الذكرى 61 لدعوة الأستاذ محمود محمد طه لانسحاب السودان من جامعة الدول العربية
(نُشر هذا المقال أول مرة في شهر أغسطس من العام الماضي بمناسبة الذكرى الـ (60) لدعوة الأستاذ محمود محمد طه لانسحاب السودان فوراً من جامعة الدول العربية، وننشره الآن بمناسبة الذكرى الـ (61).. وموضوع المقال هو موقف الأستاذ محمود محمد طه من جامعة الدول العربية، مقروناً برؤيته تجاه هُوية السودان وتشخيصه لقضاياه، وسيأتي مفصلاً ضمن كتاب سيصدر قريباً لكاتب هذا المقال، بعنوان: محمود محمد طه وقضايا التهميش في السودان).
بقلم دكتور عبدالله الفكي البشير
abdallaelbashir@gmail.com
مدخل
"نحن سودانيون، والتفكير في أننا سودانيون يجب أن يسبق أي شيء آخر".
الحزب الجمهوري، 6 ديسمبر 1946
يوافق شهر أغسطس الذكرى 61 لدعوة الأستاذ محمود محمد طه لانسحاب السودان من جامعة الدول العربية، والتي أطلقها في يوم 23 أغسطس 1958 وقام بتجديدها في يوم 18 أكتوبر من العام ذاته. جاءت دعوة الأستاذ محمود في ظل حماسة جل قادة السودان وساسته لتوجه السودان العروبي بعد نيله الاستقلال عام 1956. فقد شهد عقدا الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي، نشاطاً واسعاً من قبل الكثير من القادة والسياسيين وارثي حكم السودان من المستعمر، من أجل التسويق لعروبة السودان، وفي اتجاه تمكين الثقافة العربية، وتعزيز القومية العربية في السودان، دون اعتبار لتنوعه ومكوناته الأخرى. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، ظل خضر حمد (1910- 1970)، الذي عمل وزيراً للري والقوة الكهربائية في الخمسينات، وعضواً في مجلس السيادة في الستينات (1965- 1969)، ينشط بقوة منذ أربعينات القرن الماضي داخلياً وخارجياً من أجل التأكيد والتبشير بعروبة السودان، وقام بجولات في البلدان العربية، داعياً العرب لدعم عروبة السودان، ودعم عضويته في جامعة الدول العربية، وكما قال: "إن فكرة القومية العربية وتعزيزها، والوحدة العربية والدعوة لها كانت تملك تفكيري". (خضر حمد، ص 115- 147). وذهب الشيخ علي عبدالرحمن الأمين (1906- 1983)، رئيس حزب الشعب الديمقراطي، الذي عمل نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للداخلية، في سبيل تأكيده على عروبة السودان وحماسته للقومية العربية ، إلى أن السودان كله يدخل في نطاق القومية العربية بما في ذلك النوبة والبجة والفور والزنوج وسواء في ذلك المسلمون والمسيحيون والوثنيون. (علي عبدالرحمن الأمين، ص 23). كما دعا بابكر كرار (1930-1981)، الأمين العام للحزب الاشتراكي الإسلامي، لحسم عروبة السودان، ونادى بضرورة العمل على دعم استقلال السودان الوطني بتحقيق القومية العربية. (بابكر كرار، 5 أبريل 1958). وظل كرار ناقداً لطرح شعار "الانتماء الأفريقي" في السودان. (ناديه يس عبد الرحيم، ص 235). ويتفق مع رؤية هؤلاء الكثير من القادة والمثقفين، فقد لاحظ بعض الباحثين، أن اندفاع بعض المثقفين والقادة السياسيين في تعميم عروبة السودان، دون تمييز لتنوع الثقافات والمكانة التي تحتلها الثقافات الأفريقية في السودان، ظل جزءاً من الأسباب التي قادت وتقود بعض مشاكل السودان الحالية. (عبدالغفار محمد أحمد، ص 102- 103).
الدعوة للوعي والإيمان بالذاتية السودانية
"[نسعى إلى] العناية بالوحدة القومية، ونرمي بذلك إلى خلق سودان يؤمن بذاتية متميزة ومصير واحد".
محمود محمد طه، 1945
ظل الأستاذ محمود محمد طه منذ عام 1945، يدعو إلى ضرورة الوعي بالذاتية السودانية، والعمل على "خلق سودان يؤمن بذاتية متميزة ومصير واحد" (محمود محمد طه، 1945) من خلال العناية بالوحدة القومية، دون اللجوء إلى معاونة من الخارج. وكان يرى بإن تحقيق وحدة السودان تكون من خلال بناء الذاتية السودانية وتعميق المصير المشترك. ولا يتأتى تعميق المصير المشترك، كما يقول الأستاذ محمود، إلا "بإزالة الفوارق الوضعية من اجتماعية وسياسية، وربط أجزاء القطر شماله وجنوبه وشرقه وغربه حتى يصبح كتلة سياسية متحدة الأغراض متحدة المنافع متحدة الإحساس" (محمود محمد طه، 1945، ص 26- 28). كما أن الإيمان بالذاتية السودانية يحقق الانسجام الداخلي ويُسودِن المرتكز الحضاري للسودان، فبدلاً عن اللجوء إلى الخارج للارتكاز الحضاري، كما درج بعض القادة والسياسيين في نشاطهم من أجل عروبة السودان، فإن الانشغال يجب أن يكون بالوحدة الداخلية أولاً، فاللجوء إلى الخارج يؤثر سلباً على الوحدة والانسجام الداخلي. وظل يدعو، كما ورد آنفاً، إلى التركيز على الوحدة الداخلية بدلاً عن اللجوء لمعاونة الخارج، الذي "قد تؤثر في انسجام هذه الوحدة" (الحزب الجمهوري، 6 ديسمبر 1946). كما ظل يؤكد بأن الذاتية السودانية تحمل من الأصالة في الخصائص والمقومات، بما يجعل السودان "يلعب دوراً كبيراً جداً"، ولهذا فإن الحاقه بالمركز العروبي، يجرده من خصائصه، كما أن السير به انطلاقاً من "قولنا إن السودان بلد عربي أو جزء من الأمة العربية سير خطأ". (محمود محمد طه، مارس 1969). رفض الأستاذ محمود محمد طه القول بعروبة السودان والتعلق بالعواصم العربية والثقافة العربية الإسلامية، لتكون بمثابة المرتكز الحضاري للسودان، فدعا منذ أربعينات القرن الماضي لسودنة المرتكز الحضاري، وضرورة أن يكون التفكير في أننا سودانيون هو من الأولويات التي يجب ألا يسبقها شيء آخر. وظل يسعى باستمرار لتحرير الفكر السياسي السوداني من أشواق العروبة، كما حذر من أن الدعوة لعروبة السودان فيها هضم لحقوق الآخرين من غير العرب، ودعا للحرص على وحدة السودان، انطلاقاً من الإيمان بالذاتية السودانية.
إطلاق الدعوة لانسحاب السودان من الجامعة العربية
عقب انضمام السودان لجامعة الدول العربية، وفي ظل أشواق القادة والسياسيين آنفة الذكر، وفي مناخ إطلاق دعوة القومية العربية بزعامة الرئيس المصري جمال عبدالناصر (1918- 1970)، وفي خضم سجال واسع شهدته الصحف المحلية في السودان عام 1958 عن القومية العربية، أصدر الأستاذ محمود محمد طه في يوم 23 أغسطس 1958 بياناً نشرته صحيفة أنباء السودان، دعا فيه إلى الانسحاب من الجامعة العربية، قائلاً: "الانسحاب فوراً من الجامعة العربية وذلك لسببين أولهما أننا أمة أفريقية وثانيهما أن الجامعة العربية أصبحت تابعه لوزارة الخارجية المصرية ولم تعد تمثل دولاً مستقلة". ثم طالب في نفس البيان، وعلى ضوء رؤيته لواقع وتاريخ ومكونات ومستقبل السودان، بأن يتبنى السودان رؤية تقوم على : "الوقوف الواضح كدولة أفريقية ترعى حسن الجوار مع جميع الدول المجاورة وتتعاون مع جميع الدول العربية والبعيدة لحفظ السلام ولتدعيم هيئة الأمم وتشجيع الاحتكام إليها والرضا بقرارتها". فانتماء السودان لجامعة الدول العربية، لا يعود بالنفع ولا يحقق المصلحة الوطنية الشاملة، وإنما يوفر أسباب التفرقة، ويعمق القطيعة مع المكونات الأفريقية، فيهدد وحدة البلاد.
تجديد الدعوة: العروبة تُحجّم دور السودان بينما الأفريقية تُعظّمه
جدد الأستاذ محمود محمد طه في يوم 18 أكتوبر 1958، دعوته وموقفه الرافض لانتماء السودان لجامعة الدول العربية، حيث أصدر بياناً نشرته صحيفة أنباء السودان، بعنوان: "عضويتنا في جامعة الدول العربية"، قال فيه: "رأي الحزب الجمهوري فيما يتعلق بعضوية السودان في الجامعة العربية واضح ومعروف ويتلخص في أنها مؤسسة إقليمية ضيقة". بل هي مؤسسة عنصرية، ولا يرجى منها خدمة السلام العالمي، ذلك لأنها: "لا تقوم على مذهبية فكرية تجعلها أداة خلاقة تخدم مصالح أعضائها وتسير في الوقت ذاته في اتجاه سليم يخدم قضية الإنسانية في السلام العالمي إنما هي عنصرية ضيقة". كذلك أكد البيان بأن رفض الحزب الجمهوري لعضوية السودان في الجامعة العربية، يعود إلى أن الشعب السوداني شعب أفريقي، قائلاً: "نحن كشعب أفريقي فتى له مكانته في القارة الإفريقية، [يمكن أن] نخدم أنفسنا ونخدم الشعوب المجاورة، بل ويمكن أن نقدم خدمات أكبر لقضايا الأحرار وقضية السلام العالمي بأوسع وأيسر مما يمكن أن نفعل ونحن داخل إطار جامعة الدول العربية". ظل الأستاذ محمود رافضاً لمبدأ عروبة السودان، مبيناً أن السير بالسودان في وجهة العروبة هو تحجيم لدور السودان وتضييق لفرص امتداداته وإسهاماته في أفريقيا والعالم، بينما الأفريقية تُعظّم دوره وتؤكد ذاتيته وخصوصيته.
هل كان الموقف من الجامعة العربية في عام 1958 موقفاً طارئاً أم أنه رأيٌ مؤسسٌ؟
"نحن نريد الوحدة الداخلية، قبل أن نعمد إلى اللجوء إلى معاونة من الخارج قد تؤثر في انسجام هذه الوحدة".
الحزب الجمهوري، 1946
لم يكن موقف الحزب الجمهوري من عضوية السودان في جامعة الدول العربية موقفاً طارئاً أو لحظياً، وإنما كان رأياً مؤسساً ينطلق من رؤية ثاقبة، كانت مستصحبة لمكونات السودان وتاريخه، وهي تخاطب مستقبله. فقد ظل موقف الحزب الجمهوري برئاسة محمود محمد طه، منذ أربعينات القرن الماضي، رافضاً لعضوية السودان في جامعة الدول العربية. ففي الوقت الذي كانت فيه الأحزاب السودانية تنادي بضرورة الانتماء لجامعة الدول العربية، بل بعضها يرى بأن تمثيل السودان في الجامعة العربية يعني اعترافاً ضمنياً باستقلاله، أصدر الحزب الجمهوري في يوم 6 ديسمبر 1946 بياناً، بعنوان: "حزب الأمة والجامعة العربية"، جاء فيه: "ترى بعض الأحزاب والجماعات السودانية، أن من الاعترافات الضمنية بالسودان كدولة هو تمثيله في جامعة الدول العربية"، رفض الحزب الجمهوري هذه الرؤية وأوضح بأنها رؤية تعقد وضع السودان بما ينطوي عليه من تداخل في تركيبته، فأوضح الحزب، قائلاً: "إننا شعب مركب من عنصرين مختلفين، وهما في نفس الوقت متداخلان". ثم بيَّن البيان بأن انتماء السودان لجامعة الدول العربية يثير في النفوس فكرة الاختلاف، ويعمق التفرقة، كما أن الانتماء للجامعة ليس هو بالوسيلة المثلى لتحقيق الوحدة، وإنما "الوسيلة المثلى لتمكين أواصر وحدة هذين العنصرين، هي أن نبتعد عما من شأنه أن يثير في النفوس فكرة الاختلاف هذه". ثم بيَّن البيان أن مصلحة السودان الوطنية تقتضي مراعاة مكونات الشعب السوداني، فهو ليس بالشعب العربي، برغم روابطه مع العرب، وإنما هو خليط من عناصر مختلفة، قائلاً: "نعم هناك أواصر تاريخية تربطنا بالعرب، ولكن إذا قارنا بين المصلحة الوطنية التي ربما نجنيها من اتصالنا بالجامعة العربية،... وبين الضرر الذي ربما يحدث لوجدنا كفة الخسارة هي الراجحة".
ذهب البيان محذراً من مآلات المستقبل، خاصة في ظل سياسات التفرقة التي اتبعتها الإدارة الاستعمارية تجاه جنوب السودان، ومن خلال إنشائها للمجلس الاستشاري لشمال السودان، يقول البيان: "الشيء الملموس هو أن الحكم الحاضر، قد مهد لأن يجعل لجنوب هذا القطر مزاجاً وطابعاً مبايناً لمزاج وطابع الشمال، بتطبيق أسلوب تعليمي ذي لون معلوم، وبوضع العراقيل في سبيل الاتصال المباشر بين الشطرين، وبإنشاء مجلس استشاري يمثل الشمال ولا يمثل الجنوب!! كل ذلك بغية التفرقة!! فكيف إذن، نتصل بالجامعة العربية في مثل هذه الظروف". ثم أشار البيان إلى ضرورة التفكير بدافع المصلحة الوطنية الشاملة، ومستقبل السودان، عند تكييف علاقاته بما يقتضيه الموقف والظروف، والحرص على وحدة السودان.
أوضح أمين محمد صديق (1911- 1980)، سكرتير الحزب الجمهوري، في مذكراته قصة هذا البيان "حزب الأمة والجامعة العربية"، فكتب، قائلاً: "بينما كان المصريون يوجهون حزب الأشقاء، ويسوقونه لوحدة وادي النيل خوفاً وطمعاً، كان الإنجليز يحتضنون حزب الأمة ويوجهون سياسته وفقاً لأغراضهم ويجعلون منه ترياقاً ضد الحركة التي تساند مصر والحركات الوطنية كلها.. فلما قويت الحركة الموالية لمصر، أوعزوا إلى حزب الأمة أن يتقدم بطلب إلى الجامعة العربية لقبول السودان كعضو مستمع بالجامعة أسوة بالجزائر.. وكان في ظاهر هذا الطلب، إذا تم، اعتراف ضمني من دول الجامعة بحق السودان في أن يكون دولة لها كيانها.. وقد وضح للحزب الجمهوري الخطر الكامن وراء هذا الطلب، والذي ربما يتخذه الإنجليز ذريعة فيوجهون الجنوبيين للمطالبة بالانضمام للوحدة الأفريقية، فأصدرنا المنشور التالي [حزب الأمة والجامعة العربية]". (أمين محمد صديق، ص 42- 43).
هل كانت دعوة الأستاذ محمود للانسحاب من الجامعة العربية أول دعوة تُطلق في السودان؟
إن دعوة الأستاذ محمود لانسحاب السودان من جامعة الدولة العربية، كانت، في تقديري وحسب اطلاعي، هي أول دعوة، تُطلق في السودان للانسحاب من الجامعة العربية. وبرغم أن الدعوة قد أُطلقت عام 1958، وكانت منشورة في الصحف السودانية، إلا أنها كحال الكثير من الأفكار الأصيلة التي طرحها الأستاذ محمود محمد طه، وكانت تصب في تشخيص قضايا السودان، وتخاطب أسباب التهميش فيه، وتدعو لتداركه وتحذر منه، ولم يقف عليها الناس في السودان، كما أنها لم تجد سوى التجاهل عند الأكاديميين السودانيين. ولعل التجاهل والجهل بهذه الدعوة، في تقديري، يعود إلى عدة أسباب، منها ضعف انفتاح الدراسات السودانية والباحثين على الإرشيف القومي السوداني. ومما يؤكد أن الدعوة لا يعرفها الأكاديميون السودانيون، أذكر أنني كنت في القاهرة في شهر مايو من العام 2012، فهاتفني الدكتور حيدر إبراهيم علي، ووجه لي الدعوة، مشكوراً، لحضور اجتماع لتدشين الجمعية السودانية لمناهضة العنصرية، وبالفعل حضرت الاجتماع، إلى جانب مجموعة من الأساتيذ والباحثين والشباب، كان من بينهم الأخ جبير بولاد، ودار في الاجتماع حوار ثري وعميق وقُدمت مداخلات قيمة. كان من بين المتداخلين الأستاذ/ الفاضل عباس علي، وقد تحدث في مستهل مداخلته، قائلاً: إنه جاء إلى القاهرة من الإمارات العربية المتحدة، لمتابعة طباعة وصدور كتاب له، وأشار إلى أن كتابه يدعو لخروج السودان من جامعة الدول العربية، وأضاف بأن هذه الدعوة لخروج السودان من الجامعة العربية، هي الأولى من نوعها في السودان، ثم استكمل مداخلته.
عندما استمعت لحديث الأستاذ/ الفاضل عباس علي، أدركت بأن غياب المعلومة عنه هو السبب فيما ذهب إليه. وعندما أتيحت لي الفرصة للحديث، وقبل الدخول في مداخلتي، بدأت بالتعليق على مداخلته، وأوضحت بأن كتابه سيكون إضافة للمكتبة السودانية، ولا شك بأن جهداً كبيراً قد بذل فيه، ولكن أرجو أن يسمح لي الأستاذ/ الفاضل عباس بأن أصحح ما جاء في مداخلته، بشأن دعوته لخروج السودان من جامعة الدول العربية، والتي سيتضمنها كتابه، باعتبارها أول دعوة في السودان. ففي واقع الأمر إن الدعوة لخروج السودان من جامعة الدول العربية ليست جديدة، ولم تكن الأولى في السودان. ففي أغسطس من عام 1958 كان الأستاذ محمود محمد طه، قد أطلق دعوة لانسحاب السودان من الجامعة العربية. ثم أشرت لبيان الأستاذ محمود محمد طه ونص الدعوة للانسحاب من الجامعة العربية وأسباب الانسحاب. هذا الموقف، يوضح بأن المعلومة عن الدعوة التي اطلقها الأستاذ محمود محمد طه للانسحاب من جامعة الدول العربية، كانت غائبة عند الأستاذ/ الفاضل عباس علي، وفي هذا فهو ليس متهماً، ولكن الموقف يوضح بجلاء ضعف انفتاح الدراسات السودانية، لا سيما الأكاديميا السودانية، على الأرشيف القومي السوداني، سواء في دار الوثائق القومية بالخرطوم أو في القاهرة ولندن، ووحدة أرشيف السودان بجامعة درم بالمملكة المتحدة، وجامعة بيرجن بالنرويج وهولندا وغيرها. إن ضعف الانفتاح على الأرشيف القومي السوداني، يضعف قيمة وفائدة الانتاج المعرفي في الدراسات ويعزز التهميش ويعمق الإقصاء، خاصة في بيئات التعدد الثقافي، كحال السودان الذي يمتد تاريخه لآلاف السنين، وينطوي على تعدد ثقافي، نادر المثيل من حيث القِدم والأصالة.
لم تكن دعوة الأستاذ محمود محمد طه لانسحاب السودان من جامعة الدول العربية، لم تكن دعوة عابرة أو ظرفية أو جاءت بمناسبة محددة، وإنما كانت دعوة تنطلق من رؤيته لمستقبل السودان القائمة على رفض هوس الثقافة العربية، ودجل القومية العربية، وحفاظاً على التنوع الثقافي الذي يحظى به السودان. وتقوم الدعوة كذلك على رأي مؤسس، ومعلن منذ عام 1945 وباستمرار في بيانات ومقالات عديدة، وفي المواجهة التي قادها ضد الدعوة إلى القومية العربية، سواء مع زعيمها جمال عبدالناصر، أو في المساجلات التي قادها مع المثقفين السودانيين. إلى جانب التأكيد على أفريقية السودان. فقد تحدث في مارس 1969، قائلاً: "السودان بلد أفريقي.. بل الحقيقة عمله كبلد أفريقي أعظم من عمله كبلد عربي".
اللغط حول انضمام السودان لجامعة الدول العربية
يشيع بعض المثقفين السودانيين أن قرار عضوية السودان في جامعة الدول العربية لم يكن بإجماع الدول العربية، إذ أن بعض الدول العربية رفضت انضمام السودان للجامعة، ويسمي البعض لبنان باعتبارها الدولة التي احتجت ورفضت عضوية السودان في الجامعة العربية. كان عبدالله علي إبراهيم قد أطلق نداءً في أغسطس 2017، في مقال له تناول فيه قول الذين ذهبوا إلى معارضة لبنان لعضوية السودان في الجامعة العربية عند استقلاله، ودعا عبدالله إلى ضرورة التقصي والتنقيب عن الأمر في أرشيف جامعة الدول العربية، بدلاً عن الحديث غير المؤسس علمياً، وحتى نحسم الجدل أو نقيمه استناداً على الوثيقة واستنطاقها. كتب عبدالله في ندائه، قائلاً: "أرجو لمن له إفادة حول انضمامنا للجامعة العربية أن يدلي بها. ولو تحقق أحدكم بالقاهرة من معارضة لبنان لدخولنا الجامعة العربية على بينة من وثائقها بالمدينة، يؤجر لعدل الرأس". (عبدالله علي إبراهيم، 12 أغسطس 2017). لقد أتيحت لي فرصة الوقوف على نص القرار الصادر عن مجلس جامعة الدول العربية على المستوى الوزاري بشأن عضوية السودان عام 1956، بعد أن زودني به السفير إبراهيم جعفر السّوْري، المستشار السابق للدكتور نبيل العربي، الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية،. لقد عمل السّوْري، وهو من الخبراء السودانيين، في جامعة الدول العربية لمدة ثمانية وثلاثين عاماً، وكان عضواً في لجنة الصياغة لمجلس الجامعة ثم تولى لاحقاً رئاسة اللجنة.
لقد صدر قرار جامعة الدول العربية بشأن عضوية جمهورية السودان، في يوم 19 يناير 1956، وجاء تحت الرقم: ق 1107/ د.ع 24/ج 5- 19/1/1956، وهو يؤكد أن الموافقة على عضوية السودان كانت بالإجماع. ونص القرار على الآتي: "انضمام السودان إلى جامعة الدول العربية: يقرر مجلس جامعة الدول العربية بالإجماع الموافقة على انضمام جمهورية السودان إلى جامعة الدول العربية". (انتهى). وأضاف إبراهيم جعفر السّوْري فأفادني بأنه أطلع على محضر الدورة العادية الرابعة والعشرين التي تم فيها المصادقة على القرار، وجاء في محضر الجلسة: لقد تم إقرار عضوية السودان بالإجماع دون نقاش. وأضاف السوري بأن لبنان كانت هي الدولة العربية الثانية التي تقيم علاقات دبلوماسية مع السودان. (إبراهيم جعفر السّوْري، مقابلات في يومي 10- 11 أبريل 2018؛ يوم الخميس 13 سبتمبر 2018).
خاتمة
إن هذا المقال وهو يحتفي بدعوة تم إطلاقها قبل ستين عاماً لانسحاب السودان من الجامعة العربية حفاظاً على وحدته وتأكيداً على أفريقيته، مقروءاً براهن السودان ومستقبله، يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، حاجتنا الماسة لرؤية الأستاذ محمود محمد طه وأطروحاته. إن الحماسة التي تملكت معظم القادة والسياسيين لعروبة السودان، وسعيهم على التأكيد والتسويق لعروبته، دون اعتبار للمكونات غير العربية، نتج عنها، إلى جانب عوامل أخرى بالطبع، الانحياز للمكون العروبي، سواء في رسم السياسات أو وضع التشريعات، ومن ثم تكييف الرأى العام والمسار السياسي للسودان في الإتجاه العروبي، الأمر الذي أدى لتهميش الشعوب والثقافات الأصلية في السودان. تبع ذلك أن ظل السودان يسير في وجهة تناقض إرثه الحضاري، وتصادم آركيوليوجيته الثقافية، وتناطح تركيبة شعوبه الوجدانية. فأفضى ذلك المسار، إلى جانب عوامل أخرى بالطبع، إلى انفصال جنوب السودان عام 2011، وتفجير الانتماءات الإثنية والجهوية، واشتعال الحروب، وتفشي مناخ التشظي في سماء السودان.
إننا في حاجة ماسة للعمل بجد وعلم وإتقان من أجل تصحيح مسار السودان، والعمل على سودنة التشخيص لقضاياه، وسودنة سيناريوهات الحلول كذلك، لاستكمال الاستقلال عبر تحرير العقول، بما يضمن التعايش ووحدة البلاد وبناء السلام. وفي تقديري أن هذا لا يمكن تحقيقه بمعزل عن الأطروحات التي طرحها الأستاذ محمود محمد طه. فقد جاء الوقت لإعادة الاعتبار لتلك الأطروحات وتحريرها من تآمر رجال الدين والمؤسسات الإسلامية التقليدية، وتحريرها كذلك من التجاهل والتغييب الذي ظلت تمارسه الأكاديميا السودانية وتؤكده مع مرور كل يوم.
ثبت المصادر والمراجع
أمين محمد صديق، في ذكرى الاستقلال رقم (60): مذكرات سكرتير الحزب الجمهوري الأستاذ أمين محمد صديق، ديسمبر 2015.
بابكر كرار، "القومية العربية.. ظهيرة الإسلام"، صحيفة السودان الجديد، السبت 5 أبريل 1958.
بابكر كرار، حسم عروبة السودان، ط2، 1975.
الحزب الجمهوري، "مذكرة تفسيرية- دستور الحزب الجمهوري"، 26 أكتوبر 1945، دار الوثائق القومية، مجموعة أحزاب سودانية: 2/1/5.
الحزب الجمهوري، "منشور رقم (12): حزب الأمة والجامعة العربية"، 6 ديسمبر 1946.
خضر حمد، مذكرات خضر حمد: الحركة الوطنية السودانية: الاستقلال وما بعده، ط1، مكتبة الشرق والغرب بالشارقة، الإمارات العربية المتحدة، 1980.
عبدالغفار محمد أحمد، السودان بين العروبة والأفريقية، ط2، مركز البحوث العربية للدراسات والتوثيق والنشر، القاهرة، 1995.
عبدالله الفكي البشير، صاحب الفهم الجديد للإسلام محمود محمد طه والمثقفون: قراءة في المواقف وتزوير التاريخ، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2013.
عبدالله علي إبراهيم، "حجوة أم ضبيبينة: من عارض انضمامنا للجامعة العربية؟"، صحيفة الأحداث نيوز على الإنترنت، استرجاع بتاريخ 12 أغسطس 2017، الرابط: www.alahdathnews.com/archives/22660
علي عبدالرحمن الأمين، الديمقراطية والاشتراكية في السودان، ط1، المكتبة العصرية، بيروت، 1970.
محمود محمد طه، "الحزب الجمهوري يقدم دعائم الميثاق القومي"، صحيفة أنباء السودان، العدد رقم: (154)، السبت 23 أغسطس 1958.
محمود محمد طه، "الدستور الإسلامي المزيف"، (محاضرة)، دار الحزب الجمهوري، أم درمان، [...] مارس 1969. (للاطلاع أو الاستماع للمحاضرة، راجع موقع الفكرة الجمهورية على الإنترنت، الرابط: www.alfikra.org/talk_view_a.php?talk_id=45
محمود محمد طه، "عضويتنا في جامعة الدول العربية"، صحيفة أنباء السودان، العدد رقم: (164)، 18 أكتوبر 1958.
محمود محمد طه، السفر الأول، ط1، أم درمان، 1945.
مقابلات مع إبراهيم جعفر السّوْري، تمت في الدوحة، الأولى كانت بتاريخ 11 أبريل 2018، الساعة 12:15 بتوقيت الدوحة؛ المقابلة الثانية كانت بتاريخ 10 يوليو 2018، الساعة 11:45، بتوقيت الدوحة؛ المقابلة الثالثة كانت بتاريخ الخميس 13 سبتمبر 2018، الساعة 13:30 بتوقيت الدوحة.
ناديه يس عبد الرحيم، بابكر كرار: سيرته وفكره، مركز البحوث والدراسات الأفريقيه، دار جامعه أفريقيا العالمية للطباعة، الخرطوم، 2006.
abdallaelbashir@gmail.com
////////////////////