ماذا يفيد النباح والسفينة مبحرة !؟
مبارك علينا وعليكم العيد. وكل عام وبلادنا وشعبنا بألف خير.
ظلّ كاتب هذه السطور - كأي مهموم بشأن بلاده ومصيرها - يراقب بحرص شديد ما يجري في الساحة. ولا أدّعي قراءة للواقع ومآلات المستقبل أفضل من غيري، لكني أرى أنه ما من يوم ودعناه لنستقبل صبحَ يومٍ جديد، إلا وأيقنت بأنّنا نحن السودانيين - وبكل ما نعيشه من متاعب في أصعدة عدة - نمضي قدماً، وليس العكس كما يحلو لصانعي الشائعة، والجالسين على أرصفة الوهم أن يدّعوا. أكتب ما أكتب داعياً ألا نفقد روح التفاؤل التي ينبغي أن تكون نصب عين كل ثائر. تفاؤل مع الحرص ألا ننزلق في أمنيات لا يحكمها واقع.
علينا أن ندرك بدءاً أنه منذ أن جثم على صدر بلادنا كابوس "الإنقاذ" في 30 يونيو 1989م فقد قسمنا النازيون الجدد إلى معسكرين اثنين لا ثالث لهما : معسكر أنصار السلطة - وهؤلاء يمثلون عضوية التنظيم ، ومن دار في فلكهم من الإنتهازييين وفاقدي الضمير. أما المعسكر الآخر فهو الغالبية العظمى من أبناء وبنات شعبنا. لم تكن المعادلة لتقبل أن يكون هناك من هم في الحياد. فما أن مضت فترة قصيرة ، إمحت فيها الأصباغ من وجه نظام الإسلامويين المنقلب على النظام الديموقراطي تحت ذريعة إنقاذ البلاد ، ما إن زالت الأصباغ عن وجه النظام القبيح حتى بانت الكراهية والأحقاد ضد كل من ليس معهم. إعدام 28 ضابطاً في مثل عشية هذا اليوم - ليلة قبل العيد - إعتقالات ، بيوت أشباح، ثم دارت بعدها ماكينة الحرب التي لم تتوقف إلا بزوال النظام. هكذا الأنظمة الإستبدادية الفاشية، لسان حالها دائماً: إنّ الذي لا يغني معنا إنما يغني ضدّنا! كان خطأهم القاتل أن استعدوا شعباً بأكمله ضدهم. ظل نظام الأخوان المسلمين على مدى ثلاثين عاماً في السودان يبني دولة التمكين لمنتسبيه والحائمين في حظيرته من الإنتهازيين. لذا قامت أعمدة الدولة على الظلم وانتشر الفساد في كل أروقة الخدمة المدنية حتى صار هو نمط الحياة ونظامها.
وإذ تضع ثورة ديسمبر معيارها ، فتقوم لجنة تفكيك التمكين ، يبين للأعين من السرقة والنصب والفساد ما لم يكن يصدقه أكثر الناس إخلاصاً للنظام ودفاعاً عنه. سرقة للمال العام، وحكر للأراضي وقيام شركات وهمية معفاة من الجمارك والضرائب ، وإمبراطورية للمال باسم الدعوة للإسلام ، وعمارات وقصور يشيدها من اغتنى على حساب موارد شعب بأسره.
واليوم وحكومة فترة الإنتقال المتفق عليها بحضور ممثلي الأمم المتحدة والإتحاد الأفريقي والإتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية - لم تكمل عامها الأول بعد نرى الدولة العميقة وجيوبها ومن يغازلون عضويتها ممن التحقوا بقطار الثورة مرغمين وهم يضعون العراقيل في كل آن وفي كل منعطف !
بدأت اللعبة القذرة بأزمة مصطنعة للمواصلات، فأذرع الدولة العميقة تمتد في كل ناحية. من قال أنّ بمقدور أي ثورة إصلاحية مهما عملت أن تفكك دولة للفساد القح على مدى ثلاثين سنة؟ يصطف مئات المواطنين في الشوارع انتظاراً للمواصلات. صفوف ليل نهار للحصول على رغيف الخبز. وأنصار النظام الذين امتلكوا المخابيء والمخازن يفعلون كل ما بوسعهم متوهمين حدوث انفجار شعبي يعيد عجلة التاريخ إلى الوراء. مشكلتهم أنهم لم يستوعبوا درس الأمم.
ثم تبدأ لعبة قذرة أخرى، وهي محاولة شيطنة رموز الثورة من وزراء وشخصيات لعبت دوراً قيادياً في الحراك السياسي. منصة الهجوم هي مواقع التواصل الإجتماعي وبعض الصحف الصفراء التي لم يصدق بعض مالكي أسهمها أنّ نظام نعمتهم قد شبع موتاً. هجوم كاسح يبدأ برئيس الوزراء ، ووصف حكومته بالفشل، وأن إنتخابات مبكرة يجب أن تقوم فوراً !! وهجوم آخر على الوزير القراي الذي جاء لمنصبه مزوداً بكفاءته الأكاديمية ورؤيته الواضحة لإصلاح المناهج المدرسية. وحرب أخرى على وزير الصحة أكرم علي التوم والذي يعرفون كفاءته ومعرفته للواقع الطبي المزري. يقف وراء الهجوم على أكرم تجار الأدوية ومن حولوا المستشفيات إلى حوانيت. هجوم تلو هجوم ل خلق الفوضى في بلادنا..حالمين بليبيا وصومال في السودان.
وها هي سفينة الثورة تمخر عباب البحر صوب هدفها الذي دفعت ثمنه الآلاف من الشهداء - في غرب البلاد وشرقها ووسطها وشمالها وجنوبها. مضى ثمانية أشهر فقط من عمر حكومة الرئيس عبد الله حمدوك، أنجزت خلالها ما لا تقصر عن مشاهدته إلا عين رمداء أو عين أعمتها الغيرة أن ترى الشمس ساطعة في كبد السماء.
هل قلنا بأن حمدوك ووزراءه لم يقصروا في بعض مهامهم؟ لسنا حارقي بخور لنقول ذلك. لقد تلكأت الحكومة في الإجهاز على أكثر من موقع يكتظ بمن يديرون دفة الأزمة لصالح النظام الهالك. وتعرف حكومة رئيس الوزراء أنّ في كل الوزارات كتائب من أنصار النظام،. بعض من أولئك في مناصب كبيرة وحساسة، لكن آخر ما يهتمون به خدمة شعبنا. بل يتمنون فشل الحكومة وأن تعم الفوضى هذا البلد اليوم قبل الغد. كل هذا نعرفه، ونبهنا إليه شفاهة وكتابة.. لكننا نراهن على إيجابيات أنجزتها الحكومة الإنتقالية في ثمانية أشهر فقط وفي أكثر من صعيد بما في ذلك نجاح إصلاح مؤسسات خدمية داخلية ونجاح بارز في تحسن علاقاتنا الخارجية.فقد صرنا محط أنظار المجتمع الدولي. عام وأكثر بلا حروب في بلد ظل مشتعلاً لثلاثين سنة حتى انقسم على نفسه. صرنا نؤم المطارات والمدن ونحن فخورون بأننا من بلد إسمه السودان ، أنجز شعبه ثورة لا تشبه إلا نفسها والشعب الذي صنعها. ثمانية أشهر لحكومة الفترة الإنتقالية والمران على الحرية بأنها لنا ولسوانا يسير بمنتهى الثقة حتى إن من تمنوا لنا الموت بالأمس وحاولوا كتم النفس عنا يتنفسون ملء رئاتهم بل ويشتمون ما شاءت عقيرة أحدهم أن تصيح. لم تصادر صحيفة لأنها نشرت مقالاً همز أو لمز في وزير أو مسئول كما كان دأب نظام الغفلة البائد. لم يشبع سوط شرطي النظام العام جسد فتاة جلداً بتهمة أنها ترتدي بنطالاً !!
يا شعبنا الجميل بكل حسناته وعيوبه.. استمعوا لنباح الكلاب الضالة، لكن إعرفوا أنها ستنبح ما دام سفين الثورة يمخر البحر بثقة وأقتدار ، وما دامت شمس الثورة ممثلة في شبابها وشارعها اليقظ بقيت ساطعة ، والوعي نبراسها.
فضيلي جمّاع
23 مايو 2020
fjamma16@yahoo.com