تكمن مساهمة هيغل الفلسفية في نظرته الشاملة ، ودفاعه المستميت عن استمرارية الفلسفة ، فهو لا يقلل من أهمية الفلسفات السابقة ، ولكن يعتبر الفلسفة الحديثة نتاج كل الفلسفات السابقة ، والتي تستوعبها وتضيف الجديد ، عليه ما زال هيغل ومنهجه الذي يري الظواهر في حركتها وتطورها وشمولها، يقف حائط صد أمام فلسفات ما بعد الحداثة التي تنظر للظواهر في عزلتها عن الأخرى.
معلوم أن هيغل(1770- 1831م) اسهم في تطوير المنهج الديالكتيكي، الذي ينظر للظواهر في شمولها وحركتها وتطورها، ويتعارض مع الحقيقة النهائية، يقول هيغل: ( كل الفلسفات حقة وباطلة، لم تدحض اى فلسفة، مادحض ليس هو مبدأ فلسفة معطاة، بل فقط فكرة أن هذا المبدأ أخير، انه التعيين المطلق)(هيغل: المختارات - الجزء الثاني- ترجمة الياس مرقص، دار الطليعة بيروت، يونيو 1978م: ص 165). كما كان هيغل يشدد علي أن( الفلسفة الحديثة هي نتاج كل الفلسفات السابقة، ولذا لابد أن تتضمن مبادئ من كل منها) ( هيغل: الانسكلوبيديا الفقرة (13)). وعن الحقيقة والتاريخ يقول هيغل : ( يجب أن نكون مقتنعين بأن الحقيقة لها كطبيعة أن تشق دربها حين تكون ساعتها قد اتت، بسبب ذلك، انها لاتظهر ابكر مما يجب، بدون جمهور علي مايكفي من النضج، من جهة اخري كثيرا ما ينبغي ان نميز الجمهور عن الذين يعطون انفسهم بوصفهم ممثليه والناطقين باسمه). وعن الحقيقة ايضا يقول هيغل: ( الحقيقة هي الهدف الاسمي للفكر، ابحث عن الحقيقة ففيها يكمن الخير، ومهما كانت الحقيقة، فانها أفضل من كل عداها، والواجب الأول للمفكر هو الايتراجع امام أي نتائج، فيجب أن يكون مستعدا للتضحية بأعز افكاره امام الحقيقة، فالخطأ مصدر كل دمار، والحقيقة هي الخير الاسمي ومصدر كل خير). وكان هيغل يؤكد علي انه ليست ثمة حقيقة مجردة، فالحقيقة ملموسة. كما كان يشير الي أنه ( اذا اردت تحطيم فكرة، فلنبدأ بتحليلها الي عناصرها الأولية). نقد ماركس وانجلز لهيغل : وفي مقدمة الطبعة الثانية ل (رأس المال) ينتقد ماركس هيغل حول عملية التفكير. يقول ماركس( ان عملية التفكير عند هيغل – وهي عملية حيوية يقوم بها الدماغ الانساني- تتحول الي ذات مستقلة وتعتبر خالقة العالم الواقعي، ويعتبر العالم الواقعي مجرد الشكل الخارجي الظاهري(للفكرة). أما بالنسبة لي، فان الأمر علي العكس منذ ذلك، فالمثال ليس سوي العالم المادي منعكسا في الدماغ الانساني ومترجما لأشكال الفكرة). علي ان الديالكتيك، كما أشرنا سابقا، تطور علي يد هيغل الذي بسط قوانين الديالكتيك الثلاثة بطريقته المثالية علي انها قوانين للفكر وحده. وتم توسيع مفهوم الديالكتيك بالمعني الفلسفي علي يد ماركس وانجلز واصبح يعني: ( علم القوانين العامة لحركة وتطور الطبيعة والمجتمع الانساني والفكر). يقول انجلز في مؤلفه ديالكتيك الطبيعة: (ان المقولات الديالكتيكية غيبية الطابع عند هيغل الذي يصوّرها أولية، أما ديالكتيك العالم الواقعي عنده، فليس الا ظلالها، ولكن الامر في الحقيقة هو علي النقيض من ذلك ، ان ديالكتيك الفعل ليس الا انعكاسا لاشكال حركة العالم الواقعي للطبيعة والتاريخ علي السواء). يواصل انجلز ويقول: ( اذن من تاريخ الطبيعة وتاريخ المجتمع البشري استخلصت قوانين الديالكتيك، وهذه القوانين ليست سوى القوانين الاكثر عمومية لهاتين المرحلتين من التطور التاريخي ، وكذلك للفكر ذاته ايضا، وفي الحقيقة، فانها ترجع في جوهر الامر الي القوانين الثلاثة الآتية: • قانون وحدة وصراع الاضداد • تحول الكم الي كيف. • قانون نفي النفي. هذه القوانين الثلاثة كلها بسطها هيغل بطريقته المثالية علي انها قوانين للفكر وحده. ان الخطأ يكمن في أن هذه القوانين لم تستنتج من الطبيعة والتاريخ، بل فرضت عليهما من فوق علي انها قوانين للفكر، فاذا قلبنا الأمر يصبح كل شئ بسيطا. وبذا تم وضع الديالكتيك علي قدميه بعد أن كان واقفا علي رأسه عند هيغل)( انجلز: ديالكتيك الطبيعة).
ومعلوم ان المنهج الديالكتيكي ظهر الي جانب الفلسفة الغربية في القرن الثامن عشر، والذي بلغ ذروته عند هيغل الذي عاد الي الديالكتيك كاعلي شكل من أشكال التفكير، ومعلوم ايضا ان الفلاسفة اليونانيين القدماء كانوا ديالكتيكيين بالفطرة، كان ارسطو اكثر العقول بينهم شمولا، وقد بحث هيغل بالفعل الأشكال الأكثر جوهرية للتفكير الديالكتيكي. وعن هيغل يقول انجلز: ( دوره الكبير يأتي من أنه قدم لأول مرة كل العالم الطبيعي والتاريخي والروحي في شكل عملية، اي في حالة حركة مستمرة وتغير وتحول وتطور، ويحاول أن يكشف عن الترابط الداخلي لهذه الحركة والتطور). يواصل انجلز ويقول( بالنسبة لنا لايهمنا هنا أن هيغل لم يحل تلك المهمة، ففضله التاريخي ينحصر في أنه طرحها، وهي مهمة من المستحيل علي فرد واحد أن يحلها). يواصل انجلز ويقول( ان نظاما شاملا لمعرفة الطبيعة والتاريخ يتناول كل شئ وكل زمان، انما يتناقض مع القوانين الأساسية للفكر الديالكتيكي، مع ان هذه الحقيقة لاتنفي ابدا، بل تفترض أن المعرفة المنظمة لمجموع العالم الخارجي يمكن أن تحرز نجاحا ضخما في كل جيل جديد)( انجلز: فورباخ ونهاية الفلسفة الالمانية الكلاسيكية- ماركس وانجلز المختارات، دار التقدم ، موسكو 1970، ج 4 ، ص 30). يواصل انجلز ويقول( كان هيغل عظيما وعملاقا في الفكر، فالديالكتيك والمنطق والتاريخ والقانون وعلم الجمال وتاريخ الفلسفة، كل هذه العلوم اكتسبت سيماء جديدة بفضل الدفعة التي قدمتها أفكار هيغل. وشكلت فلسفة هيغل وأرست دعائم فكر رجال من امثال شتراوس وبرونو باور وهانز ولاسال وماركس وانجلز. وخلاصة مانود أن نقوله في هذا المقال: 1- تكمن اهمية هيغل، اضافة لتطويره للمنهج الديالكتيكي ، في العلوم الاجتماعية في نظرته لكل ظواهرها في حالة تطور وتغير، اى من زاوية ظهورها للوجود وزوالها، وانبعاثها من جديد بشكل ارقي من السابق. 2- الفلسفة هي التعبير العقلي عن عصرها، وكل فلسفة تم تجاوزها في عصر بعينها كانت حقيقة عصرها، وبالتالي، فان هيغل بحكم منهجه الديالكتيكي لم يستبعد المذاهب الفلسفية السابقة عليه ويعتبرها مجرد مذاهب قديمة ومجرد سقط متاع لانفع فيه، أي أن هيغل لم يكن عدميا، بل يدعو لانطلاق الجديد من القديم، بعد نفيه ديالكتيكيا. 3- اعطي هيغل العلوم الاجتماعية دفعة قوية، وبالتالي سوف يظل ديالكتيك هيغل حاضرا، في وجه دعاوي فلسفات ما بعد الحداثة التي تحاول أن تلغي كل التراث الفلسفي والعقلاني الذي اسهم في ارسائه فلاسفة من امثال هيغل.