل مجلس الجنرالات ينكر أنه أقدم عليها، ثم عاد ليقرّ على رؤوس الأشهاد أنه من دبر لها وأنجزها ، هذه الجريمة البشعة ، والتي كان الهدف من ورائها إسكات صوت الثورة الداوي قد عادت على مجلس الجنرالات الإنقلابي بالساحق والماحق! تصريحات متضاربة.. فهم تارة يرفضون كل ما توصلوا إليه من اتفاق مع الحرية والتغيير ..ولا تغرب الشمس إلا وتنصب المايكرفونات وكاميرات المراسلين في مؤتمر صحفي جديد بأنهم لم يسمعوا بوساطة رئيس الوزراء الإثيوبي وأنهم غير معنيين بها . ثم إما لوّح لهم السيد الأمريكي بالعصا ، عادت تصريحاتهم في نعومة القطن! أقسم صادقاً أنّ مجلس الجنرالات في حيرة لا يقدر على وصفها أبرع شعراء بلادنا.

وعلى الصعيد الآخر فإن الثورة التي حسبوا أن مطر الرصاص سوف يقضي عليها، قد نفضت أجنحتها الفضية ، وحلقت عالياً مثل طائر الفينيق الذي يطلع من تحت الرماد. وتركت لمن أقاموا المجزرة أطناناً من الأسى والندم لو أنّ بين ضلوعهم قلوباً تعرف ما معنى أن تقتل من لم تكن جريمته سوى الهتاف (سلمية..سلمية؟ قال الثائر الليبي الشهيد عمر المختار(1862 -1931) : "إنّ الظلم يجعل من المظلوم بطلاً. وأمّا الجريمة فلا بدّ من أن يرتجف قلب صاحبها مهما حاول التظاهر بالكبرياء".

أختم بكلمة لمن صدعونا بالنصح البائخ، بقولهم أنّ على قوى الحرية والتغيير القبول بكذا قبل أن تقع الفاس في الراس..وأن البلد مقبل على كارثة، وأنّ من الوطنية أن يستمع الناس لصوت الضمير ويتفقوا مع المجلس العسكري! نقول لهؤلاء: وفروا عليكم نصائحكم البائخة! فالثورات الشعبية الكبرى لا تعمل بمبدأ إقتسام كيكة السلطة. إن الذي قلبه على الوطن لا يحدث مجزرة تقلب عيد ملايين السودانيين إلى مأتم، ويعترف بكل بجاحة بأنه الفاعل "..وقد حدث ما حدث" ! والذي قلبه على الوطن لا يستعجل محو اللوحات التشكيلية الأنيقة في ساحة الإعتصام حتى لكأنه يمحو آثار عدوان وقع عليه. والذي قلبه على الوطن لا يقطع خدمة الإنترنت عن شعب بأكمله جزاءاً نكالاً، بحجة أن خدمة الإنترنت في هذا الظرف تعرض البلاد للخطر، وهو يعرف أنه يكذب مثلما يتنفس. وفي الختام فإن نصيحتي لقوى الحرية والتغيير بأنكم تعلمون جيداً أنّ الملايين التي أعلنتم لها أن تنزل إلى الشارع والتي يقف معها أحرار العالم، لن ترضى بغير إرساء المبادئ التي انطلقت من أجلها هذه الثورة وتتلخص في إقامة الدولة المدنية التي استشهد من أجلها مئات الآلاف في دار فور وجبال النوبة والأنقسنا وفي الشرق وفي الشمال. وحصد الرصاص فيها أرواح مئات الشباب في انتفاضة سبتمبر وفي كل مدينة وقرية منذ الإنفجار الكبير في عطبرة. لسنا على عجل. بل إنّ مجلس الجنرالات هو (المزرور زرة كلب في طاحونة)!!

وأخيراً .. لقد أعطت ثورتنا الدرس للطغاة بأنّ هزيمة الشعوب مستحيلة!


فضيلي جمّاع
لندن في 28 /06/2019

لندن في 28/06؟2019

fjamma16@yahoo.com
/////////////////

 

آراء