أبو عيسى الساكت الرسمي باسم التجمع

 


 

عمر العمر
22 April, 2020

 

 

بينما تهيأت لإعداد أجندة العمل في وقت مبكر من نهار اليوم العشرين من مايو 2002 تلقيت مخابرة هاتفية مباغتة من الصديق ياسر عرمان. مهاتفة لم تقلب فقط أجندة عمل اليوم، بل أحدثت ارتداداتها زلزلة سياسية إنداحت على الخارطة السياسية السودانية. مبعث المباغتة تكمن في طبيعة علاقتي مع عرمان المبنية على الصحافي والمصدر حيث يلاحق الأول الثاني. منتجع ماشكوس الكيني - مصدر المحادثة - كان يومئذٍ محور الشأن السوداني. أبلغني محدثي في نبرة لا أصفها بالحزينة لكن أجزم أنها ليست على طبقة عالية من التفاؤل:

"سنوقع بعد قليل أي نحو ساعتين" ثم عاد فسألني عمّا إذا كنت على علمٍ بمكان الدكتور منصور خالد. نفيتُ علمي. تهاتفنا قبل أيام ولعله كان هو في روما.
سلسة من الأسئلة بدأت تلاحقني أوأنا أطارد إجاباتها. المخابرة نفسها شكّلت اللغز الأول. بما أن د.كتور منصور ليس داخل المنتجع الكيني فذلك يعني حتما غياب المكّون الشمالي داخل المعارضة عن مسرح الحدث. جون غرنق دخل المفاوضات أصلاً دون الحرص على إشراك حلفائه. عدم رضا الفصائل الشمالية لم يحملهم إلى احتمال توقيع غرنق إتفاقاً مع النظام قبل - على الأقل - إبلاغهم. من ثم تساءلتُ عمّا إذا كان الصديق عرمان يدرك استناداً إلى علاقاتي المتشابكة مع فصائل التجمع أنني حتماً مسائلهم عن ردود فعلهم، من ثم يكون الخبر قد تسرّب إليهم قبل وقع المطرقة على الورق فتحملهم المفاجأة إلى جزر نائية.
في مثل الأحداث المشابهة يدفع الحس المهني الصحافي فوق التحفظات العقلانية. فاروق أبوعيسى وجهتي الأولى الدائمة في مثل هذه الحالات. هو عنوانٌ مستقر سهل التواصل ولابد أن يكون بين أول العارفين. علاقتي معه توطّدت على دروب تجمع المعارضة قبل أن تتدثر بوشائج إنسانية متعددة الخيوط والألوان. هي علاقة تسمح لي دوماً استنطاقه في كل القضايا. المرح ظل مدخلنا المشترك. سألته عن تطورات ماشكوس فوجدته بعيداً عن الحدث بعده جغرافياً عن المنتجع الكيني.
قلت له مهاذراً الآن جاء دوري لأكافئك على تعاونك الإخباري الحميم. لقد جئتك من ماشكوس بنبأ عظيم. بعد ساعتين سيتم التوقيع بين حركة غرنق والنظام. أبوعيسى انفجر في عاصفة غضب حملته خارج مداراته الحقوقية والدبلوماسية والسياسية إلى مصاف السوداني الشمالي القح حين يغضب. ذلك رد فعل حملني بدوري إلى الإنفجار في نوبة ضحك عارمة. في محاولة لتطويق الإنفلات المزدوج بادرت معلقاً؛ غرنق جنح إلى لعبة حلب الأبقار من وراء ظهر القبيلة ويستحيل احتواؤه. كما توقعت بدأ ذلك التعليق في تبديد العاصفة.
لكن غضب أبوعيسى تجاه ماشكوس لم يبرد بل ظل مستعراً عبر الزمن يفصح عنه داخل التجمع وخارجه. هوالصوت الأعلى انتقاداً للإتفاق في كل اللقاءات. الزميل فتحي الضو يذكر في سفره الموسوم " السودان... سقوط الأقنعة" تسليم أبوعيسى المبعوث الأميركي دانفورث في القاهرة ورقة تشرح حيثيات رفضه الإتفاق.
كان أبوعيسى صلباً على قد رحابة صدره، توقد ذهنه، عمق موضوعيته وسماحة طبعه. فاروق جاء الى الحياة وخرج منها بفطرة شريحة ضيّقة من البشر مطبوعة بالإلفة والمحبة. هورجل يألف ويُؤلف دونما تكلّف أو تصنُع. هو فوق ذلك يتميز بديناميكية سياسي نقابي محنّك أضافت إليه إمكانات رئاسة أمانة إتحاد المحامين العرب خمس دورات متتالية - إنجاز غير مسبوق اوملحوق كما أجزم - ما هيأ له أن يكون قطباً محورياً في بناء هيكل تجمع المعارضة السودانية.
رغم تباين الرؤى بين الفصائل، دأب أبوعيسى على التحرك تحت مظلة "شخصيات وطنية" من أجل الحفاظ على وحدة التجمع؛ يُجمّع ولا يُفرّق، ينسج ولا يُمزّق. أحد أبرز معيناته على ذلك فهمه العميق ليس فقط لتركيبة الفصائل، بل كذلك كيمياء الشخصيات القيادية. أؤلئك كانوا يصغون إليه لإدراكهم عدم رغبته مزاحمتهم الواجهة حيث يستأثرون المقاعد. كما أنهم يتهيبون جرأته على مواجهتهم حين يقتضي الحال مثلما يخشون مهارته في تمرير ما يرغب عبر الأقنية الشرعية. لذلك ظل أبوعيسى حاضراً فاعلاً في أجهزة التجمع القيادية في مناصب متعددة، بينها رئيس الشؤون القانونية والدستورية والناطق الرسمي باسم التجمع. هو المنصب الأكثر بقاءً فيه والأكثر إلتصاقاً به.
حينما تفشت الخلافات بين الميرغني والمهدي، وبينه وبين غرنق حد القطيعة التامة وبين العسكريين وبعضهم وبين الزعيم الجنوبي وكل الفصائل الشمالية، كما بين المهدي والآخرين، لم يعد أبوعيسى راغباً في الحديث لأجهزة الإعلام. ذلك موقف ساد طويلاً مما جعلني أستهل أحاديثي مع ؛ يا أيها الساكت الرسمي فيرد ضاحكاً ساخراً ثم إذ هو يبادرني بها حتى أضحت بمثابة تبادل التحية ومفتتح الحوار بيننا. لكن ذلك لم يحل دون تبادل المعلومات "حتى تكون أنت في الصورة، ليس للنشر".
إبان جلسة عاصفة لهيئة قيادة التجمع في أسمرا تبنى الميرغني موقفاً لعله كان حاداً. كذلك أبلغني أبوعيسى عقب الإجتماع وأنا في دبي. هولم يكن ممانعاً النشر. غداتها تواترت المكالمات من معاوني الميرغني، ليس للنفي بل مستفسرين عن المصدر.. أحدهم، لعله حاتم السر أو ربما الراحل فتحي شيلا أسرّني لاحقاَ بأن الرجل استعان بأجهزة الدولة المضيفة لكشف من هاتفتُ أنا ذلك اليوم. خلال إجتماع آخر للهيئة خابرني أبوعيسى - وأنا في دبي- عن قلقٍ يراود عدداً من أعضاء القيادة نظراً لوصول غازي صلاح الدين إلى أسمرا ونزوله حيث يقيم مبارك الفاضل مما أفرز توجساً بوجود إتصالات خفية بين حزب الأمة والنظام.
التحقق لم يكن مهمة عسيرة. طلبت من الزملاء في مكتب الخرطوم الإستفسار عمّا إذا كان وزير الإعلام في مهمة خارجية؛ وجهتها وطبيعتها. الرد جاء سلبياً. هاتفت الفندق في أسمرا طالباً تحويل المكالمة إلى غرفة الدكتور غازي صلا الدين. رد فعلاً وزير الإعلام جاء خارج كل التوقعات. لم استوعبه حتى الآن. بمجرد التعريف بنفسي فاجأني دكتور غازي باغلاق الخط! لم استطع نشر ما جرى - رغم الإغراء نزولاً عند طلب الزملاء في مكتب الخرطوم حتى لا تجد السلطات مبرراً لإغلاق المكتب. إتضح لاحقاً أن مهمة غازي تتعلق بحادث طائرة.
ما حملت الخلافات أبوعيسى يوماً على ممارسة الطعن في الظهر. على النقيض جاهر بإعطاء كل ذي حقٍ حقه. لكنه تعرّض إلى ظلم فادح - أنقول تآمر؟ في مؤتمر مصوع. ذلك ليس لتجريده فقط من منصب الناطق الرسمي بل لكيفية إبعاده عنه. عقبها خاطبته مواسياً؛ الآن تم الإعتراف بما نصّبتك فيه؛ الساكت الرسمي. يقولون: الساكت عن الحق شيطان أخرس. ما سكت أبوعيسى يوماً عن الحق، بل كان صامتاً من أجل الحقوق. أبو عيسى كان ملَكَاً.

aloomar@gmail.com

 

آراء