نقطف من مقال دكتور" التجاني عبد القادر" حول الثنائيات: {ولئن كنت تظن أن حالتنا في السودان أقل سوءا فلا تعجل. ما عليك إلا أن تغمض عينيك للحظة لتتأمل بعقلك ما فعلته بنا ثنائية علماني/اسلامي خلال الخمسين سنة الماضية (1965- 2015} عندما لخص دكتور التجاني تاريخ السودان منذ الستينات إلى الإنقاذ، إلى مجرد ( ثنائيات )، فهو غرام بسيادة مصطلح (ثنائيات) وإعجاب به، على حساب التحليل العميق لتناقضات السياسة السودانية وصراع طبقاتها المتشكلة، وأحزابها السياسية وحياة القاطنين أطرافها وأشباه المدائن. وهو بعدٌ عن النظر الأكاديمي ووسائل المباحث الحديثة، التي تتطلب الصبر، لا الرسائل الأكاديمية التي يتركها أصحابها، ويخوضون كما يخوض العامّة.
(2) لن يغسل الإخوان المسلمين جرثومة انتماءاتهم، ولن نطلب منهم ذلك، لأن العلاج من تلك الانتماءات التنظيمية الأمنية كالعلاج من الأمراض المستوطنة، التي تترك آثارها في النفوس كما في الأجساد. صعب هو الهجرة عن التنظيم، ولو أفسد أصحابه، فهؤلاء يظنون أن العيب في التجربة السودانية. وأن معارضتهم تجربة سلطة إخوان السودان، هي كمرور اليد الباردة "تطبطب" على كتف التنظيم، ولا تعيد النظر في أساس الحركة الإسلامية ومن ثمة دراستها بنقد. إن الحركة النقدية لا يعرفها المنتمون للتنظيم، مهما صعدوا في سلم الأكاديميات، فهي في نظرهم تقيّة يصلون بها إلى المراتب الطبقية العالية، ثم يقذفون سلم الصعود.
(3)
يشير الدكتور" طه حسين " في كتابه الفتنة الكبرى، ويعزي أسبابها إلى ثلاثة: (العقيدة و القبيلة و الغنيمة). وهي ذات مفاتيح معرفة الأزمة السودانية، بل هي ذات القواعد التي تبناها تنظيم الإخوان المسلمين وأدخلها في جيبه الأسود وفي السودان منذ انقلاب 1989، وجعل سيادتهم وحدهم وإقصاء الآخرين عن سدة الحكم، بل وتعذيب واغتيال بعضهم، رغم أنهم كانوا أقليّة، فبدل أن نتطور كما تطورت ماليزيا أو كوريا الجنوبية، رغم علمنا أن الموارد التي تزخر بها أرض السودان، أكثر غنى من موارد الدولتين، ولكن تدهور السودان وعاد إلى الخلف دهوراً، وبشّر صناع التنظيم بأمرين غريبين ومتناقضين في ذات الوقت: أن يعودوا بالوطن إلى دولة الخلافة الأولى- أي التخلف منهاجاً وهدفاً- وفي ذات الوقت يبشرون بدولة حضارية!. وسقط كل ذلك بعد تجربة الأتوبيا الحالمة على أرض الواقع.
(4)
ربما كان دكتور التجاني عبد القادر، ودكتور الطيب زين العابدين، ودكتور الأفندي، يمثلون مجموعة أخرجها النهج الثقافي تدريجياً من الحركة الإسلامية. فقد عرفوا بؤس الحركة الإسلامية الفكري، وتبني نهجت ( العقيدة كشعار- والقبيلة كمرجعية الثقة - والغنيمة كجزاء )، ولكنهم جميعاً يعتقدون بغموس الدين في السياسة، وليس لهم فكاك من رغباتهم الدفينة من أن الدين والخلافة هما الحل. لم يقرئوا هم تاريخ الدين والخلفاء الحقيقي، ولم يستخدموا النقد ومناهجه طلباً للمعرفة، واكتفوا بالرجوع للمصادر الإسلامية من فقهاء ومجتهدين، طوال عصور الظلام. لم يعرفوا أن حروب الخلفاء كانت تسعى وراء الغنيمة، وأن تمدد الدولة الإسلامية كان مسعى لإمبراطورية الخلافة التي كانت وسيلتها السعي للغنيمة.
(5)
ربما يتشكك كثيرون في موثوقية معرفتنا لما كان يحدث في التاريخ على إطلاقه، ومدخل وسائل تدوّين النصوص التاريخية. لن نرغب إعادة كتابة التاريخ، لأن تلك من رذائل أصحاب الهوى وأصحاب الأغراض الذين يرغبون تغيير التاريخ لمصالحهم الخاصة. وأفضل السّبل إلى دراسة التاريخ هو الإحاطة بما كان يجري في زمانه وفي مكانه. إن تدوين التاريخ يتعين أن يتخلّص من حبائل مكر أصحاب الشأن والسلطة من طرف أو المُحبين والكارهين من طرف آخر. لدينا مناظير متطورة لغربلة النصوص التاريخية، والخروج بمعرفة الحقائق قدر المستطاع. التزوير أمرٌ غلبت عليه عواطف الناس بعد مرور دهور على الأحداث. إن الدراسة النقدية تعوّدَها أصحاب إعادة معرفة حقائق التاريخ، ولكن تخليصنا من منظار الفلكلور وآليات مناهجه، ربما لم يعتاد عليها المُدققون عندنا.
(6)
"عبدالله ابن عباس" ( حبر الأمة ) وبيت المال: أورد الدكتور" طه حسين" في كتابه الثاني عن " الفتنة الكُبرى": كتب الخليفة "علي بن أبي طالب" إلى عامله وابن عمه "عبد الله بن عباس " بعد أن كان عامله على البصرة، عندما أخذ من بيت مال المسلمين في البصرة ما يقارب الستة ملايين درهم لنفسه، وذهب إلى مكة ليعتكف بها، وقد كتب إلى الخليفة "علي بن أبي طالب" يستعفي نفسه:
{ أما بعد. فإني كنت أشركتُك في أمانتي، ولم يكُن في بيتي رجل أوثق في نفسي لمواساتي ومؤازرتي وأداء الأمانة إليّ. فلما رأيت الزمان على ابن عمِّك قد كَلب، والعدوَّ عليه قد حَرب ، وأمانة الناس قد خَرُبت، وهذه الأمّة قد فُتنّت، قلبتَ له ظهر المِجنّ!، ففارقته مع القوم المفارقين ، وخذلته أسوأ خذلان الخاذلين، وخنتّه مع الخائنين. فلا ابن عمك آسيت، ولا الأمانة أديّت، كأنك لم تكُن لله تُريد بجهادك، أو كأنك لم تكُن على بيّنة من ربّك. وكأنك إنما كنت تكيد أمّة محمد عن دنياهم أو تطلب غرّتهم عن فيئهم. فلما أمكنتك الغرّة أسرعت العدوّة، وغلظت الوثبّة، وانتهزت الفرصة، واختطفت ما قدرت عليه من أموالهم، اختطاف الذئب الأزّل دامية المعزى الهزيلة، وظالعها الكبير. فحملت أموالهم إلى الحجاز رحيب الصدر، تحملها غير متأثِّم من أخذها، كأنك، لا أبا لغيرك، إنما حزت لأهلك تراثك عن أبيك وأمك. سبحان الله ! أفما تؤمن بالمعاد ولا تخاف سوء الحساب؟ أما تعلم أنك تأكل حراماً وتشرب حراماً ؟ أو مَا يعظم عليك وعندك أنك تستثمن الإماء وتنكح النساء بأموال اليتامى والأرامل والمجاهدين الذين أفاء الله عليهم البلاد؟ فاتق الله وأدّ أموال القوم فإنك والله إلا تفعل ذلك، ثم أمكنني الله منك لأعذرنَّ إلى الله فيك حتى آخذ الحق وأرده وأقمع الظالم وأنصف المظلوم. والسلام} * ورد "عبدالله بن عباس" على كتاب الخليفة "علي" بكل استخفاف :
{أما بعد. فقد بلغني كتابك تُعظِّم عليّ إصابة المال الذي أصبته من مال البصرة، ولعمري إن حقي في بيت المال لأعظم مما أخذت منه. والسلام} * انظر كيف ردّ الخليفة " علي ابن أبي طالب" على ابن عمه " عبدالله ابن عباس ":
{ أما بعد. فإن من أعجب العجب تزيين نفسك لك، أن لك في بيت مال المسلمين من الحق أكثر مما لرجل من المسلمين. ولقد أفلحت إن كان ادعاؤك ما لا يكون، وتمنيك الباطل يُنجيك من الإثم. عمّرك الله ! إنك لأنت البعيد إذاً. وقد بلغني أنك اتخذت مكة وطناً وصيَّرتها عَطَناً واشتريت مُولَدَات المدينة والطائف تتخيَّرهنّ على عينك وتُعطي فيهنّ مال غيرك، والله ما أحب أن يكون الذي أخذت من أموالهم لي حلالاً أدعه ميراثاً، فكيف لا أتعجّب اغتباطك بأكله حراماً. فضحّ رويداً. مكانك قد بلغت المدى. حيث ينادي المُغتّر بالحسرّة، ويتمنى المفرط التوبّة، والظالم الرجعة، ولات حين مناص. والسلام }
(7)
لسنا ضد حرية الاعتقاد أياً كانت، ولكن للدين حدوداً تقف عندها تاركة المجال للعلم. ولسنا في وضع نقبل فيه بقوانين جنائية ومعاملات أو قوانين الأحوال الشخصية والزكاة، تطبق علينا وهي ثابتة منذ أكثر من 1400عام، أجرى عليها فقهاء السوء تفاصيل من صُنع أهوائهم. وصاروا إلى اليوم يأخذون بالفتيا، في الأمور التي لم يستطيعوا وجود أسانيد لها. لقد آن لنا أن نزيل الغشاوة ونرى بعين واضحة، تفاصيل مكر إلباس الدين لبوس السياسة، أو حمل القرآن الكريم على الرماح لبطش الآخر، وتجريده من الوطنية بوصمه بالكفر.