حتى لا تَصِيبنا لعَنَة الثورة
أثار الاتفاق الذي وُقِّع بالأحرف الأولى بين قِوى إعلان الحرية والتغيير والمجلس العسكري (مجازاً) يوم الأربعاء الفائت والموافق17/7/2019 أثار جدلاً طويلاً ينبئ بمآلات ما بعده. وواقع الأمر أنه ليس جدلاً بقدر ما هو اتساع رقعة الرافضين للاتفاق، مما يؤكد أنه غير ميسورٍ له أن يرى النور بتلك الصورة المعلُولة، والتي اجتهد بعض الكُتَّاب والناشطين والمراقبين في حصرها. وبالنظر لكثرتها وتعدد هناتها، فقد انهمرت تساؤلات كثيرة فحواها كيف غابت كل تلك الملاحظات على أناس وضع الشعب السوداني الثائر ثقته فيهم؟ وكانوا بالفعل أهلاً لتلك الثقة، بدليل القيادة الراشدة للثورة بصورة عامة وما تبدى من حرص المفاوضين مع ذات المجلس العسكري بصورة خاصة. إذن ما الذي حدث بعدئذ؟
كنا قد دعونا في مقال سابق لتأكيد الثقة في المفاوضين، وقلنا إن هذه الثقة تمنحهم الطاقة والقدرة على مواصلة المسيرة المضنية. وناشدنا الناشطين تحديداً بالابتعاد عن مزالق التخوين والتي أنبرى لها بعضهم بالفعل، ومناشدتنا تلك جاءت من منطلق عِلمنا بأجواء التفاوض الخانقة في الصوالين المغلقة، ناهيك عن أن الكل يعلم أنهم يفاوضون مجلساً يُعد امتداداً لحكم الطاغية. وكلنا يعلم أيضاً أن سدنته ظلوا يلعبون دور الحارس للنظام بكل سوءاته، وبالتالي هم ليسوا أبرياء من كل الخطايا والموبقات التي ارتكبها النظام. ورغم هذا لم يكن ثمة مناص من جلوس الضحية والجلاد وجهاً لوجه، وذلك لاعتبارات كثيرة تجرعنا فيها السُم الزُعاف بُغية وضع مصلحة الوطن فوق كل شيء.
بالمقابل ثمة عِدة شواهد تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، أن هذا المجلس لم يستطع التطهر من سلوك البداوة التي لصقت به. وكان واضحاً اختلال الميزان، فبينما تميزت الثورة بحمولة قيمية فريدة استقطبت أنظار العالم بنهجها السلمي الحضاري، كان المجلس المذكور يمارس (عنف البادية) بكل ضراوة. ولم تثنه الدماء النازفة ولا أرتال الشهداء المتزايدة عقب كل مسيرة من اغتراف الانتهاكات. وفي واقع الأمر كان هذا السلوك الهمجي ديدنهم منذ خيانتهم للثورة بالانقلاب على النظام في 11 أبريل 2019 وما لازم ذلك من نقض للعهود وتنكر للمواثيق بصورة سافرة يُندي لها الجبين. وبالتالي استمرأوا سلطة جاءتهم في طبق من ذهب وأصبحوا بها مغرمين!
تلك تمثل اللوحة الخلفية في مسرح الأحداث التي تجري وقائعها أمام عيون المراقبين. وما دام المجلس العسكري بتلك الصورة القبيحة التي ذكرنا، فمن الواضح أن ليس هناك حلاً يرتجى معه لا في الحاضر ولا المستقبل، لماذا؟ لأن هذا المجلس فاقد الإرادة بتلك الصفات التي ذكرنا، ولا يملك زمام أمره، إذ إن هناك من يديره خلف الكواليس كيفما اتفق. ففي خضم ما نحن فيه غارقون، غاب عن ذهننا فلول النظام البائد مثلما غابوا عن ناظرينا. فهل يعقل أنهم في شغل فاكهون؟ الإجابة (لعم) أي لا ونعم، بمعنى أنهم مستمرون في رغد العيش جراء ما فسدت أيديهم، وفي نفس الوقت حبال الوصل ممدودة بينهم والمجلس المذكور.
فهم من ظلَّ يُغذيه على محورين سياسيٍ وأمنيٍ، الأول رفدهم بالطريقة التي يديرون بها الدولة رغم عِلاتها، أما الثاني فقد تمثل في خلطهم مختلف الأجهزة الأمنية في قناة واحدة، هي التي قامت بكل جرائم القتل مع قوات الدعم السريع!
من باب النقد الذاتي فلندع المجلس وبلواه جانباً، ولننتقد أنفسنا قبل أن نقع في المحظور عمداً. فمن الواضح لكل المراقبين أن الوثيقة التي تم التوقيع عليها ليست تلك المسودة التي أيدناها ولم يجف حبر تأييدنا بعد، وطلبنا من الناس دعمها ومؤازرة المفاوضين. ولسنا الآن بصدد حصر ثقوب وعيوب الوثيقة التي تم التوقيع عليها مبدئياً، فتلك مهمة انبرى لها ناشطون كثر بجهد المُقل. وعوضاً عن ذلك أود أن أطرح سبع ملاحظات ظلت تغبش الصورة الزاهية، وخلقت تساؤلات لم تجد إجابات كافية ووافية حتى الآن:
أولاً: لقد ظلت ألسنتنا تلهج آناء الليل وأطراف النهار بالتأكيد على وحدة قوى إعلان الحرية والتغيير، لقناعتنا بأنها وفقاً لمكوناتها السياسية والمهنية والجغرافية تمثل غالبية أهل السودان، وبالتالي تعد صمام أمان للعبور إلى الضفة الأخرى. وقلنا إننا نعلم صعوبة المَهمة التاريخية تلك نظراً لاتساع ماعون الحلف، الأمر الذي ترتب عليه تبايناً في وُجهات النظر، وهو شيء طبيعي لا ينبغي أن يشكل هاجساً البتة. نقول ذلك رغم عِلمنا بتشعب قضايا دولة الفساد والاستبداد التي خلَّفها النظام الثيوقراطي الديكتاتوري البائد.
ثانياً: بناء على ذلك ما الذي دفع الذين وقعوا على الاتفاق – كثر عددهم أو قلَّ – بالإقدام على هذه الخطوة، أي التوقيع على الاتفاق وهم يعلمون أن أطرافاً منهم – كثر عددها أو قلَّ – غير موافقة، واضعين في الاعتبار أن المفاوضات سبق أن امتدت لشهور عدة، ففيم العجلة الآن؟ عموماً أن هذه الخطوة العجلى ضربت وحدة كيان قوى الحرية والتغيير في مقتل!
ثالثاً: لسنا في حاجة للتأكيد على أن الزملاء المفاوضين (رغم أنني لا أجد مسوغاً لهذه الهوية الذكورية المقيتة) مناط بهم حمل هموم الشارع إلى داخل الصوالين المغلقة والتفاوض حولها، فإن حدث أمر استشكل عليهم، فلا يجوز الانحراف عن هذا الهدف إلا بالعودة إلى ذات المنصة. وهو ما لم يحدث راهناً، بدليل الثغرات التي وردت في الاتفاق. وأخشى أن تختلط على بعضهم حسابات الحقل والبيدر ويظنون أنهم مخولون بطرح قضايا من بنات أفكارهم. ونضرب في ذلك مثلاً بالاجتهاد الخائب في الفصل الثاني، تكملة المادة العاشرة وتُقرأ (ولرئيس مجلس الوزراء أن يرشح استثناءً شخصية حزبية ذات كفاءة أكيدة لممارسة مهمة وزارية) وفي نسخة أخرى (شخصيتين) فمن ذا الذي أوحى لهم بهذا الاقتراح العبقري يا ترى؟ فالمعروف أن الزميل جعفر حسن المتحدث الذي ملك شغاف قلوب المعتصمين بحسن أدائه، قال في معرض حديث سابق له في ندوة عامة (لن يتولى أحد من المفاوضين من قوى الحرية والتغيير منصباً وزارياً أو سيادياً) وسمى ذلك (بُشريات الثورة)، فهل حديث الثورة تمحوه مناصب المفاوضات؟ جاء ذلك في خضم أخبار تواترت عن تطلع من ظننا أنهم أيقونات للثورة. ونتمنى ألا يكون ما سمعنا صحيحاً!
رابعاً: تساءلتُ دون جدوى وأنا اقرأ مادة كثيفة وغزيرة في نقد الاتفاق: هل يا ترى قرأ المفاوضون هذه المواد التي انهمرت كالسيل العُرم، وهل بوسعهم متابعة هذه الملاحظات التي ضجت بها كل الوسائل الإعلامية؟ إذن يبدو لي نحن أمام صورة غاية في الميلودرامية، أناس ينثرون آراءهم قدحاً وذماً في الهواء الطلق، في حين أن المعنيين بها ينعمون في صمت مهيب. بدليل مُضي أكثر من ثلاثة أيام لم يخرج فيها للناس رجلٌ شاهرٌ لسانه ويقول لهم لماذا (حدس ما حدس)؟
خامساً: تبعاً لذلك ليت أحد المفاوضين يشرح للشعب السوداني الصابر الكيفية التي يتخذون بها القرار في مختلف القضايا تمهيداً للاتفاق أو الاختلاف حولها قبل طرحها على الطرف الآخر. ما أعلمه يقيناً أن لهذه الثورة مهمتين تاريخيتين، ينبغي أن يستظل بهما المفاوضون استراتيجياً، الأولى تحطيم الدولة الدينية أو تفكيك منظومة الإسلام السياسي، والتي لا تزال جاثمة على صدور العباد، والثانية تشكيل الدولة المدنية التي ستولد كما النار من تحت الرماد، هاتان تمثلان جوهر الثورة، أما الذي نحن فيه سادرون حتى الآن فهو محض وسيلة للوصول لغاية المدنية وتفكيك دولة الإسلام السياسي!
سادساً: عملاً بمبدأ نصف رأيك عند أخيك، نسأل ما إذا كان المفاوضون قد التمسوا وجهات نظر بعض ممن خارج القاعة في القضايا المتعددة. فمن المؤكد أن هناك كثيراً من الكفاءات غير منضوية تنظيمياً تحت لواء التحالف، ولكنها في نفس الوقت تُعد من صناع الثورة، ولا شك أن هؤلاء يملكون قدراً مشهوداً من الخبرات التفاوضية والمهنية في القضايا موضع النقاش. بيد أن انهمار التعليقات والملاحظات - بعد وليس قبل - ظهور نتيجة التفاوض تؤكد أن المعنيين بالأمر في كل وادٍ يهيمون!
سابعاً: ونختم بما هو بدهي شابه الغموض، فقد لاحظنا أن الكثيرين من المهمومين يتساءلون عن آلية التواصل بينهم وبين المفاوضين، لأنهم يستهلكون قدراً وافراً من الخوف والتوتر والقلق، وتجدهم يتراكضون بين القنوات الفضائية أثناء جولات التفاوض بحثاً عن إجابة لأسئلة تائهة، لعل أبسط القواعد التنظيمية في مثل تلك المحافل ضرورة وجود ناطق رسمي يضع النقاط فوق الحروف!
أقول قولي هذا وأنا على قناعة تامة بأنه إذا لم يتم تفكيك دولة الإسلام السياسي، ومحاسبة كل الفلول الذين صنعوها وأجرموا في حق الشعب السوداني، لن يكون هناك أملٌ في حلول ترتجى، للأسباب التي ذكرناها بداية حول طبيعة هذا المجلس. ولا نقول ذلك من باب التشاؤم، فذاك قد اسقطناه من أجندتنا طيلة سنوات العصبة في السلطة، ولكن نقوله من باب إضفاء صورة واقعية على المشهد الماثل. وما صبرنا على هذا الحال المائل إلا لأننا نتوق لفجر الخلاص، وننتظر أن تأخذ الثورة مسارها الطبيعي بغية الوصول إلى نهاياتها المنطقية. ويومذاك لكل حادثة حديث!
فإن أردت أن تزرع حقلاً، ينبغي عليك أن تنظفه من الحشائش الطفيلية أولاً، ومن ثمَّ تهوي التربة، ومن ثمَّ تسميدها، ومن ثمَّ غرس الحبوب وريها، وأخيراً رعايتها حتى يؤتي أكلها ثمراً شهياً يسر الناظرين!
آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!
faldaw@hotmail.com