مهام البناء على المتاح

 


 

عمر العمر
4 August, 2019

 

 

من الخطل التهليل فخراً بتحقيق حلم شعار الثورة في مدنية السلطة واقعاً. ذلك إنجاز لن يتحقق مالم يتحرر جنرالات المجلس السيادي من العقلية الإنقاذية حيث جرت تنشأتهم، تأهيلهم وترفيعهم. الإتفاق المنجز نشر قدراً من الإرتياح تحت إحباط ماراثون التفاوض. جوهره يتجسد في حصيلة توازن الضعف. نتيجة فقدان أيٍ من الطرفين القدرة على إملاء ولو بعض الشروط تبادل الطرفان تقديم التنازلات. قيادات الثورة والتغيير تملك قوة الجماهير لكنها تخشى عليها. قادة المؤسسة العسكرية يملكون السلاح لكنهم يخافون استخدامه. الإتفاق "أفضل المتاح" حسبما قال أحد المفوضين.

نحن نبحث عن تأسيس نظام يؤمن الحرية، التحرر والتحرير حسب توصيف الفيلسوف المعروف هربرت ماركوز. الإتفاق أمّن لنا فرصة تخليق نظام برلماني يعتمر قبعة عسكرية. ذلك نمط مألوف في التاريخ السياسي التركي المعاصر. البناء عليه أفضل من تبني الرفض على نهج الرفاق الشيوعيين. ربما كنت غير محق إذ استعيد عند هذا المنعطف حكمة المفكر الإيرلندي ادموند بيرك "من لا يقرأ التاريخ يعيد إنتاجه".

حتماً بين الرفاق من استذكر في ضوء موقف الحزب من عملية التفاوض مأزق الدولة السوفياتية الناشئة على عتبة القرن العشرين وهي تتعرض لضغوط ألمانيا وحلفائها مما اضطرها لتوقيع إتفاق بريست ليتوفسك. هو أحد أكثر الإتفاقيات جوراً ليس في التاريخ السوفياتي فحسب بل على نطاق العالم. بموجبه فقدت روسيا 34% من سكانها، 54% من صناعاتها، 89% من مناجم الفحم وغلبية مصادرها النفطية. مع تباين الظروف الجيوسياسية من الممكن الإقتداء برؤية العبقري لينين المستميتة من أجل توقيع الإتفاق المذلة للدولة الفتية.

قائد الثورة والدولة كان على قناعة بحتمية الموافقة على شروط الألمان المجحفة من أجل تثبيت مشروع شعار الدولة "الخبز، الأرض والسلام" على النقيض وقف ليون تروتسكي رافضاً التسليم بإملاء الشروط. براعته الفكرية انتهت به إلى صوغ موقف دبلوماسي يفوق مراوغة كيسنغر - اللاحرب واللاسلم - إذ أبلغ الحلفاء إن حكومة بلاده "لن تستمر في الحرب غير أنها لن تقبل شروط الصلح الألمانية". رد فعل لينين الآمر جاء على نحو مغاير .. لو اقتضى توقيع الإتفاق لباس ثوب أمرأة فافعل. رؤية لينين أثبتت نفاذها حيث أتاح الإتفاق لدولة البلاشفة الناشئة فرصة التقاط الأنفاس. للمفارقة الوسيط في برست ليتوفسك رجل ينتمي إلى جنوب أفريقيا اسمه اندريك فولر.

البدايات الخاطئة لا تسوق إلى نهايات سعيدة. بنود الوثيقة الدستورية تنطوي على العديد من المهابط المفضية إلى إشتباكات أكثر من تسوية العقبات. عدم الجرأة في فصل الصلاحيات والإختصاصات بين مجلسي السيادة والوزراء يغري حتما بالتمترس من أجل غايات ومهام ليست ظاهرة لكل ذوي الأبصار غالباً لكنها ليست كذلك خافية على أهل البصائر. هناك قضايا غير قابلة للتسويف. حسم بعضها يندرج ضمن أولويات الثورة. هي في الوقت نفسه من حمولات النظام المتشبث ومكوناته. تأسيس إحدى عشرة مفوضية يومئ إلى ترهل في السلطة.. تلك إحدى أعراض الإنقاذ. إذاً لمَا تزل عقليتنا أسيرة النظام البائد. أين مظاهر الثورة؟

خارطة الحراك السياسي المرتقب سيتم رسمها وتنفيذها على حقل ألغام وسط تضاريس سياسية كثيرة النتواءات والمزالق. ما لم يعمل الطرفان كفريق سياسي موحد لن نبلغ رباعية الحراك الجماهيري المنشودة في الحرية، المساواة، العدالة والثورة. ما لم يتطهر الجنرالات من آثام الإنقاذ لن ننطلق نحو غد البناء المستهدف. النوايا الطيبة وحدها كما الثقة المفترضة لا تكفي للرهان على تخلي العسكر عن ولاءتهم القديمة. الخوف من ممارسة التربص بغية تصيد الأخطاء أو الدفع نحو المزالق ظلتا ديدن الجنرالات إبان لعبة التفاوض المملة. ذلك لم يكن تكتيكاً عسكرياً خالصاً بل عملاً سياسياً دفاعاً عن مكاسب دولة عميقة هم من حماتها.

إقتلاع الدولة العميقة يشكل أبرز مهام المرحلة الإنتقالية العاجلة. هي الخطوة الأساسية من أجل إرساء قاعدة دولة القانون، العدل والمساواة. على قدر تقدمنا على هذه الجبهة يكون إقترابنا من تحقيق احلامنا الثورية. كلنا على قناعة راسخة بتجذر الدولة العميقة حد الخوف منها. هي وفق تلك القناعة تتمتع بقدرة هائلة على إزدراد كل جهد يستهدف المساس بكينونتها. معركتنا ضد الدولة العميقة هي حرب بين الخير والشر، قتال بين الجمال والقبح، بين العطاء والإستنزاف، بين الشعب ومصاصي خيرات الوطن. لا توجد منطقة وسطى في هذه الحرب للحياد. هي أول ميادين إختبار صدقية الجنرالات على الذهاب في طريق السودان الجديد.

من شأن التوغل في جهود فض الإشتباك بين الإدارة المدنية والعسكر عرقلة مسيرة إعادة البناء والتأهيل. كل الإمكانات ينبغي تكريسها من أجل إنعاش الحياة اليومية الكاسدة على امتداد رقعة الوطن. كل القوى الياسية، منظمات العمل المدني وحملة السلاح مطالبون بالإصطفاف في صلاة جماعية خالصة لوجه الشعب والوطن.


aloomar@gmail.com

 

آراء