تاريخ السودان المعاصر (1954- 1969م) .. تأليف: البروفيسور فدوي عبد الرحمن علي طه .. تقديم: أ. د. أحمد إبراهيم أبوشوك
كتب الأستاذ الدكتور محمد سعيد القدَّال (1935- 2008م) في مقدمة الطبعة الثانية لكتابه، تاريخ السُّودان الحديث، 1821- 1955م، قائلاً: "لن تكتمل سعادتي إلا بإنجاز الجزء الثاني من عام 1954 إلى 1969، الذي حالت ظروف الاغتراب القهري دون إنجازه. وإذا لم يتحقق ذلك، فأنا على يقينٍ من أنَّ أجيالاً فتيَّة، سوف تتولى إنجازه، بطريقة ستكون بلا شك أفضل." لقد صدق حدس القدَّال بعد أنْ تبنَّت طالبته الألمعيَّة الأستاذة الدكتورة فدوى عبد الرحمن علي طه هذا المشروع، وأنجزته بمهنيَّة عالية، تحت عنوان "تاريخ السُّودان المعاصر، 1954- 1969م". مازت فدوى مؤلفها عن مؤلف القدَّال بأن اختارت له "تاريخ السُّودان المعاصر" عنواناً، بدلاً عن "تاريخ السُّودان الحديث"؛ لأنَّ حقبة التاريخ الحديث تبدأ في السُّودان بغزو محمد علي باشا عام 1820م، وتنتهي كونياً بانتهاء الحرب العالميَّة الثانية عام 1945م، والتي أسست لمطلع الحقبة المعاصرة، أو الحرب الباردة (1945- 1991م). إذن الفترة التي اختارتها فدوى تقع في مسار الخط الزمني للتاريخ المعاصر؛ لكن أهميَّة الكتاب لا ترتبط بالتوافق الزمني، بل تتعداه إلى أهميَّة الأحداث التاريخيَّة التي شهدها السُّودان في الفترة الواقعة بين الفاتح من يناير 1954 والرابع والعشرين من مايو 1969م. إذ تغطي إجمالاً أنماط أنظمة الحكم الثلاثة (ديمقراطية، عسكريَّة ، انتقاليَّة )، التي بدأت نشأتها الأولى عام 1953م، واكتملت الحلقة الأولى من دورتها الثانية في النصف الأول من العام 1969م. وبعد ذلك شكَّلت تلك المنظومة الثلاثيَّة أو الدائرة الخبيثة النمط السائد لحكم السُّودان. وعَزَت المؤلفة جذور الانحباس بين الديمقراطيَّة والدكتاتوريَّة إلى صراعات القوى القطاعيَّة -الحزبيَّة، والدساتير المؤقتة والمعدلة التي تفتقر للاستدامة والنظرة المستقبليَّة، والممارسات السياسيَّة المتعارضة مع قيم الديمقراطيَّة، وكذلك مشكلة جنوب السُّودان التي عكست ضعف الرؤية الاستراتيجيَّة للحكومات الوطنيَّة المتعاقبة في إدارة التنوع والنهوض بمشروعات التنمية المتوازنة وخدمات المجتمع. كما نظرت المؤلفة إلى الدور الأدائي للمؤسسات الحكوميَّة الخدميَّة (التعليم والصحة) وعلاقته بالتركيبة الاقتصاديَّة وموجهات الصرف الحكومي، وكذلك إدارة العلاقات الخارجيَّة وصلتها بالواقع الإقليمي وتوجهات النخب الحاكمة ذات الحمولات الأيديولوجيَّة؛ كما أنها أفردت فصلاً كاملاً لتطور الحركة النسائيَّة ودورها في الحركة الوطنيَّة ودولة ما بعد الاستعمار.
قد تطرقت العديد من الدراسات السابقة إلى الفترة موضوع الكتاب (1954- 1969م) في إطارها العام، ونذكر منها دراسة ب.م. هولت (P.M. Holt) ومارتن دالي (Martin Daly)، "تاريخ السُّودان منذ مجيء الإسلام إلى الوقت الحاضر"، ومحمد عمر بشير، "تاريخ الحركة الوطنيَّة في السُّودان، 1900- 1969م"، وروبرت كولن (Robert Collin)، "تاريخ السُّودان الحديث"، وبيتر ودورد (Peter Woodward) "السُّودان (1898- 1989م): الدولة المضطربة"، وتيم نبلوك (Tim Nibolck) " صراع السُّلطة والثروة في السُّودان، منذ الاستقلال وحتى الانتفاضة "؛ وبعض الدراسات ذات الموضوع الواحد، مثل دراسة فيصل عبد الرحمن علي طه، "مسألة جنوب السودان في سياق تاريخي، 1899- 1986م"، وحاجة كاشف بدري، "الحركة النسائيَّة في السُّودان"، ومحمود قلندر، "السُّودان ونظام الفريق عبود"؛ وأحمد إبراهيم أبوشوك والفاتح عبد الله عبد السلام، "الانتخابات البرلمانيَّة في السُّودان، 1953-1986م"؛ وحيدر إبراهيم علي "الديمقراطيَّة السُّودانيَّة: المفهوم ... التاريخ ... الممارسة"؛ وعطا الحسن البطحاني، "أزمة الحكم في السُّودان: أزمة هيمنة أم هيمنة أزمة"؛ ويوسف محمد علي، "السُّودان والوحدة الغائبة". بيدَ أنَّ هذه الدراسات على كثرتها وتعدد موضوعاتها، لم تقدم قراءات تحليليَّة شاملة لأحداث الفترة (1954- 1969م)، التي شكلت الخط الزمني لكتاب "تاريخ السُّودان المعاصر".
ويقودنا هذا الافتراض إلى طرح أسئلة جوهريَّة، ما أهميَّة هذا الكتاب؟ وما الذي يميزه عن غيره من الأدبيات التي أشرنا إليها أعلاه؟ وإلى أي مدى يصلح مرجعاً لدارسة أزمة الحكم في السُّودان؟ التي تساءل الأستاذ البطحاني عن أصلها، هل هي أزمة هيمنة أم هيمنة أزمة؟ والتي وصف الدكتور منصور خالد النخب التي كانت قائمة على أمرها بإدمان الفشل.
أولاً: تتبلور أهميَّة هذا الكتاب في أنَّه يُقدِّم مادةً تاريخيَّةً موثقةً عن جذور أزمة الحُكْم في السُّودان، والتي أرجعت المؤلفة أصلها إلى نشأة الدولة الحديثة التي أسسها الاستعمار الإنجليزي- المصري (1898 -1956م)، مستعيناً في ذلك ببعض قطاعات المجتمع المدني للقيام بمهامٍ وظيفيَّة محددةٍ، تخدم مصالحه الإمبرياليَّة. ثم أفرز هذا التعاون واقعاً اجتماعياً وسياسياً متناقضاً، تجسدت تناقضاته في صراعات الأنصار والختميَّة، وشعاري "السُّودان للسودانيين" و"وحدة وادي النيل"، وجدليَّةِ التقليد والحداثة، وإعادة انتاج القيم "البدوقراطيَّة" أو القيم الطائفيَّة والقبليَّة في مؤسسات الدولة الوطنيَّة الحديثة وأجهزة الأحزاب السياسيَّة، نتيجة لتحالف النُخْبَة الحداثيَّة-الفاعلة سياسياً مع القوى الطائفيَّة والقبليَّة ذات القواعد الجماهيريَّة، بهدف دفع مسيرة الحركة الوطنيَّة في مواجهة التحديات الاستعماريَّة. ويشير الكتاب في غير ما موضعٍ إلى هذه الثنائيات التي أضحت جزءاً من ثوابت الأحزاب الوطنيَّة الرئيسة، وبدرجات متفاوتة في ممارسات الأحزاب العقديَّة والحركات الجهويَّة. وتظهر هذه الصورة جلية في الفصول الأربعة الأولى من كتاب "تاريخ السُّودان المعاصر"، حيث ناقشت المؤلفة نشأة الدولة الاستعمارية في المبحث الثالث من الفصل الأول، وأفردت الفصل الثاني لنشأة الأحزاب السياسيَّة والتنظيمات الجهويَّة وأجندتها السياسيَّة في إدارة التدافع الحزبي والجهوي. كما تناولت في الفصل الثالث الانتخابات البرلمانيَّة في العهد الديمقراطي الأول والثاني (1953- 1958م، 1965- 1969م) وانتخابات المجلس المركزي في العهد العسكري الأول (1958- 1964م)، وإسقاطات هذه العهود الثلاثة السالبة على المشهد السياسي، ثم خصصت الفصل الرابع للحكومات الوطنيَّة المتعاقبة (1954- 1969م) التي لم تفلح في صنع نظام حكم ديمقراطي مستدام في السُّودان، بل ظلت متأرجحةً بين حكومات منتخبة ومتشاكسةٍ في إدارة مؤسسات الدولة، ونظام عسكريٍ شموليٍ (1958- 1964م)، رافضٍ للحريات العامة والتعدديَّة الحزبيَّة، إلى أن أُسقط بانتفاضة شعبيَّة عام 1964م، أسست لقيام حكومة انتقاليَّة قصيرة الأجل (1964- 1965م)، كان هدفها الأول تهيئة بيئة ديمقراطيَّة داعمة لإعادة التعدديَّة الحزبيَّة والحريات العامة، ثم إجراء الانتخابات البرلمانيَّة.
ثانياً: تناول الكتاب بسعة وموضوعيَّة الواقع السياسي المتردي داخل حكومة السيدين (حزب الأمة وحزب الشعب الديمقراطي)، وكيف أفضى إلى انقلاب القوات المسلحة على الحكومة المنتخبة في 17 نوفمبر 1958م. أوردت المؤلفة اقتباسات من وقائع التحريات التي أُجريت مع رموز النظام العسكري والحكومة الائتلافيَّة المنقلب عليها بشأن الجهة المسؤولة عن تنفيذ الانقلاب العسكري؛ لكنها لم تجد إجابة قاطعة عن السؤال: "هل سلَّم السلطة رئيس الوزراء عبد الله خليل للجيش أم حزب الأمة كمؤسسة؟" لكنها رجَّحت الظنَّ بأنَّ الجيش قد استولى على السلطة "بعلم رئيس الوزراء عبد الله خليل، وذلك من خلال التحقيق الذي أُجري بعد سقوط الحكم العسكري والإفادات الواردة فيه." بالرغم من أنَّ عبد الله خليل قد أنكر تهمة تسليم السلطة للقوات المسلحة إلا أن معظم الإفادات لا تؤيد ذلك النكران. والشاهد على ذلك النصَّ المقتبس من إفادة الرئيس إبراهيم عبود، والذي أوردته المؤلفة هكذا: "عبد الله خليل صاحب الفكرة بتاعت الانقلاب أساساً، وهذا أمر معروف للجميع، وقد نفذنا الانقلاب لإنقاذ البلاد. لو عبد الله خليل قال بلاش الحكاية، كنا في ثانية ألغينا كل شيء، وكل ما قاله عبد الله خليل في هذا الشأن لا أساس له من الصحة." وبذلك تخلص المؤلفة إلى أنَّ المؤسسة الحزبيَّة في السُّودان آنذاك لم يكن لديها إيمان راسخ بالقيم الديمُقراطيَّة، فنواب الختميَّة، مثلاً، انسلخوا عن الحزب الوطني الاتحادي دون الرجوع إلى قواعدهم التي صوَّتت لهم تحت مظلة الحزب الحاكم، فكونوا حزب الشعب الديمقراطي، ودخلوا في تحالف مع خصمهم التقليدي، حزب الأمة، من أجل إسقاط حكومة الرئيس إسماعيل الأزهري. وعندما اختلفت قيادة حزب الأمة في خياراتها الائتلافيَّة بين حزب الشعب الديمُقراطي والحزب الوطني الاتحادي لم تحتكم للهيئة البرلمانيَّة، بل لجأ سكرتير حزب الأمة ورئيس الوزراء حينذاك، عبد الله خليل، إلى القوات المسلحة؛ لتكون بديلاً للنظام الديمقراطي. وبهذه الخطوة الانقلابيَّة دشَّن حزب الأمة الطريق للقوات المسلحة؛ لتكون ملاذاً لبعض التيارات من الأحزاب السياسيَّة التي اصطدمت بواقع غير ديمقراطي من وجهة نظرها. إذن الفترة التاريخيَّة التي تناولها الكتاب تشكِّل أس أزمة الحكم في السُّودان، وإنَّ محتويات هذا الفصل تعرض حيثيات مفيدة عن السؤال المتكرر في الأدبيات السياسيَّة: هل أزمة الحكم في السُّودان، أزمة هيمنة أم هيمنة أزمة؟
ثالثاً: تتجلى أهميَّة الكتاب أيضاً في الفصلين السادس والسابع اللذين عرضت فيهما المؤلفة القضيَّة الدستوريَّة، بشقيها التكويني والإجرائي. ويُقصد بالشق التكويني المشكلات التي واجهت إعداد الدستور الدائم لدولة السُّودان. إذ إنَّ أول دساتير السُّودان المؤقتة كان عبارة عن تعديل طفيف للملحق الرابع لاتفاقيَّة الحكم الذاتي وتقرير المصير، الموقعة في 12 فبراير 1953م. وبعد تعليق العمل بهذا الدستور المؤقت أصدر المجلس العسكري سلسلة من الأوامر الدستوريَّة المؤقتة، وفي الديمقراطيَّة الثانية أُعيد العمل بالدستور المؤقت لسنة 1956م، والذي عُدل أربع مرات في الأعوام 1964م، و1965م، و1966م، و1968م. كما عرضت الأستاذة فدوى مداولات اللجان القوميَّة لإعداد دستور السُّودان الدائم، وطبيعة المداولات التي أجريت داخل أروقتها؛ والجدل السياسي في مشروع الدستور الإسلامي، الذي طرحه الدكتور حسن الترابي، عضو اللجنة القوميَّة للدستور ونائب جبهة الميثاق الإسلامي. ومن المدخلات المثيرة للجدل في هذا الشأن المذكرة التي بعثها حزب سانو، وجبهة الجنوب، والحزب الجنوبي الديمقراطي إلى رئيس اللجنة القوميَّة للدستور في 5 أبريل 1967م. ولخصت المؤلفة محتوياتها في الكلمات الآتية: إنَّ الأحزاب الجنوبيَّة المذكورة أعلاه "تعترض بشدة على وضع دستور إسلامي، أو شبه إسلامي، أو وضع دين فوق مستوى دين آخر... إنَّ الدين مسألة إيمان ومبدأ، وينبغي ألا ينظر إليها من زاوية الأغلبيَّة أو الأقليات. كما اتهمت المذكرة الذين يدعون للدستور الإسلامي بأنهم أدخلوا إلى مجال السياسة السُّودانيَّة وسائل العنف والإرهاب، وهذه ليست مقدمة طيبة للديمقراطيَّة." وواضح من مداولات اللجان القوميَّة للدستور أنَّ الإخفاق في إعداد الدستور الدائم كان واحداً من الأسباب الرئيسة التي أسهمت في تفاقم أزمة الحكم في السُّودان.
ولذلك يصلح هذا الفصل أن يكون نقطة انطلاقٍ للباحثين المهتمين بمشكلة إعداد الدستور وتداعياتها السياسيَّة في مجتمع متعدد الأديان والثقافات والأعراق.
أما الشق الإجرائي للقضيَّة الدستوريَّة فقد ارتبط بالصراع الدائم بين التحالف العريض للقُوى التقليديَّة-الرأسماليَّة-البيروقراطيَّة من جهة، والقُوى الحديثة المهنيَّة والنقابيَّة وشرائح اليسار وجماهير الإثنيات المهمشة من جهة أخرى. ونلحظ أنَّ الجهات التقليديَّة ذات الأغلبيَّة البرلمانيَّة قد استطاعت أن توظف الدستور لخدمة مصالحها القطاعيَّة، والدليل على ذلك تعديل البند الثاني من المادة الخامسة المعدلة من دستور السُّودان المؤقت. وبموجب ذلك التعديل طُرد نواب الحزب الشيوعي السُّوداني من الجمعيَّة التأسيسيَّة في 16 ديسمبر 1965م، وحُلّ الحزب الشيوعي السُّوداني، وجميع التنظيمات التابعة له، تعللاً بأنَّ الشيوعيين قد فقدوا شرطاً من شروط أهليتهم السياسيَّة، بعد التعديل الدستوري، وذلك لانتمائهم إلى حزب يروَّج للشيوعيَّة والإلحاد، وعدم الاعتقاد في الأديان السماويَّة. ونجم عن ذلك التعديل الدستوري والإجراءات المصاحبة له صراع حاد بين السلطات الثلاث (القضائيَّة والتنفيذيَّة والتشريعيَّة)، أفسد مبدأ الفصل بين أدوارها الوظيفيَّة، وجعل عصمة الدستور عرضة للنزاعات الحزبيَّة التي مهدت الطريق إلى الانقلاب العسكري الثاني في 25 مايو 1969م.
رابعاً: يعكس الفصل الثامن طرفاً من أهميَّة الكتاب؛ لأنه يناقش مشكلة جنوب السُّودان، وجذورها التاريخيَّة، وتداعياتها السياسيَّة والعسكريَّة في الفترة موضوع الدراسة (1954 -1969م)، وكيف أسهمت مشكلة الجنوب في اندلاع ثورة أكتوبر 1964م؟ ولماذا كانت حاضرة في مداولات مشروع الدستور الإسلامي؟ ولماذا تُعدُّ مؤشر أداء لقياس فشل الحكومات الوطنيَّة في إدارة التنوع العرقي والديني والثقافي، وتحقيق التنمية المتوازنة بين المركز والأطراف؟ سردت المؤلفة مادة دسمة ومتنوعة للإجابة عن هذه الأسئلة ونظائرها، ثم خَلُصَت إلى نتيجة مفادها أنَّ الحكومات الوطنيَّة والأحزاب السياسيَّة الشماليَّة قد فشلت في "تقديم الحل الناجع لمشكلة الجنوب، ووضعه الدستوري والإداري"؛ وترتَّب على ذلك "انفصال جنوب السُّودان، وتكوين دولة الجنوب المستقلة." وبهذه النتيجة يبدو أنَّ فدوى تتفق مع الدكتور سلمان محمد أحمد سلمان، مؤلف "انفصال جنوب السودان، دور ومسؤوليَّة القوى السياسيَّة الشماليَّة"، والذي حمَّل القُوى الشماليَّة الوزر الأعظم لانفصال جنوب السُّودان.
خامساً: تكمن الأهميَّة الأخرى للكتاب في أنه يجسَّد صورة كاملة لمشكلات نظام الحكم الديمقراطي والحكم العسكري في السُّودان. إذ يناقش الفصل الخامس معارضة الحكم العسكري وانتفاضة 21 أكتوبر 1964م، وإلى أي مدى نجحت حكومة أكتوبر الانتقاليَّة في نسخة وزارة جبهة الهيئات الأولى ونسخة وزارة تحالف الأحزاب التقليديَّة الثانية. ومن هذه الزاوية تُعدُّ تجربة أكتوبر التجربة الأولى التي نجحت في إسقاط النظام العسكري، والتجربة الانتقاليَّة الأولى التي لم تفلح في تحقيق شعاراتها الثوريَّة القائمة على تفكيك مؤسسات دولة الاستعمار تحت شعار "التطهير واجب وطني"، وفك الرباط المصلحي بين المؤسسات القبليَّة في الريف والطائفيَّة في المركز، والتمكين لقُوى الحداثة على حساب القُوى التقليديَّة. يقدم هذا الفصل مادة تاريخيَّة وافرة لدراسة انتفاضة أكتوبر 1964م، التي وصف الدكتور منصور خالد شعاراتها الثوريَّة بالشعارات "الرغائبيَّة" التي لم تحدث أي تغيير جوهري على أرض الواقع، ودليله على ذلك أنَّ الذين تسنموا قمة حكّمها الديمقراطيَّة بعد الحكومة الانتقاليَّة كانوا يتقاتلون على "الثريد الأعفر"؛ أي يتعاركون في القضايا الهامشيَّة والمصالح القطاعيَّة التي لا تخدم المصلحة العامة. ولا جدال في أن هذه النظرة الناقدة لمخرجات انتفاضة أكتوبر 1964م تساعد الباحثين في عقد مقاربات تحليليَّة لتجارب الانتفاضات التي حدثت في السُّودان والفترات الانتقاليَّة التي أعقبتها؛ لمعرفة عناصر الشبه والاختلاف، ولتقييم الأسباب الكامنة وراء ضعف الحكومات الانتقاليَّة، وعجزها عن تحقيق الشعارات التي رفعتها ضد الحكم العسكري، ووعدت السائرين في ضوئها بالعودة إلى نظام حكم ديمقراطي مستدام.
سادساً: جاءت الفصول الأربعة الأخيرة من الكتاب (9- 12) عاضدة لسابقتها، ومكملة لصورة الفترة المعنيَّة بالدراسة والتحليل. فالفصل التاسع تناول تطور الحركة النسائيَّة في السُّودان (1952- 1969م)، بدءًا بتشكيل الاتحاد النسائي السُّوداني عام 1952م، ودور المرأة في الحركة الوطنيَّة، ونضالها ضد الحكم العسكري الأول، والإقرار بحقها الكامل في الانتخاب والتصويت حسب قانون الانتخابات لسنة 1965م، وكذلك دورها الطليعي في البرلمان، والحركة النقابيَّة، والصحافة المقروءة (مجلة صوت المرأة). ويقدم الفصل العاشر إضاءات عن مرتكزات السياسة الخارجيَّة في السُّودان، ومدى تأثرها بالمنطلقات الأيديولوجيَّة والإرث التاريخي للحاكمين في الخرطوم، ودرجة استجابتها لمتطلبات الواقع السياسي الإقليمي على المستويين العربي والإفريقي. والفصلان الأخيران (11 و12) فيهما ربط واضح بين التوسع الأفقي والرأسي في المؤسسات التعليميَّة والطبيَّة والثقافيَّة من طرف، والتطور الاقتصادي من طرف ثانٍ. وتبرز مناقشات المؤلفة ضعف أداء الحكومات الوطنيَّة المتعاقبة، التي "اتجهت إلى التوسع داخل الإطار نفسه الذي كان سائداً قبل العام 1956م، ولم تعمل على إدخال أي تغييرات جذريَّة في مسيرة الاقتصاد السُّوداني، وفشلت في خلق بنية تحتيَّة تُعَدُّ شرطاً ضرورياً للنمو. كما أن الاستراتيجيَّة الضمنيَّة للخطة العشريَّة كانت تهدف إلى تطوير الهيكل الحالي للبلاد وتنميته أكثر من تغييره جذرياً." أما بالنسبة إلى التعليم فترى المؤلفة أنَّ الفترة المعنيَّة بالبحث قد "تميزت بعقد المؤتمرات، وتكوين اللجان من أجل الإصلاح التعليمي وتقييم التعليم؛ إلا أن معظم توصياتها بقيت دون تنفيذ، ولم توضع فلسفة وسياسات واضحة للتعليم، كما كان الصرف على التعليم من بنود الدرجة الثانية عند الحكومات المتعاقبة ... وكان لعدم الاستقرار السياسي دور كبير في عدم تقدم مسيرة التعليم في البلاد بصورة متكاملة ومرضية. كما كان التقدم والتنفيذ لمشروعات التعليم والصحة في الخطة العشريَّة مخيباً للآمال، وكان ذلك إلى حدٍّ كبير بسبب الضغوط على الموارد الماليَّة والإداريَّة."
سابعاً: تتجسَّد أهميَّة هذا الكتاب في قول المؤلفة نفسها: "قصدتُ لمادة هذا الكتاب أن تصبح مرجعاً مُفصَّلاً وموثقاً للطلاب والباحثين، تعينهم على السعي الأكاديمي والبحث العلمي... وقصدتُ أيضاً أن يكون مرجعاً للشباب الذين لم يعاصروا أحداث تلك الفترة المضطربة، ولم تتح لهم فرصة الاطلاع المعرفي اللازم." اعتقد أن المؤلفة قد أصابت هدفها بجدارة بإصدار هذا الكتاب المرجعي، الذي يُؤرخ لفترة مفصليَّة في تاريخ السُّودان المعاصر. وإلى جانب السعة والتفصيل، فإنَّه حقاً مرجع موثق، وتشهد على ذلك حواشيه الطوال، وثبت مراجعه ومصادره المتنوع، والذي يحوي الوثائق الأرشيفيَّة المنشورة وغير المنشورة، والمقابلات الشخصيَّة، والمذكرات والسير الذاتيَّة، والصُحف التي كانت تصدر في الخرطوم آنذاك، والمراجع الثانويَّة ذات الصلة بالموضوع. فوق هذا وذاك، فإنَّ موضوع الكتاب ينبع من أعماق تخصص المؤلفة الدقيق، ويرتبط بخبراتها المتراكمة في الإشراف على أطروحات علميَّة ذات تقاطعات مشتركة مع اهتماماتها البحثيَّة. وبناءً على ذلك أحسنت الأستاذة فدوى اختيار الموضوع، الذي استقام منهجه على استقراء الأحداث التاريخيَّة من مدوناتها ومظانها المصدريَّة، ثم تفسيرها، ونقدها، وتحليلها، وإعادة تركيبها بصورة توافق الواقع الذي تشكلت فيه.
وفي الختام، تبقي لي كلمة أخيرة مقصدها أنَّ الأستاذة الدكتورة فدوى عبد الرحمن علي طه بإنتاج هذا السفر العظيم في موضوعه قد أسهمت في دحض الدعوة إلى "إعادة كتابة تاريخ السُّودان"، الدعوة التي يتشدق بها دعاة الفهم البطولي للتاريخ، أو الذين يرغبون في كتابة التاريخ لخدمة تطلعاتهم السياسيَّة، أو الذين يعتقدون أنَّ كتابة التاريخ ضرب من ضروب التأليف في التربية الوطنيَّة، بغية تنمية إحساس النشء بحبّ أوطانهم، والانتماء إليها، والولاء لرموزها. إنَّ عمليَّة إعادة قراءة تاريخ السُّودان عمليَّة مستمرة، يقوم بها نخبة من المؤرخين في صمت لا تنازعه دخنة ضوضاء، أو جلبة كسب سياسي. والدليل على ذلك أنَّ الأستاذ الدكتور يوسف فضل حسن قد قضى ستة عقود في تحقيق مخطوطة كاتب الشونة، التي أصدرها في العام الماضي (2018م) بعنوان "تاريخ ملوك سنار والحكم التركي المصري في السودان"؛ لتكون مصدراً مرجعياً؛ يساعد الباحثين في إعادة قراءة تاريخ العهد السناري والإدارة المصريَّة-التركيَّة في السُّودان. وكذلك أنتج القدَّال "تاريخ السُّودان الحديث" في العام 1992م؛ وها هي الأستاذة فدوى تواصل المشوار بإصدار "تاريخ السُّودان المعاصر، 1954- 1969م"، الذي يُعدُّ بلا منازعٍ إضافة نوعيَّة للمكتبة السُّودانيَّة. آمل أن تتواصل حلقات هذه السلسلة بإصدار كتاب ثالث عن "تاريخ السُّودان المعاصر، 1969- 2019م". التهنئة الصادقة للأستاذة فدوى على إنتاج هذا السفر المرجعي القيم موضوعاً، ومنهجاً، ومصدراً؛ والبُشرى للطلبة والباحثين والقارئين بصدور تاريخ السُّودان المعاصر، 1954م- 1969م، الذي يحمل بين دفَّتيه مادةً علميَّةً دسمةً، وجديرةً بالقراءة والتأمل.
قريباً بالمكتبات
الناشر: دار مدارك للطباعة والنشر (الخرطوم)
ahmedabushouk62@hotmail.com