.. وكأنّما بيننا - نحن شعوب السودان- وشهر أبريل الميلادي عهد وميثاق: أن نُشهدَه ونشهدَ العالمَ على نخوتِنا ورفضنا للإستبدادِ والخنوع. فيقف شاهداً على بطولاتنا. فقد شهد معنا أبريل وأشهدنا العالم انتفاضة كبرى في العام 1985. إنتفاضة أطحنا فيها بنظام مايو العسكري. رغم أن ثورة شعبنا سرقت حينها وهي في المهد. وأشهدنا أبريل تارةً أخرى في العام 2019 بأننا السودانيين أعلى مقاماً وأرفع شأناً من أن نسلم القياد للإستبداد . وشهد أبريل وشهد العالم كله كيف أطاحت الزنود والصدور العارية لشباب وشابات وشيب بلادنا بواحدٍ من أعتى أنظمة الإستبداد، والفساد في المنطقة. نظام جثم على صدورنا ثلاثين عاماً عجافاً، قوامها حروب إبادة ومسغبة وتشريد، على يد عصبة تعرف التمكين لمنسوبيها ولا تعرف الولاء للوطن ! لكنّ يبدو أنّ الموثق بيننا وبين أبريل أن يشهدَ على أحزاننا هذه المرة. ذات الشهر، يقفُ شاهداً هذا العام على رحيل أعلامٍ مهروا الثورة السودانية شمالاً وجنوباً نضالاتٍ لا يقوى عليها إلّا أهل العزيمة والبأس. شهد أبريل هذه المرة حزننا على رحيل من مهروا شهادات النضال الوطني
بسنوات العمر ونزيف الدم والعصب. ففي أيام متتاليات رحل منا إلى الدار التي لا ترقى إليها الأباطيل مناضلون ثلاثة عرفت نضالهم شوارع ومنتديات الخرطوم وجوبا، مثلما عرفت نضالهم من أجل الوطن أحراش الجنوب وصالات مؤتمرات عواصم العالم. رحل قبل أيام بطل ليلة المتاريس في انتفاضة اكتوبر 1964 المحامي الثائر فاروق أبوعيسى. ثم لم تمض أيام حتى نعى الناعي من مستشفى بانقلور بالهند الشاعر والمقاتل من أجل الحرية إدوار لينو وور. وها يتبع كوكبة المناضلين عشية أمس الأربعاء أحد أبرز أعلامنا في الدبلوماسية والسياسة - الدكتور منصور خالد . إلتقيت منصور خالد في مناسبات تعدّ على رؤوس أصابع اليد الواحدة. إلتقيته في القاهرة وفي لندن وفي الخرطوم. لا أدعي أنني قريب أو صديق له بأيِّ حال، رغم أنه كان ودوداً معي متى التقيته. لكنّي أدّعي بأني ضيف دائم الإقامة في مكتبته الفكرية السياسية. وأقولها بوضوح ، لو أنّ في السودان اليوم اثنين يمكن أن نطلق على كلٍّ منهما صفة المفكر بما ضخّ قلم كل منهما مداد المعرفة في مجاله، فإنني لا أتردد أن أخلع ذاك اللقب على الراحل الدكتور منصور خالد صاحب أكبر وأوسع منتج فكري سياسي منذ إستقلال بلادنا.. وكذلك عالم الإجتماع الدكتور حيدر إبراهيم علي - أطال الله عمره- وهو يرفد الأجيال المعاصرة أروع ما خطّه يراع عالمٍ في الإجتماع والإقتصاد السياسي. عرفت منصور خالد عبر ما كتب. أختلف أحياناً مع ما يسوق من مبررات في أطروحته السياسية. ولكني كقارئ لا أملك إلا أن أعجب برشاقة عبارته، ومتانة الحجة المدعومة بالوثيقة والمرجع القوي. ثمّ إنّ لغة التأليف عنده - عربية جاءت أم إنجليزية - تقف على أرض صلبة، وتنداح مثلما تنداح الينابيع في سهل منبسط. ولأنّ اللغةَ ماعونُ الكلام، فإنه متى جاء الإناء نظيفاً وأنيقاً، كان استيعاب القارئ للمكتوب غايةً في اليسر. هناك ميزة أخرى تضاف لمنصور خالد المفكر ، وهي شجاعة الرأي. ولعلّ شاعر العربية أبو الطيب المتنبي أصاب كبد الحقيقة حين قال: الرأيُ قبْلَ شجاعةِ الشُّجْعانِ هو أوّلٌ وهْيَ المكانُ الثاني! في كلِّ ما قرأتُ له - وأدّعي أنني أحتفظ في مكتبتي المتواضعة بمعظم مؤلفاته إن لم تكن كلها- في كل ما قرأت له كانت شجاعة الرأي عند منصور خالد والجهر بها بارزة جلية. كان شجاعاً في نقده للنخبة السودانية خلال العقود الحديثة من تاريخ بلادنا - والتي هو أحد حداتها والمشاركين في نجاحها الضئيل وخيباتها التي لا تُحصى. فعل ذلك - أعني النقد الذاتي- في مؤلف من جزءين كبيرين، أسماه "النخبة السودانية وإدمان الفشل". ولعل منصور خالد يكاد يكون رقماً بين ساسة بلادنا وهو يقوم بتوثيق تجربة جيله، بما يجعل من كتاباته مرجعاً للأجيال الحالية والقادمة، إذ تحاول قراءة المشهد السياسي على أوسع نطاق لبناء سودان جديد. سودان أكثر التحاماً بمنظومة العصر. سودان يجمع شمل ساكنيه حقُّ المواطنة، وليس تاريخ أو مجدالعشيرة. سودان نستحق العيش فيه بسعينا إليه لأداء الواجب، فينالنا شرف الإستحقاق. لذا كان منصور خالد شجاعاً وهو يضع يده في يد الثائر والمناضل الراحل الدكتور جون قرنق دي مابيور ، كاستشاري متمكن في السياسة والقانون من أجل بناء الحلم بسودان جديد - سودان المواطنة والمساواة. يفعل ذلك وهو سليل أرومة الجعليين، إحدى أشهر قبائل الشمال النيلي، ذلك لأنّ الوطن عنده أكثر رحابةً وأكبر اتساعاً من العشيرة. تفتقد أمتنا في الخرطوم وجوبا السياسي والدبلوماسي والمفكر الشجاع الدكتور منصور خالد عبد الماجد. ولو أنّ لنا عزاءاً فهو أن إرثه في الفكر السياسي يبقى إضافة جادة لأجيال سودانية قادمة. ولو أنّ لنا عزاءاً آخر فهو أن البلد الذي أنجبت أرحام نسائه مثل هذا المفكر السياسي والدبلوماسي البارع، قادرة أن ترفد ترابه نوابغ في شتى مجالات المعرفة، في السياسة والآداب والفنون والعلوم. تقبله الله عنده في ملكوته الأعلى. وللأمة السودانية الصبر وحسن العزاء