في الخامس والعشرين من مايو ١٩٩٨هبطت مصر بغية لقاء عمل مع جعفر نميري. ذلك توقيت - يا للمفارقة - صنعته المقادير. مشاورات عديدة سبقت الرحلة مبتدرها ثلة ممن كانوا حول الرئيس الراحل بينهم الزميل صلاح عمر الشيخ وكان آنذاك محررا في صحيفة البيان. غاية المشاورات نشر مذكرات الرئيس. بعد التداول في الامر كلفني رئيس التحرير الاستاذ خالد محمد أحمد وكنت يومئذٍ اشغل منصب رئيس الشؤون العربية والدولية بمهمة تقييم المادة ومدى صدى نشرها. بعد سلسلة اتصالات هاتفية رحب النميري باللقاء الذي تأجل مرات. لمّا تحدد التوقيت النهائي أجريت مهاتفة كانت حرم الرئيس المجيبة على الطرف الاخر، عندما أبلغتها بتوقيت الوصول انفجرت ضاحكة. عندها فقط التفت الى مصادفة التاريخ، ٢٥ مايو. غداة الوصول جرى التنسيق عبر شاب كان ملازما للرئيس في مقر إقامته بالقاهرة اسمه الواثق ولعله من عشيرته الأقربين. أبلغني الواثق أن الرئيس يرحب على الغداء غدا. قبل الجلوس الى المائدة وأثناء ذلك انهمك النميري في الحديث عن الحياة في المنفى منذ حرمانه مواصلة رحلة العودة الى الخرطوم في الطريق من واشنطن. غلبت على النميري سحابة حزن داكنة وهو يروي دراما مطار القاهرة ذلك اليوم حيث رفضت السلطات المصرية لطائرة النميري استئناف الإقلاع الى الخرطوم بحجة إغلاق المطار السوداني أمام الملاحة إبان أحداث الثورة التي انتهت باستيلاء جونتا سوار الدهب على السلطة. سرد نميري تفاصيل ذلك اليوم الطويل في حياته على نهج الدراما التلفزيونية. لم ينجح الرئيس في إقناع طاقم الطائرة بمواصلة الرحلة. هنا السلطة للطاقم ليست للرئيس. لم ينتقد نميري الكابتن بل ألقى اللوم على النافيغيتر. لا أدري ما هي سلطة هذا الملاح الموجه غير أن المسألة بدت لي تسويفا من قبل الطاقم بأسره. أبدى النميري لحسن مبارك استعداده للمغامرة بالذهاب الى الخرطوم في طائرة عسكرية طالبا منه توفيرها. غير أن مبارك أبلغه أن هذا من شأن وزير الدفاع، أبوغزالة، الذي رفض بدوره تحمل مسؤولية إرسال طيار إلى مطار محفوف بالمخاطر. عمد النميري الى اللجؤ للاستعانة باتف الدفاع الثنائي لكن أبوغزالة ظل متشبثا برفضه. راودتني قناعة طاغية بان لو أُتيح لنميري إمكانية استغلال عربة جيب عسكرية وقتها بغية الوصول الى الخرطوم لفعل .ليس فقط من أجل استرداد سلطته بل لكسر طوق الاذلال الذي وجد نفسه متورطاً فيه. عند الظهيرة طلب مبارك من نميري التوجه الى قصر الرئاسة - أظنه قصر القبة. بعد الوصول دخل نميري في نوم عميق لم يفق منه إلا في المساء على بلاغ بوجود حسني مبارك في القصر. "لا أدري كيف استسلمت للنوم ذلك اليوم على ذلك النحو" هكذا قال. مما زاد وطء الحزن أن مبارك استهل اللقاء سائلا نميري، ما هي آخر أخبار الخرطوم ؟! فأجابه مستنكراً آخر الأخبار عندك كما يفترض. لكنه فهم الكلام . توغل النميري في جوانب من حياته في القاهرة معرباً عن عدم سعادته كما تطرق إلى ارتباطه بالوطن وأنه لا يزال يستقبل سودانيين يطلبون عونه في مسائل حياتية متباينة. من بين حكايات استوقفتني أقصوصة سيدة سماها باسمها-معروفة في مجتمع العاصمة. - طلبت مسعاه لدى أسرة ضابط كان ضمن من أعدمتهم زمرة البشير. كانت السيدة مرتبطة بعلاقة زوجية من وراء عائلة الضابط التي لم تعترف لها بحقوقها. عندما بدأنا الحديث عن المذكرات تحدث النميري عن شظف يقارب العوز وهو يراهن على عائد المذكرات ورجاني أن أكون ظهيرا. شرحت له أن الأمر يتعلق بمدى اقتناع إدارة التحرير بجدوى نشر المذكرات، كما أبنت له أن الخطة المبدئية هي نشرها في حلقات ثم جمعها في كتاب. قبيل الوداع أمر الرئيس الواثق باحضار المذكرات ويكاد لهف فضولي يسبق خطا الواثق. كانت المصادر تدعي دون أن تجزم أن الدكتور محي الدين صابر هو من تولى وضع المذكرات في صيغتها النهائية. لم أكن واثقاً ماذا كانت المذكرات مخطوطة ، مطبوعة أم هي مجهزة في أحد أشكال الذاكرات الرقمية، لكنها في كل الأحوال لن تشكل عبئاً ثقيلاً. المفاجأة كانت مباغتة اذ جاء الواثق يحمل "كرتونة" لا تُحمل الا بيدين إثنتين . هوّنت على نفسي بقناعة أنها لاتزال بخط اليد وسيكلفني ترتيبها وتجهيزها جهداً ليس باهظاً . تواصل لهف فضولي يستعر وأنا أسابق السيارة وصولا إلى الفندق. يا للفاجعة وأنا انبش في الورق، فالمذكرات لم تكن مذكرات. الكرتونة ليست غير ركام مقالات كتبها إثنان من الصحافيين العرب ذوي الارتباط مع كهنة النميري. يا للفاجعة مقالات سبق نشرها جلها بقلم المصري عادل رضا صاحب كتاب "الرجل والتحدي" في مدح النميري والبعض الآخر بقلم اللبناني فؤاد مطر الشهير بمقاله المعنون "الحزب الشيوعي السوداني نحروه أم انتحر". هكذا تبدد في لحظة مشرّبة بالسخرية المبكية رهان على كشف يمكن أن يثير جدلاً سياسياً لا يقف داخل الحدود السودانية. لم أسمح لنفسي بإبلاغ الواثق بحجم الخيبة حتى لا أزيد الحزن حزناً. تحملت العبء عائداً إلى دبي. غداة وصولي قرأت في حوار مع "آخر ساعة" قول النميري أنه بصدد نشر مذكراته وأنه يتشاور مع ناشر خليجي في شأن الصفقة. وهي صفقة لم تعرض على مائدة. حتما ذكريات نميري في أطول يوم في حياته كانت اكثر قيمة من كرتونة مذكراته بعد أيام معدودات طلبت من الزميل صلاح ابلاغ رجل الأعمال بأن يتحمل مسؤولية إعادة الكرتونة الى النميري.