السودان: الإرث الثوري لدولة ما بعد الاستقلال إضاءة على ثورة 19 ديسمبر 2018
عبدالله الفكي البشير
25 May, 2020
25 May, 2020
(نشرت في مجلة كتابات سودانية، مركز الدراسات السودانية، العدد رقم: 58- أكتوبر/ نوفمبر 2019)
"عندما تشتعل الثورة من جديد في عقول الشعب فإنها تكون قد بدأت المرحلة الإيجابية.. وهذه في الحقيقة هي الثورة الكبرى. وواجب إشعالها يقع على أفراد الشعب عامة وعلى المثقفين بصفة خاصة، بتسليط الأضواء على الركود الفكري والتبعية العمياء للطائفية السياسية والطائفية الدينية التي يرسف في أغلالها أغلبية شعبنا"( ).
محمود محمد طه، 15 أكتوبر 1965
بقلم عبدالله الفكي البشير( )
محاور الورقة
مجتمعات التعدد الثقافي عصية على إعادة الصياغة والتكييف
ثورة أكتوبر وحركة الحقوق المدنية في أمريكا
انتفاضة أبريل ضد قوانين سبتمبر الجائرة (ما سمي بالشريعة الإسلامية)
ثورة العقول والوعي المتنامي
ثورة ديسمبر والتاريخ الجديد للثورات الإنسانية
ثورة تحالف المهمشين المرأة والشباب
المرأة السودانية وتجسيد الكنداكة في أفق جديد
"التضحية في سبيل الوطن تمنع الانتهازية في الممارسة السياسية" (مقولة للأستاذ محمود محمد طه)
ثورة ديسمبر وشهداء الحرية من الشباب اليافعين
ثورة ديسمبر ضد الفهم المتخلف للإسلام
ثورة ديسمبر وبعث قيم الشراكة والبناء الجماعي
ثورة ديسمبر وأشواق السودنة واستكمال الاستقلال
ثورة ديسمبر تبعث بمقولة "الشعب السوداني معلم الشعوب"
من هو أول من أطلق مقولة "الشعب السوداني معلم الشعوب"؟ ومتى كان ذلك؟
خاتمة: تحديات ثورة 19 ديسمبر
الهوامش
مدخـــــل
تسعى هذه الورقة الموجزة إلى تسليط الضوء على إرث السودان الثوري في دولة ما بعد الاستقلال مع التركيز على ثورة 19 ديسمبر 2018. لقد شهد السودان ثورتين شعبيتين، ثورة أكتوبر 1964 وانتفاضة أبريل 1985، ضد حكمين عسكريين، فضلاً عن الثورات المسلحة في جنوب السودان وغربه وشرقه. نجحت الثورتان الشعبيتان في اسقاط النظامين العسكريين، غير أنهما لم يحققا التغيير المنشود. اندلعت ثورة 19 ديسمبر 2018 ضد نظام حكم عسكري جاء بتخطيط ودعم من الجبهة الإسلامية القومية في السودان. تدثر النظام بثوب الإسلام السياسي، وسعى لإعادة صياغة الإنسان السوداني وتكييف حياته وفقاً لرؤيته وتوجهاته المنطلقة من الفهم المتخلف للإسلام. استطاعت ثورة 19 ديسمبر بعد (142) يوماً من الحراك الثوري المستمر، والمواجهة الشرسة أن تسقط النظام الأيديولوجي المستبد في نهار 11 أبريل 2019.
ولكي ما تنهض الورقة بأغراضها، تهيكلت في المحاور الآتية: مدخل، مجتمعات التعدد الثقافي عصية على إعادة الصياغة والتكييف، وقراءة في الإرث الثوري: ثورة أكتوبر 1965 وانتفاضة أبريل 1985، وثورة أكتوبر السودانية وحركة الحقوق المدنية في أمريكا، وانتفاضة أبريل ضد قوانين سبتمبر الجائرة (ما سمي بالشريعة الإسلامية)، وثورة 19 ديسمبر: ثورة العقول والوعي المتنامي، وثورة 19 ديسمبر والتاريخ الجديد للثورات الإنسانية، وثورة تحالف المهمشين المرأة والشباب، والمرأة السودانية وتجسيد الكنداكة في أفق جديد، والتضحية في سبيل الوطن تمنع الانتهازية في الممارسة السياسية، وثورة 19 ديسمبر وشهداء الحرية من الشباب اليافعين، وثورة 19 ديسمبر ضد الفهم المتخلف للإسلام، وثورة 19 ديسمبر وبعث قيم الشراكة والبناء الجماعي، وثورة 19 ديسمبر وأشواق السودنة واستكمال الاستقلال، وثورة 19 ديسمبر تبعث بمقولة الشعب السوداني معلم الشعوب، من هو أول من أطلق مقولة الشعب السوداني معلم الشعوب؟ ومتى كان ذلك؟، خاتمة: تحديات ثورة 19 ديسمبر ثم الهوامش.
مجتمعات التعدد الثقافي عصية على إعادة الصياغة والتكييف
لا جدال في أن مجتمعات التعدد الثقافي، كما هو حال السودان، كما أنها عصية على الانصياع لأنظمة الحكم الدكتاتوري، وعصية كذلك على الإدارة والانقياد لأنظمة الحكم الأيديولوجي التي تسعى لإعادة صياغة الإنسان وتكييفAdaptation حياته. كما أن تحقيق التعايش والبناء الجماعي والتنمية في مجتمعات التعدد الثقافي، لا يمكن أن يكون في ظل غياب الحقوق المستحقة: الديمقراطية والحرية والكرامة. فالسودان ينعم بتعدد ثقافي، من حيث الأصالة والقدم، لا مثيل له في العالم، سوى ربما الولايات المتحدة، بيد أنها لا تملك ادعاء أصالة تاريخ يعود إلى آلاف السنين( ). ظل السودان، وهو بهذا التعدد الثقافي الفريد، يعيش أزمة وطنية منذ أن عبَّر جنوبه من خلال تمرد توريت في 18 أغسطس 1955، نواة الكفاح المسلح، عن غياب التعايش وانعدام الثقة بين الشمال والجنوب. تبع ذلك أن تعمَّق غياب الثقة وتكشَّف انعدام التكافؤ الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بين الشمال والجنوب( ). وما أن نال السودان استقلاله عام 1956 إلا وبدأت أقاليمه في الشرق والغرب، دارفور وكردفان، في التعبير المنظم عن المطالب بالحقوق. ففي أكتوبر 1958 شهدت مدينة بورتسودان انعقاد أول مؤتمر ذي صبغة جهوية، مؤتمر البجة، وهو يطالب بالحقوق ويشكو من اهمال المنطقة وسكانها. كانت هذه التحركات الإقليمية وتبعتها أُخر، قد حملت في داخلها، في ظل قصر النظر في التعاطي معها، بذور الأزمة الوطنية في السودان، وغدت الأزمة تتفاقم مع مرور كل يوم جديد.
فمنذ استقلال السودان وحتى يوم الناس هذا، لم يجد التعدد الثقافي اعترافاً، دعك من الاحتفاء، كما ظل دستور السودان منذ عام 1956 يؤكد على تعميق وتعزيز التهميش اللغوي والديني. ودرجت أنظمة الحكم المتعاقبة في السودان، أمام تحديات التسوية الوطنية وانفجار الصراعات، على السعي لتحقيق التسوية الوطنية وبناء السلام عبر منهج توقيع اتفاقيات السلام الثنائية مع الحركات والجماعات. تجلى هذا المنهج في مؤتمر المائدة المستديرة عام 1965، وفي توقيع اتفاقية السلام بأديس أبابا عام 1972، وفي اتفاقية السلام الشامل عام 2005، وغيرها من الاتفاقيات. لم يكن ذلك المنهج سوى ترميم لبناء متهالك، فسلسلة اتفاقيات السلام التي تم توقيعها، ما هي إلا تعبير فصيح عن الفشل، أقصى مراتب مصيرها الانهيار وأدناه الانفصال( ). لم يكن أمام مجتمعات التعدد الثقافي، في ظل هذا الواقع، إلا الثورة الشعبية من أجل انتزاع الحقوق وإحداث التغيير الشامل والجذري.
قراءة في الإرث الثوري: ثورة أكتوبر 1965 وانتفاضة أبريل 1985
شهد السودان ثورتين شعبيتين، قبل اندلاع ثورة 19 ديسمبر المجيدة، فضلاً عن الثورة المسلحة في الجنوب التي بدأت مع ميلاد حركة الأنيانيا عام 1963 ( )، وانتهت مع توقيع اتفاقية أديس أبابا عام 1972، ثم عادت ثانية بعد إعلان قوانين سبتمبر 1983، ما يعرف بقوانين الشريعة الإسلامية. أيضاً شهد غرب السودان- دارفور وكردفان منذ عام 1965 نشاطات عسكرية مثل قيام منظمة سوني( )، ثم جاء اندلاع الثورة المسلحة في دارفور عام 2003 وكذلك الثورة المسلحة في جبال النوبة في جنوب كردفان، إلى جانب ثورات عسكرية متفرقة في أوقات مختلفة في بعض أنحاء السودان. كانت الثورة الشعبية الأولى في 21 أكتوبر 1964، والثانية هي انتفاضة 6 أبريل 1985. اندلعت ثورة أكتوبر، بعد ثمانية أعوام من اعلان الاستقلال، وبعد ستة أعوام من الحكم العسكري الذي جاء بعد حكم ديمقراطي (1956- 1958) استهل به السودان صبح الدولة الوطنية ما بعد الاستعمار. إن قيمة ثورة أكتوبر لا تكمن في كونها ثورة شعبية بيضاء عزلاء، نجحت، بحكم توق الشعب السوداني للديمقراطية والحرية، في تغيير حكم عسكري، فحسب؛ وإنما في قوة اجماع الجماهير على إرادة التغيير، "إذ قد تم التغيير بالقوة بغير عنف"( ). استطاعت الثورة أن تتخلص من حكم عسكري بدأ منذ يوم 17 نوفمبر 1958، بقيادة الفريق إبراهيم عبود (1897/ 1900- 1983)، في وقت شاعت فيه الانقلابات العسكرية في أوروبا، وأفريقيا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية. بل اندلعت الثورة في وقت شهد وقوع الانقلاب العسكري في اليونان التي تعتبر موطن الديمقراطية، وباعث الديمقراطية في القرون الماضية. وظل اليونانيون تحت كاهل الحكم العسكري، برغم المحاولات المستمرة للتخلص منه، ولكنه ظل قابعاً، وقابضاً عليهم بيد من حديد( ). ولم يستطع الشعب اليوناني أن يستعيد الديمقراطية إلى أرضه، بثورة شعبية كما فعل الشعب السوداني.
ثورة أكتوبر السودانية وحركة الحقوق المدنية في أمريكا
عندما اندلعت ثورة أكتوبر، لم يكن السودان من حيث المكونات والإرث التاريخي، وهو تحت حكم عسكري، بمعزل عن المشهد العالمي في عقد ستينات القرن الماضي. فقد شهد عقد الستينات انتصار حركة الحقوق المدنية (Civil Rights Movement) التي فجرها الأمريكيون المنحدرون من أصل إفريقي( )، إلى جانب ازدهار حركات التحرر الوطني في أفريقيا، وتمدد خطاب القومية العربية والاتجاهات الزنُوجية وأسئلة الهوية. تبع ذلك أن شهد العقد استيعاب التعدد الثقافي، الذي برز لأول مرة، إلى الوجود، غداة الحرب العالمية الثانية، ومع إنشاء منظومة الأمم المتحدة( )، في التشريعات ومواثيق الحقوق والحريات ثم وجد طريقه إلى الدساتير القومية والقواميس السياسية، مع توسع تداوله في حقول البحث العلمي. فإلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية، مثلت كندا منذ السبعينيات نموذجاً آخر لاستيعاب التعدد الثقافي في دستورها( ).
عبَّر الشعب السوداني عن اتساقه مع هذا المشهد العالمي حيث انتصار حقوق الحقوق المدنية من خلال خروجه من أجل مشكلة جنوب السودان، وهي أعظم معالم التعدد الثقافي في السودان. كانت مشكلة الجنوب من أهم أسباب اندلاع ثورة أكتوبر، كما أنها مثلت أكبر مظاهر فشل الحكم العسكري( ). لقد أذكت مشكلة الجنوب ثورة أكتوبر( )، وظلت كذلك ذريعة لكل الانقلابات العسكرية. لقد وفر الجنوب شرارة الانفجار للغضب الشعبي ضد النظام العسكري( )، فعبرت الجماهير السودانية عن رفضها لسياسة الحسم العسكري في الجنوب، وعن أشواقها للتغيير، بتناغم مع المشهد العالمي في مناخ ستينات القرن العشرين. وعلى الرغم من قوة ثورة أكتوبر وتفردها، إلا أنها لم تحقق التغيير المفضي لانتصار الحقوق المدنية، والاعتراف بالتعدد الثقافي. فقد اختطفت القوى التقليدية والدينية والطائفية ثورة أكتوبر، وتحالفت قياداتها فيما بينها، وعبر التآمر والعبث بإرادة الجماهير والفوضي الدستورية نجحت في إبعاد القوى الحديثة وتحجيم المد الديمقراطي، وتكليس الوعي الديمقراطي. كما أنها سارت بالسودان، أمام تحديات التسوية الوطنية وانفجار الصراعات، في اتجاه منهج الترقيع والترميم في سعيها لتحقيق السلام والاستقرار من خلال توقيع الاتفاقيات الثنائية، وهو منهج يعبر عن العجز وأفضي إلى الانفصال وتمكين ثقافة التشظي. ولهذا فإن ثورة أكتوبر من حيث القاعدة، كانت تطلعاً جماهيرياً للتغيير بتناغم مع المشهد العالمي، ومن حيث القمة لم تكن سوى إعلان لمفارقه قادة السودان من زعماء الأحزاب السلفية والطائفية وأصحاب الامتياز (من غير المهمشين)، لأشواق الجماهير، وتناقض تناغم السودان مع المشهد العالمي، منذ ذلك الوقت وحتى يوم اندلاع ثورة 19 ديسمبر. وعلى الرغم من ذلك فإن ثورة أكتوبر، عبرت عن قوة الاجماع على إرادة التغيير، كما أنها تركت إرثاً ثورياً ينتظر الإكتمال والتطوير لفكرة التغيير وطريقة تحقيقه( ).
انتفاضة أبريل ضد قوانين سبتمبر الجائرة (ما سمي بالشريعة الإسلامية)
انتفض الشعب السودانية ثانية في 6 أبريل 1985 في وجه حكم عسكري (1969- 1985) لبس في خواتيم أيامه ثوباً إسلامياً مزيفاً فأعلن قوانين سبتمبر 1983، ما سمي بالشريعة الإسلامية، والتي لم تكن سوى ردة حضارية وردة ثقافية. فهي قوانين جائرة ومخالفة للشريعة، ومخالفة للدين، وأذلت الشعب، وهددت وحدة البلاد، مما أدى إلى تفاقم مشكلة الجنوب، وتكريس الظلم وتعميق التهميش، وإقصاء غير المسلمين، إذ جعلت المواطن غير المسلم، مواطناً من الدرجة الثانية( ). استطاعت انتفاضة أبريل أن تسقط النظام العسكري، وتقيم على أنقاضه نظاماً ديمقراطياً تعددياً، إلا أنها لم تحقق التغيير المنشود. فقد سارت الأمور بعد الانتفاضة في الوجهة التي تريدها القوى التقليدية، تبع ذلك فشل القادة السياسيين بعد سقوط النظام العسكري وأثناء فترة الحكم الديمقراطي في بناء شراكة مع قادة الثورة المسلحة في جنوب السودان، ومن ثم فشلهم في تحقيق وحدة السودان. ولهذا لم تكن انتفاضة أبريل سوى إعلان موقف برفض الحكم العسكري ورفض لتطبيق القوانين الإسلامية المزيفة، وتعبير عن التوق لإحداث التغيير الجذري والشامل، إلا أنها لم تحقق سوى اسقاط النظام العسكري. فقد بقيت قوانين سبتمبر، ولم يتم إلغاؤها في العهد الديمقراطي، حتى قفز إلى حكم البلاد، العميد عمر حسن أحمد البشير بإنقلاب عسكري في 30 يونيو 1989، بتخطيط ودعم من قبل الحزب الذي صمم تلك القوانين والمنادي بتطبيقها، الجبهة الإسلامية القومية.
كان إنقلاب عمر البشير نتيجة طبيعة لهيمنة القوى التقليدية على المسار السياسي والفكري في السودان. فقد نجحت تلك القوى في الانحراف بثورة أكتوبر 1964 عن مسارها، وتمكنت من اختطاف انتفاضة أبريل 1985، فكانت من الطبيعي أن تنمو تلك القوى التقليدية صاحبت الفهم المتخلف والمناهضة للتغيير، حتى سيطرت على حكم البلاد. مثَّلت فترة حكم نظام الجبهة الإسلامية القومية، والتي استمرت لمدة ثلاثين عاماً، فترة الانحطاط والظلام في السودان. فقد سعى النظام إلى إعادة صياغة الإنسان السوداني وتكييف مجتمعه وحياته وفقاً للفهم المتخلف للإسلام. وأعلن الثورة باسم الإسلام فقاد الحروب والقتل في جنوب السودان تحت راية الجهاد، فأضاف باسم الإسلام والسودان أسوأ الفصول في مجلد التجارب الإنسانية، بينما الثورية في الفهم الجديد للإسلام "يجب أن تقود للحياة في سبيل الإنسانية لا الموت في سبيل الإنسانية"( ). وسعى النظام في إطار ارتباطاته العالمية والإقليمية إلى التدخل في شؤون دول الجوار، وإستضافة جماعات الهوس الديني، فأصبح السودان مهدداً للسلم والأمن العالميين، فوضع ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب، الأمر الذي أدى إلى نتائج كارثية على الشعب السوداني. كذلك أدت سياسات النظام، إلى جانب عوامل أخرى وأسباب تاريخية بالطبع، إلى انفصال جنوب السودان، وتفشي مناخ التشظي في سماء السودان. ولم يكن لدى الشعب السوداني، أمام هذا العبث بوطنه وأمام هذه اللوثة، سوى الثورة، فكانت ملحمة 19 ديسمبر 2018، التي استطاعت أن تسقط أعتى الأنظمة الأيديولوجية والقمعية المستبدة.
ثورة العقول والوعي المتنامي
عبَّرت ثورة 19 ديسمبر عن ثورة عقول يشهدها السودان. حيث الوعي الجديد، وإعادة التعريف للذاتية السودانية، إلى جانب أشواق التحرر من الأوصياء على العقول. وهنا أستميح القراء الكرام عذراً بأن أورد الفقرة الآتية كما جاءت بالنص في ورقة كنا قد فرقنا من إعداداها في 21 يوليو 2014، وكانت الورقة بعنوان: ثورة أكتوبر ومناخ الستينيات: الانجاز والكبوات (قراءة أولية)"، ونُشرت ضمن: حيدر إبراهيم علي وآخرون (تحرير)، خمسون عاماً على ثورة أكتوبر السودانية (1964- 2014) نهوض السودان الباكر، (مجموعة مؤلفين)، مركز الدراسات السودانية، القاهرة، 2014. فالفقرة تخاطب هذا المحور، فهي تقول:
"إن المد الثوري، كحالة إنسانية تنشد التغيير والتحرير، في حالة توسع وتجدد واستمرار. كما أن مغذيات الثورة الشعبية وأسبابها في السودان، اتسعت وتعمقت الآن، أكثر من أي وقت مضى، وتسربت إلى وعي الجماهير، بمعزل عن الأوصياء على العقول، ولهذا فنحن الآن على مشارف انفجار "الثورة الكبرى". وهي ثورة ستشتعل في عقول الجماهير، وهدفها التغيير الشامل والجذري، ولا يفصلنا عنها، سوى لحظة الاجماع، وقيام المثقفين بواجبهم نحو اشعالها في عقول الجماهير. فمتى ما تمت الثورة الكبرى، الآن أو مستقبلاً، ستكون إدارة السودان على أساس التعدد الثقافي، وقيم الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية وكرامة الإنسان، من أبجديات الحراك السياسي والفكري، وعندها ستتم الوحدة بين أقاليم السودان المختلفة، بما في ذلك جنوبه، الذي اختار اسم (جمهورية جنوب السودان) لدولته وفي هذا نبوءة مستقبلية لوحدة قادمة"( ).
ثورة 19 ديسمبر والتاريخ الجديد للثورات الإنسانية
أودع الشعب السوداني العملاق في سجل الثورات الإنسانية، أعظم لوحة في التاريخ الثوري للشعوب، كان قوامها السلمية والاجماع وقوة الإرادة، وشعارها حرية سلام وعدالة. اندلعت الثورة في 19 ديسمبر 2018، واستمرت على مدى (142) يوماً من الحراك الثوري المتواصل والمنضبط في المواقيت مع الالتزام بالسلمية والاصرار على المواجهة. كان الشعب السوداني يخرج في مسيرات جماهيرية ضخمة وسلمية، وصفتها بعض وسائل الإعلام العالمية، بأنها من حيث الحجم والسلمية تمثل تاريخاً جديداً للثورات الإنسانية. ظل هذا الحراك الثوري بهذه العزيمة والحيوية والعنفوان حتى انهار النظام المستبد فسقط في 11 أبريل 2019.
كانت ثورة 19 ديسمبر تعبيراً عن أشواق الشعب السوداني في مستوى جديد. فالثورة لم تكن محصورة في المركز أو العاصمة الخرطوم، كما هو الحال مع ثورة أكتوبر 1964، وانتفاضة أبريل 1985، وإنما كانت كل أقاليم السودان حاضرة وبقوة في الحراك الثوري. بل أن الثورة اندلعت في الأقاليم أولاً، ثم لحقت الخرطوم بالركب الثوري. وفي هذا دلالات تتصل بالشعور بالوحدة والتضامن مع المناطق والجماعات المهمشة في السودان، إلى جانب اتساع رقعة التهميش. فقد كانت ثورة 19 ديسمبر خلاصة لتراكم نضالي طويل شارك فيه أهل الهامش الذين قادوا الثورة المسلحة في جنوب وغرب وشرق السودان، من أجل الحقوق وكرامة الإنسان السوداني، فكان شهداء الهامش، إلى جانب شهداء 19 ديسمبر، هم وقود الثورة. كما تميزت ثورة 19 ديسمبر عن الثورات السودانية السابقة، وربما عن كل الثورات في العالم، بأنها ثورة المهمشين المرأة والشباب والأطفال. فقد كانت المرأة هي القائد والأعلى صوتاً وحضوراً في الميدان الثوري، كما قدم الشباب نموذجاً نادر المثيل في التضحية والفداء والجسارة.
ثورة تحالف المهمشين المرأة والشباب
المرأة السودانية وتجسيد الكنداكة في أفق جديد
كانت المرأة عنواناً لثورة 19 ديسمبر، بل يمكننا، من دون مبالغة، أن نطلق على هذه الثورة "ثورة المرأة"، باعتبار ما قدمته من عطاء وتضحية وحضور مستمر. فقد قدمت المرأة السودانية أعظم نموذج إرشادي للثورة من أجل التغيير. تقدمت صفوف الحراك الثوري، وظلت مقيمة في الميادين العامة من أجل استمرار الثورة، وهي تستنهض ا لشباب والرجال. نتيجة لهذا الحضور القوي استطاعت المرأة السودانية، ليس استدعاء الإرث الثوري في أكتوبر 1964، وانتفاضة أبريل 1985، وطاقة التعدد الثقافي الذي ينعم به السودان، فحسب؛ وإنما استدعت إرثاً حضارياً يعود إلى آلاف السنين، حيث بعثت اسم الكنداكة وجسدته في أفق جديد. أخرجت المرأة السودانية بقوة عزيمتها واصرارها على الانتصار مفردة الكنداكة من جوف تاريخ السودان. إذ لم يكن هناك ما يضاهي ما قدمته المرأة السودانية من بذل وتضحيه في الثورة، سوى دور الكنداكة ودلالاتها في معنى الصمود والاستعداد للمواجهة وتحقيق الانتصار في حقبة كوش Kush (750ق.م.- 350م). فالكنداكة هو لقب ملوكي يشير إلى "المرأة القوية" أو "الملكة العظيمة"، وأطلق على عدد من الملكات اثنين منهن كانتا من أعظم ملكات كوش اللائي تميزن بالقوة والحنكة والانتصار، وهما الملكة أماني ريناس (40 ق. م- 10 ق. م) والملكة والحاكم أماني شاخيتي (شاخيتو) (10 ق.م – 1م).
استطاعت المرأة السودانية من خلال دورها في ثورة 19 ديسمبر أن تحقق بعثاً حضارياً وثقافياً حرمت منه شعوب السودان وظلت منبتة عنه حتى اندلاع الثورة، فاستدعت فيما استدعت مفردة الكنداكة. وبهذا يمكن القول بأن المرأة السودانية نجحت في سودنة ثورة 19 ديسمبر وتجذيرها في أعماق التاريخ السوداني. شاعت مفردة الكنداكة، بعد الثورة، في العالم، فأحتفى بها العالم إيما إحتفاء، وهو احتفاء لا ينفصل عن الاحتفاء بثورة 19 ديسمبر، الأمر أعاد للمواطن السوداني بعض من كرامته في الشارع العالمي.
التضحية في سبيل الوطن تمنع الانتهازية في الممارسة السياسية
ثورة 19 ديسمبر وشهداء الحرية من الشباب اليافعين
"من ذا الذي يزعم أن الحرية تفدى بأقل من الأنفس الغوالي؟"( ).
محمود محمد طه، 1955
قدم الشباب السوداني في ثورة 19 ديسمبر الشعبية، تضحية لم يشهدها السودان من قبل. فقد واجه الشباب اليافع قمع النظام وقسوته بصدور عارية، وظلو ا على استعداد لمواجهة الموت وكل أشكال العنف، وفي هذا إخلاص للسودان وشعور بوحدة المصير لم نجد له نظير في ثورة أكتوبر أو انتفاضة أبريل. بل كان مستوى التضحية التي قدمها الشباب السوداني مع الاصرار على السلمي ة أمراً جديداً، ليس على السودان فحسب؛ وإنما على العالم. وبهذه التضحية يكون الشباب السوداني قد أدخل معنى جديداً في سجل الممارسة السياسية، وهو معنى التضحية. فغياب الضحية من أجل الوطن، كما يرى الأستاذ محمود حمد طه، صاحب مشروع الفهم الجديد للإسلام( )، أورثنا الانتهازية في الممارسة السياسية. كان الأستاذ محمود محمد طه، قد لفت الانتباه باكراً إلى خلو الإرث السياسي من التضحية في سبيل مواجهة الاستعمار. وأشار إلى أن غياب التضحية في سبيل الاستقلال أدى إلى غياب الإخلاص للسودان الأمر الذي أوجد الانتهازية لدى قادة الحركة الوطنية. وأوضح بأن الانتهازية تعنى أن كل شخص يريد لنفسه، وهذه هي الصورة التي تربى عليها قادة السودان، حتى، كما يقول، أن الشعب قد شعر بأن قادته وسياسييه انتهازيين( ). وعلى الرغم أن قادة السودان وساسته من الشعب السوداني الأصيل، وهم بذلك، كما يقول محمود محمد طه، يشاركونه أصالته، بيد أن الاستعمار زيفهم وأوسعهم تزييفاً، وعلمهم فأفسدوا تعليمهم، ولم تكن روح التضحية ولا روح الوطنية الحقة عنصراً من عناصر تعليمنا ولا عاملاً من عوامل تربيتنا على يد مستعمرينا( ).
عبَّر الشباب ال س وداني ف ي ثورة 19 ديسمبر من خلال ما قدمه من تضحية، عن أشواقه لاستكمال الاستقلال، كما أوجد معاني وقيم جدي دة في واجبات ومفهوم المواطنة والإخلاص للوطن. لاريب في أن هذه القيم والمعاني ستظل باقية في القاموس السياسي وسيكون لها أثراً كبيراً ومستمراً في الممارسة السياسية في السودان.
ثورة 19 ديسمبر ضد الفهم المتخلف للإسلام
يشير البعض إلى أن ثورة 19 ديسمبر كانت ضد الإسلام السياسي، وهذا صحيح، ولكن ليس كل الصحة، فهذه الثورة كانت ضد الفهم المتخلف للإسلام. فالإسلام السياسي يمثل مستوى من مستويات الفهم المتخلف للإسلام الذي يشمل قطاعات واسعة من الجماعات والمؤسسات الإسلامية التقليدية. وفي هذا فإن ثورة 19 ديسمبر هي دعوة للتحرر من هذا الفهم المتخلف للإسلام، بكل ألوانه وأشكاله ومؤسساته، ودعوة للاستقلال من التبعية العمياء، ودعوة للتحرر من الأوصياء على العقول من رجال الدين. ومن الملاحظات الجديرة بالذكر هي أن هذه الثورة خلت تماماً من شعارات وهتافات الهوس الديني المفرغة من معانيها والموروثة من النظام السابق، على شاكة "الله أكبر". بل كانت الشعارات ضد الهوس الديني، فعلى سبيل المثال، لا الحصر، "أم بدة دين تجار الدين".
لخصت الثورة المواجهة في السودان بين فريقين، فريق تيار الوعي الذي ينشد الحرية والتغيير والتحول الديمقراطي، وهؤلاء هم الثوار وهم أصحاب الغد وبناة سودان المستقبل. وفريق آخر يمثله أصحاب الامتياز الذين يتمسكون بالسائد والمألوف في الحياة والفهم، ويرفضون التغيير. وهؤلاء عادة، بحكم ما ظلوا يحصلون عليه من مصالح وينعمون به من امتيازات، غير مستجيبين للتغيير، وغير مستعدين ليدركوا الحاجة للتغيير، أو على الأقل هم يبطئون، في إدراك هذه الحاجة( ). وعلى رأس قائمة أصحاب الامتياز يأتي جماعات الفهم المتخلف للإسلام بمختلف تكويناتهم الحزبية ومؤسساتهم مثل هيئة علماء السودان وغيرها. هذا الفريق بما يحمله من فهم متخلف للإسلام وانفتاحاً على الماضي وانغلاق تجاه المستقبل، سيكون في حالة حصار مستمر بتيار الوعي الجارف الذي فجرته ثورة 19 ديسمبر.
ثورة 19 ديسمبر وبعث قيم الشراكة والبناء الجماعي
لم يحظ السودان في أي لحظة من لحظات تاريخه، منذ استقلاله وحتى اندلاع ثورة ديسمبر 2018 بجهود بناء جماعي، اشتركت فيها كل شعوبه، وكل طاقات مثقفيه. سبق وأن أشار فرانسيس دينق في كتاباته إلى أزمة البناء الجماعي هذه في السودان. فالثابت هو الصراع. وما كان يمكن أن يكون هناك مشروع وطني وفرصة للبناء الجماعي قبل معالجة جذور الصراع وتحقيق التسوية الوطنية. الأمر الذي يتطلب الثورة والتغيير الجذري والشامل. لم تخاطب الثورات السابقة جذور الصراع، ولم يكن هناك استعداد للشراكة والبناء الجماعي للوطن، بينما أوجدت ثورة 19 ديسمبر معطى جديد في المشهد السياسي السوداني وهو الاستعداد للبناء الجماعي. فقد مثَّل اندفاع الأحزاب والاتحادات والحركات والمنظمات واللجان على التوقيع على إعلان قوى الحرية والتغيير( ) في الأول من يناير 2019، حتى تجاوزت الـ (150)، أبلغ دليل على الاستعداد للبناء الجماعي.
استطاعت قوى إعلان الحرية والتغيير( )، وهو أكبر تجمع سياسي يشهده السودان، أن تتجاوز خلال عملها العديد من الصعاب، فقدمت نموذجاً للعمل الجماعي لم يعرفه السودان من قبل. كما أنها نجحت كذلك في أن تمثل المرجعية للشرعية الثورية، فضلاً عن قدرتها على تشكيل حكومة الفترة الانتقالية، ووضع برنامج للفترة الانتقالية، إلى جانب حرصها على الشراكة مع الحركات المسلحة في بناء السلام. يمكن القول بأن ثورة 19 ديسمبر دفعت بحتمية البناء الجماعي إلى الساحة السياسية في السودان، الأمر الذي يتطلب تواضع الجميع على مشروع وطني عنوانه الشراكة والبناء الجماعي. ويقيني أن السودان بعد ثورة 19 ديسمبر سيشهد ولأول مرة تجربة البناء الجماعي من أجل رسم مستقبل جديد للسودان.