محجوب شريف ،، في بيتنا كورونا!.

 


 

 

 

كلما استمعت للضجيج الدائر حالياً وسط السودانيين وشعوب العالم وعبر الميديا والاعلام الذي راح يضخم موضوع "الكورونا"، تصيبني الدهشة وأضرب كفاً بكف، كون أننا مررنا من قبل بهذه الأزمة داخل أسرتنا، وتعاملنا معها بهدوء ودون ضوضاء تذكر حتى زالت مسبباتها تماماً، ولم يصب أي من أفراد الأسرة أو الأصدقاء من حولنا بأي أضرار هنا أو هناك جراء ما ألم بنا. تذكرت كل ذلك وذكرى الرحيل الفاجع لمحجوب شريف في الثاني من أبريل 2014 تطوف بمخيلتي!

كان ذلك أوان منتصف سبعينيات القرن الماضي، كانت الدنيا شتاء والبرد قارص، فزمهريره كان في تلك السنوات يأتينا بشكل فظيع، كان يشقق الشفاه والخدود واللهاة و"كعوبات" الأرجل التي يترك عليها آثاراً لا تنمحى لزمن يطول، النوم داخل الغرف المغلقة، زئير الريح خلف نوافذ الحجرات تسمعه كالأسود التي تتلوى جوعاً، أو كعواء الحيوانات المفترسة في أخيلة القصص الشعبية.
عند نهوضنا من أسرتنا صباح اليوم التالي نكتشف "كورونا" قدر ليلة الأمس وغدها، تتوهط حوش منزلنا، استغربنا، وبدأنا نحس بزئير ريح ليلة الأمس الشتوية ينفذ داخل عظامنا من مجرد رؤيتنا ومعاينتنا لحالتها بأيادينا.
كان شكلها العام لا يوحي بأن حالتها جيدة، كان "صفيحها" يسوده إصفراراً يختلط بلون داكن، وتنز من بعض جنباتها مواداً لزجة، كانت هيئتها العامة بهيكلها ذاك توحي بأنها حتى ولو قدر لها أن تسير على الشوارع والدروب، فإن كل حديدة فيها ستبعث جلبة وضوضاء ،، ربما عدا "بوريها"!، تماماً كما وصف يوماً الكاتب والاعلامي الراحل محمود أبو العزائم حالة عربته! وهكذا تتالت الأسئلة حول الذي أتى بها أصلاً إلينا، وإن هي إلا بضع دقائق حتى زالت دهشتنا عندما أطل محجوب شريف من نومه، وجاء لنا وهو يتثائب، ولازمات بقايا النعاس تحوم حول جفونه، وعندما لاحظ أن جمعنا يلتف من حولها، ويتفحص بأياديه هيكلها العام من الداخل والخارج ويعاين فرشها الأقرب إلى الحصائر البالية وأقفاص الدجاج البلدي، عد ذلك نوعاً من الاعجاب بها، حتى أفصح عليه الرحمة موضحاً بزهو بعد أن لاحقناه بالأسئلة الحيرى، أنه امتلكها بالأمس ليلاً بواسطة صديق له بالأقساط. وأن أقساطها نفسها ستبدأ بعد مهلة ثلاثة أشهر، وأنه يعتبرها صفقة عمر من صديق وفي، قرر المساعدة في حل أزمة المواصلات لجميع أفراد الأسرة وأن البشتنة واللهث خلف حافلات وبكاسي مواصلات تلك الفترة، حالما ستنتهي إلى غير رجعة. ولما كنا نعلم أنه غير ملم ليس بقيادة العربة فحسب، بل حتى الفرق بين "البوبينا" و"الشاسي" فيها!، سألناه كيف جاء بها البيت وأدخلها الحوش، فأوضح أن وقودها أصلاً قد نفذ، ولكن وبمعاونة نفر من المارة تم {زقلها} من مكان قريب حتى نجحت عملية تقريشها داخل المنزل، وبينما راح يؤكد أنها بحالة جيدة ولا ينقصها سوى البنزين، كنا ـ ومعنا صديقان للأسرة تصادف أن قضيا ليلة الزمهرير تلك معنا حتى الصباح ـ نقوم بعملية فحص دقيق للعربة باستغراب ودهشة، حيث كنا نعلم تماماً أن محجوباً ليست له أدنى علاقة، ليست بالعربات فحسب، بل بأبسط سلعة توجد في أسواق الله أكبر، لا بها ولا بجودتها، دعك من عربة ماركة كورونا، حتى يقوم ولوحده بشرائها دون معاونة أحد، وبالأقساط المريحة كما بيًن هو، وبينما نحن في جدلنا ذاك ومحجوب يجتهد في إقناعنا بجودة "المنتج"، يفتح أحد أصدقاء الأسرة المشار إليهم فجأة كبوت العربة الأمامي، لنكتشف الطامة الكبرى، لا توجد مكنة للعربة في الأساس، فصار منظرها وكبوتها فاغر فاه، وهو أشبه بكرش الدابة التي تم إفراغ إحشائها، فألجمتنا الدهشة ونحن نتوجه بأنظارنا نحو محجوب، الذي بان لنا في تلك اللحظة وكأن حمار شيخه توقف بالعقبة، بلع ريقه وأوضح قائلاً، بأن هذا الموضوع ليس بذي مشكلة وأن علينا ألا نحمل هماً، لأن صاحب العربة ـ الذي باعها له بالأقساط المريحة ـ طمأنه بأن أياً من المعارف والأهل والأصدقاء بالسعودية ودول الخليج يمكنه أن يوفر له ماكينة جديدة ويشحنها له من هناك.
في هذه اللحظة تأكد لنا بأن محجوباً ـ وكعادته ـ جامل صديقه الذي حاول أن يتخلص من عربة مركونة لديه، وأن محجوباً قبل بتلك الصفقة دون الانتباه أو الانشغال بما ستجره عليه وعلينا لاحقاً من علات، وأن المسألة برمتها ليست سوى أن تكون في هذا الاطار ،، لا أكثر ولا أقل، فهدأ بالنا وتوجه كل منا نحو قضاء بقية شؤونه الصباحية دون أن نناقشه بعد ذلك، بينما تركناه خلفنا وهو يلف حول "الكرونا" ويتمتم قائلاً في محاولة لاقناع جمعنا:ـ
ـــ حسع "الكورونا" دي مالا ،، لوموها لي؟!.
ــــــــــــــــــ
* ضمن كتاب جديد تحت الطبع بعنوان "محجوب شريف ،، حكايات بلا حدود".
* نشرت بالميدان.

hassanelgizuli@yahoo.com

 

آراء