الشاعر خضر محمود سيدأحمد (1930- 2019م): آخر عملاقة الجيل الرائد لشعراء أغنية الطنبور
إنَّ البشر يولدون ويموتون في كل لحظة، وتمتد أعمارهم بين فرحة الميلاد وفاجعة الموت؛ ويتعاظم فقدهم عندما يكون الفقيد شاعراً، كان يضئ ليال الآخرين بالحب والأنس، ويضع على طرقاتهم قصائده الحسان، لينشدها العابرون حسب مناسباتها المتماهية مع قضاياهم الحياتية بضروبها المتعددة. ونحن في هذا اليوم الثلاثاء الموافق 3 ديسمبر 2019م، نفقد شاعراً فطحلاً، عاش حياةً عامرةً بالعطاء والإبداع في فضاءات الأدب المنظوم، حيث ترك إرثاً شعرياً جدير بالعناية والتوثيق. والفقيد هو الشاعر خضر محمود سيدأحمد، الذي جادت قريحته بلوحات شعرية رائعة، انطلقت من بيئات قوامها خرير مياه النيل عند ساعات الغروب، وخضرة ضفافه العسجدية في نواحي السافل، ووجوه حسناواته النواعم في أعمار البكور، ورعود الصعيد وأمطاره الهواطل في سنار، وإخوانياته في جوبا ومريدي بجنوب السودان. إذاً من حقنا أن نستفسر ونسأل: من أين أتى هذا الشاعر الطموح؟ وإلى أي جيل ينتمي؟ وما فلسفة في الشعر ونظم القصيد؟ ما أشعاره التي خلَّدت منه علماً لامعاً في قاموس أغنية الطنبور، ونجماً ساطعاً بين أقرانه أمثال المرحوم حسن الدابي والمرحوم عبد الله محمد خير (شيخ العاشقين).
من أين أتى الشاعر خضر محمود؟
أتى الصبي خضر من حصاية جده العمدة أحمد شوك بمنطقة قنتي، ومن صلب الرجل العابد محمود سيدأحمد أمامه الذي يُرفع نسبه إلى عشيرة المشاويين فرع أولاد نصر، ومن ترائب الحاجة الصالحة فاطمة بت أحمد شوك، التي نذرت طرفاً من عمرها الزاخر بالعطاء لصون مسجد القرية العتيق ليكون على طُهره ونقائه. وُلُد خضر في هذه البيئة الصالحة العابدة بعد ثلاثة أعوام من تأسيس مشروع الكُلد الزراعي عام 1927م، وفي مرحلة بدأت تشهد المنطقة تحولاً تدريجياً في أنماط الزراعة التقليدية. تفتحت عيناه على قواديس السواقي التي كانت خير أنموذج لمفهوم "الاعتماد على الذات"، وأفضل تجسيد لشعار "نأكل مما نزرع"، فضلاً عن أنها ظلت تشكل معلماً بارزاً من معالم قرى الشمال المصطفة على ضفاف النيل، حيث تشكلت حولها حياة الناس، وعاداتهم الاجتماعية، وقيمهم الاقتصادية. تعرَّف خضر في هذه البيئة الزراعية على هندسة الساقية، وتدابيرها، وأسماء أطرافها؛ وتفقه في قراءات مناسيب النيل في أوقات الدميرة، وأساليب الري، والزراعة، وتربية الحيوان؛ وشارك أهل القرية في أساطيرهم ومعتقداتهم التي أفرزها التصاقهم الوجداني بالساقية، وجعلهم ينذرون إليها النذور، ويعلقون عليها التمائم بغية الفال الحسن. وإلى جانب هذه المعارف التراثية حفظ خضر طرفاً من أغاني "الأروتي" في الفجراوي، والضحوي والعشَّاوي، وإنشاد "التربالة" في مواسم الحصاد، وإعداد البوقة (أي الأرض) للموسم الزراعي القادم، وتعرَّف على معايير قسمة العائد المادي بين الإنسان، والحيوان، والآلة.
في هذه الفضاءات المعطرة بأنفاس المزارع المروية، وخرير جداولها الدافقة على جنباتها، وأنغام قماريها المغردة على أشجار نخيلها الباسقات، بدأ الخضر ود محمود ود سيدأحمد تعليمه الأولي حواراً بخلوة الشيخ مصطفى سيدأحمد بابوش، التي كانت تقف شامخة بجوار مسجد القرية العتيق، حيث نداءات آذانه التي أضحت تشكل جزءً من وجدان القرية النابض في مغاربها وعشياتها، وعندما يتبين خيط صبحها الأبيض من سواد ليلها الساكن، معلناً بزوغ فجر جديد وأداء صلاة مفروضة، وتجديد يومٍ باكرٍ في حقول السواقي العامرة بعطاء صمودتها، وترابلتها الذين شمروا عن سواعد جدهم لتحقيق كسب مشروع، ورزق حلال طيب لذراريهم وعشائرهم الأقربين. وبين خلوة الشيخ مصطفى سيدأحمد وخلوة الخليفة أحمد كورينا درس الخضر طرفاً من القرآن الكريم، ثم آثر الهجرة إلى خلاوى أبو دوم قشابي، حيث درس على فضيلة شيخها محمد طه إدريس مبادئ اللغة العربية، وطرفاً من الفقه على مذهب الأمام مالك بن أنس، وشرع أيضاً في حفظ القرآن الكريم. وقبل أن يستقيم ميسم حفظه للقرآن الكريم تمرد الحوار الخضر على "القرآية أم دق"، وطلق حلقات الذكر والذاكرين، وهجر نيران الفيض القرآني، دون إذعان لرغبة والديَّه وأهل قريته الذين كانوا يحلمون بتخرجه عالماً بين ظهرانيهم. وبعد قرابة خمس سنوات من الهجر والعزوف الشبابي في طلب العلم ومجالسة العلماء قرر صاحبنا الهجرة إلى الصعيد، للبحث عن رزق أفضل، كعادة أقرانه من شباب ذلك الجيل الفريد. وبفضل هذه الهجرة عاش شاعرنا مشدوداً بين قيم الصعيد والسافل، إلى أن وضع عصا الترحال عن العاتق بضاحية الشقلة بمحلية الحاج يوسف بالخرطوم بحري.
الخضر من المسيد إلى نظم القصيد
ظهرت ملكة خضر الشعرية منذ نعومة أظفاره، وعمره بين العقد الأول والنصف الثاني، إذ أنشد قصيدة اسمها "المجمّر لونها"، ومطلعها يقول:
المجمل لونها لي بت يحمد العرجونة
الفنجان صغير في عيونها
والفضة المصفا سنونها
والدهب المجمر لونها
****
منك نظرة يا شفافة
لو كان المريض يتعافى
أنت المنقة والجوافة
فهذه القصيدة رغم بساطة كلماتها، إلا أنها تدل على ملكة الشاعر الأدبية الباكرة، التي لم يحبذها والده العابد الشيخ محمود سيدأحمد آنذاك، لأنه كان يمنيَّ نفسه أن يوظف ابنه الخضر تلك الملكة الأدبية في حفظ القرآن وتجويد التراث الإسلامي، ومن ثم كان رد فعله سالباً عندما سمع بهذه القصيدة، إذ أنه شد وثاق الشاعر، وعاقبه على وثبته العفوية في قرية كانت تنظر إلى مثل تلك الإشراقات الرومانسية والغزل الصبياني البريء بعين الريبة والحذر. فلا عجب أن هذه العقوبة قد هيجت شيطان شعره الجامح، ودفعته لإنشاد قصيدته المشهورة بـ"نوارة قنتي" عام 1957م، والتي شكلت انطلاقة نوعية في تاريخ حياته الأدبية وتطور أغنية الطنبور، علماً بأن الشاعر الطموح لم يكن طالب شهرة، أو متكسبٍ بترويج أشعاره. وقد نظم تلك القصيدة بكفاءة أدبية عالية، قلد فيها نظم الموشحات الأندلسية؛ لأنه جعل سُداها يعتمد على حزمة من القوافي المتناوبة، والمتناظرة وفق نسق شعري جذَّاب، يعلو فيه جرس الطباق، وسلاسة الجناس، والاستعارات المكنية، والرمزية الجامعة بين صفات المحبوبة وتشبيهاتها بجماليات البيئة الزراعية المعششة في مخيلة الشاعر، ومشاعره المسكونة بحب الريف، فضلاً عن محاولاته الدءوبة لإخراج مفهوم الحب الذي استهجنه الناس أجمعين إلى دائرة المباح التي تجعل اللقاء بينه والمحبوبة لقاءً ميسوراً، لكن لا حياة لمن ينادي في باحات ذلك المجتمع الريفي وتقاليده العصية. وفي إطار هذه المقدمة الموجزة نعرض أبيات القصيدة كاملة إلى القارئ الكريم، علها توضح ما ذهبنا إليه من زوايا مختلفة، وتعكس مجمل اللوحات الفنية التي نظمها الشاعر، مُعبراً عن تيمه المكتوم، وعشقه الصادق لي "قصيبة لفت الجزيرة".
نوارة قنتي
جوهرة الشباب إنتي
ورداً نادي....... ومشتي
بي ألوانك......... بهرتي
وبي أنوارك...... جهرتي
وزي المارشال ظهرتي
من صيد الوادي... إنتي
هبلتيني......... وجفلتي
*****
الفي قلبي.... مطبوعه
شتيلة منقة.... مزروعه
صغيره ولينات... فروعه
سألت غفيره من نوعه
قال لي.... ليك ممنوعه
والخوه معاك مقطوعه
*****
قصيبة.... لفت الجزيره
خدره وقاسي تفسيرها
ودايماً... غضبان غفيرها
يلاقي الناس.. بتكشيرها
بفكر...... ألف تفكيره
وبقوم أفتح معا السيره
*****
المحجور.........إذن صرفو
خدار متاكي... في جرفو
ياء الكية ..........من حرفو
وحاجبو هلال كحيل طرفو
كل العشاق.......... يغرفو
ويشربوا .. من بحر وصفو
*****
في الحِلّه .... الدوام حافلة
باقوم لها ....أسبق القافلة
ولي الله بصلي في النافلة
ألقاك ........في دلال رافلة
وبعيد رامي الهدم... غافلة
يا صيدة الخلا .......الجافلة
*****
سلام يا الكوكب... الضاوي
وسلام يا الفرع ....المناوي
وسلام يا أم حباً ...سماوي
حبك لي جسمي.. شاوي
ومألِم في القلب..... كاوي
وشُفتِك ليّ.......... بتداوي
*****
تعال أسمع ليْ....... روايه
وشوف السبب......... أذايا
جميلة جماله..........للغايه
وعظيمة ......ومخلوقة آيه
فريع مشتول ....بي عنايه
فرهد وقام في... الحصايه
*****
حبِّك فوق........ من العادة
وجمالك راجح......... زيادة
ولو كان خلُّوكِ........ سادة
تعطلي ناس في .. العبادة
فُصوده من النور ....مداده
وتطمِّع فيها........ حساده
*****
آه يا زهر ............الحديقه
النجفة الضوّت....... فريقه
حمامة الجبل .....الطليقة
مشيتك قاسي.... تطبيقه
وزي نغمات ......الموسيقه
وحرقتي العُشاق حريقه
*****
آه انا ديمه......... في أنّه
ومنك ما يقولوا .......جَنّه
أنت رمان منو....... أزمنا
جديد ما قام عند أهلنا
وجايبو ملاك ...من الجَنّة
وبروح لي أمو.... تتمني
*****
شبه الريل ...في خلاهو
وشبه الوزّ... في مياهو
وانا المكتول بي هواهو
ومن لونو ....ومن نداهو
بديع ماب أقدر ....غناهو
دايماً أكتبو ....وأنساهو
*****
خلاص خليتو ..... ميدانك
انا المارِضْني....... رُمانك
ومعلِّقه روحي.. طيقانك
وشايته مزاجي سيقانك
ومحير عقلي.... لمعانك
وتسريح شعرك ودهانك
لا غرو في أن هذه الموشحة المكتنـزة جمالاً والمنبسطة عشقاً قد وجدت قبولاً واسعاً في الوسط الشعبي آنذاك، حيث تداولها الناس في مجالس إمتاعهم ومؤانساتهم الراتبة تحت أشجار نخيلهم السامقات، وعلى تلال رمال حلالهم المصطفة على ضفاف النيل، ولياليهم البيضاء بيض قمرها الساطع. في ذلك الوقت كان الإعلام يقوم على التداول الشفهي، متواتراً أو مشهوراً، لكنه لم يخرج عن دائرته المحلية إلى مصافي الشهرة القُطرية الواسعة؛ إلا عندما صدح الفنان النعام آدم "بنوارة قنتي" عام 1959م، وجعلها أنشودة يتغنى بها أهل البوادي والحضر في مواسم أفراحهم، ويربطون موطنها بتلك القرية الوادعة على ضفاف النيل (قنتي)، دون أدنى إشارة إلى شاعرها الطموح الذي أنتج لهم تلك الموشحة ذات الجرس الشجي، والقوافي الأندلسية الحالمة، أو تصريح مباشرٍ باسم المحبوبة، التي كانت تمثل ذروة سنام مقصد الشاعر وهدفه النبيل؛ لأن التصريح بأسماء الحسان كان يعد من المحرمات الخمس في ذلك الريف القصي، المتنكر لحقوق العاشقين.
الشاعر الطموح بين سندان العرف ومطرقة العشق
عاش الشاعر حضر محمود كسائر أبناء جيله في ذلك المجتمع الذي كان يَعُدَّ البوح بالحب سلوكاً ناشزاً عن تقاليد الناس وأعرافهم، وإن الغزل الصريح في حسناوات القرية نوع من أنواع الكفر الصراح، لذلك واجه شاعرنا النقد والعتاب من أولئك الذين سلخوه بألسنة حداد، وصنفوا أشعاره الغزلية في قائمة المحظورات؛ إلا أن تلك المواقف الناقدة لم تمنعه عن مواصلة مسيرته الشعرية التي انداحت دائرتها ما وراء أسوار قريته الحصينة. وعند ذلك المنعطف خطاب المعارضين برائيته المشهورة بـ "الدِفَيْق"، والتي يقول مطلعها: "مَقْسُومْ لِيَّ ومُقَدَّر ... الحُبْ والغَرَامْ مَكْتُوبْ مَسَطَّر". وبذلك حاول أن يقدم إليهم عرضحال ضافي البيان، عرض فيه واقعه العاطفي المتأزم الذي لا يمكن معالجته بالكتمان، والتمس لنفسه عذراً عند أولئك الذين لا يقاسمونه الشعور نفسه، ولا يحسون بإحساسه المُسيَّر في فيلق الحرمان، والذي لا يمكن الفكاك عنه إلا باستجابة صادقة من صاحبة الكيل الحسن، وأهلها الذين يقفون غفراً على سلوك العاشقين والطامعين في التقرب إليها زلفى. وفي ذلك يقول:
بي حُبُّو ابْتَلانِي ... عَلَيْ تَجَسَّر
غَيَّرْ حَالِي ... فِي أفْكَاري أثَّـر
*****
هَالِكْنِي الدُّقَاقْ... الشَّبَّ خَدَّر
طَالِقْ سَاخِي... مَا قَامْ مَكَـدَّر *****
عَارفْ حُبِّي لِيهُو .... اتْعَالَى وتَأمَّر
حَرَّقْ قَلْبِي ... فِي اللَّهَبْ المَجَمَّر
******
قالْ خَلاصْ أصْبَحْ أسِيرْ الحُبْ مَكَنْتَر
أقُولْ أنسَاهُو منْ حَظِّي المَعَسَّــر
******
أحِسْ بِي قلْبِي مَايِلْ لِيهُو أكْتــر
وانْفَلَتْ اللِّسَانْ لِي الدَّاسُّو فَسَّــر
******
ودَمْعَ العينْ... مَعَ ذِكْرَاهُو بتَّـر
وانْكَشَفْ المَخَبَّا ..... الكَانْ مَسَتَّر
******
القَالْ نِسينَاكْ ... غـَـشَّ زَوَّر
كِيفِنْ نَنْسَى حُبَّاً ... جَرْحُو غَوَّر
هكذا كان جرح تيم الشاعر الطموح جرحاً غائراً، حاول معالجته بخطاب ضمني إلى المحبوبة التي كانت تعيش في واقع لا يقدر أهله تطاول العاشقين بأعناقهم فوق أسوار قريتهم الحصينة، وخطاب رمزي آخر إلى ولي أمرها الذي كان يشكل موقفه المتعنت جزءاً من ذلك المجتمع الذي لا يقبل جدل الخطاب الصريح في قضايا العواطف الجياشة، وفي ذلك يقول:
يَقُوقِي دَبَاسَه فُوقْ كَرُّوقو زَمَّر
ومِنْ الطِّيرْ وقَفْ حَرَّاسَه شَمَّر
مَهَبْهِبْ دَابُو صَمَدُو عَلِيهو غَفَّر
يَنْهَرْ تُورُو عِنْدَ الشَّايَه حَــفَّر
بذلك قد استطاع الشاعر الطموح أن يفرض تحدياً غير مسبوق في ذلك المجتمع الريفي، إلا أن استجابة ذلك المجتمع والمعنيين بالأمر فيه كانت استجابة ضامرة، لم تلامس طرفاً من تطلعات الشاعر وطموحاته المشروعة، فكان جزاء عشقه أن أعطيت المحبوبة إلى صاحب حظوة آخر لم ينشد في شأنها قافية واحدة. ولذلك نعى الشاعر كيل حظه الباخس، في قصيدته المشهور بـ "شتل الكُرُش"، والتي ينشد في بعض مقاطعها قائلاً:
صدقني يا ملك النخيل غنينا لي ناس ما بساولك ظفر
غنينا بي آخر مزاج لي ناس يحبوهو الشكر
لكن وقت بقو للحصاد حرمونا منو وأدهو لي ناس كُتر
يا بختهم ديل ناس سعاد والدنيا مداهم شطر
وجزانا كان جرحاً بليغ فوضنا لي الله الأمر
وفضلنا صايمين السنين لليوم ده ما لاقين فطر
الشاعر خضر ومظالم الدهر الثلاث
عاش الشاعر خضر محمود ثلاث مظالم مرهقة على امتداد تاريخ حياته الأدبية العامر بالعطاء، ويأتي في مقدمتها حبه الصادق لذلك "الفريع المشتول بي عناية ... فرهد قام في الحصاية"، إلا أن خواتيمه لم تتبلور في شكل علاقة ثنائية قوامها المودة والرحمة، بل كانت على النقيض، إذ زُفت معشوقة إلى صاحب حظوة آخر، وبذلك أضحى الشاعر صائماً السنين دون أن يتوج ذلك الصوم بفرحة فطر ترد غربة ذاته الضائعة في بيداء عشقه العفيف. وتتجلى المظلمة الثانية في أن كل قصائده المغناة، مثل "نوارة قنتي"، و"فريع البان"، و"الفوسيب"، و"الدفيق"، كانت تُنشر وتُذاع باسم مغنيها الفنان المبدع النعام آدم دون أدني إشارة إلى الشاعر والملحن لمعظم قصائده، خضر محمود. فيبدو أن هذا الغبن الإعلامي قد دفع شاعرنا إلى رفع قضية حقوق أدبية ضد وزارة الثقافة والإعلام، في ستينيات القرن الماضي، وكسب القضية، ومنذ ذلك التاريخ أضحت أسماء الشعراء تذكر مع قصائدهم المغناة عبر وسائل الإعلام الرسمية. وكان أكثر مظالمه الثلاث فداحة مظلمة فضيان النيل عام 1988م، حيث غمر التساب معالم "الحِلَّة الدوام حافلة"، وطمس ربيع أطلالها ودمنها التي كانت تشكل جزءاً من حياة الشاعر خضر محمود، وأغرق بساتينها الخضراء، وأشجار نخيلها المثمرات. وبهذا الكيل الباهظ الثمن هجر أهل القرية مزارعهم ومساكنهم التي أضحت أثراً بعد عين، وشد بعضهم رحاله إلى أطراف المدن. وفي خلال فترة هذا الجور والترحال فقد الشاعر الطموح كثيراً من أشعاره التي كانت مدونة في العديد من الدفاتر والكُراسات، ولم يبق منها إلا المشهور والمتواتر بين الناس. لذلك كانت غضبة الشاعر غضبتان، غضبة الفقد والدمار، وغضبة تجاه النيل الذي كان يمثل مبعث إلهامه الموحي بالجمال، فبين ضفتيه تنبسط فواسيب "الجزيرة الموجه دفَّر *** رشرش برَّه نطَّ القيفه طفَّر"، وتقرقر مياهه العذبة خريراً في جدولها المنحدرة، لتروي شتل "الكُرُشْ الفدع عرجونو جرجر *** مالمسوهو من الناس مُحجّر". بهذه اللوحة الفاقعة في الجمال والمنبسطة على رمال الرمزية الزاهية كان النيل موحياً بالفن والعطاء في نظر الشاعر خضر محمود، ومعطياً حياة أهل الريف طعماً ومذاقاً خاصاً، لكنه عندما جار عليهم، وأخذ منهم صاع العطاء بصاعين من الدمار، تضاعفت غضبة الشاعر المازجة بين بالنقيضين، ودفعته لإنشاد لامية عصماء، تقول بعض مقاطعها:
يا أرض يا بنت النيل
وثقافة جيل عن جيل
والصخر الحفر والأزميل
والساقية التروي القنديل
نعم، أن نقص الملبس والمسكن والثمرات يمكن أن يُعوض، ولكن نقص الأنفس والأشعار بدائله عصيَّة، وعِوَضَه مستحيل، لذا تبقى لنا كلمة مناشدة أخيرة للمهتمين بصون أغنية الطنبور والشعر القومي الأصيل أن يتعاونون في جمع أشتات أشعار الشاعر خضر محمود المتناثرة بين صدور الحفاظ ومخطوطات قديمة، ويطبعوها في دواوين تخليَداً لأسمه وذكراه، قبل أن يندثر هذا التراث الأدبي العظيم في أوساط أناس قتل المشافهة إنتاجهم الأدبي. ألا رحم الله الشاعر خضر رحمة واسعة، واسكنه فسيح جناته مع الصدقين الشهداء وحسن أولئك رفيقاً. والعزاء لكل أهلنا الطيبين نواحي السافل والصعيد. "إِنَّ لِلَّـهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَيءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمَّىً."
ahmedabushouk62@hotmail.com