السلام هو أحد أضلاع مثلث شعار ثورة السودان المتساوي الأضلاع، والضلعان الآخران هما الحرية والعدالة. إبان نظام الفساد والاستبداد البائد، كنا نحلم بأن أجنحة السلام سترفرف في البلاد بمجرد سقوط النظام. وبعد انتصار الثورة، قدّر البعض، والحركات المسلحة من زمرة هؤلاء البعض، أن السلام سيتحقق خلال الشهر الأول من تكوين الأجهزة الانتقالية.
أما الإعلان الدستوري، فكان أكثر تعقلا وواقعية، فحدد إنجاز السلام خلال الستة أشهر الأولى للفترة الانتقالية. التفاؤل، وتحديد الشهر والستة أشهر، لإنجاز عملية السلام، لم يكن اندفاعا عاطفيا أعمت بصيرته فرحة الانتصار، وإنما كان يستند على أسس موضوعية تقول إن محادثات السلام هذه المرة، هي أقرب للحوار من التفاوض، لأنها لن تدور بين خصوم أعداء بل بين حلفاء شركاء وإن جلسوا على ضفتين، وأن من أهم مقومات نجاحها، وهي في نفس الوقت ستكون من أسباب فشلها إذا لم تؤخذ بعين الاعتبار، هي إدراك الجميع بأن الثورة خلقت واقعا جديدا مختلفا عن الواقع السابق، ومؤاتيا أكثر منه لتحقيق السلام، خاصة وأن الحركات المسلحة شريك أساسي في إزكاء شعلة هذه الثورة المجيدة.
وها نحن، قبل أقل من شهرين، احتفلنا بعيد الميلاد الأول لانتصار الثورة. وأجهزة الحكم الانتقالي تقترب من إكمال عامها الأول. ومع ذلك، لا يزال السلام بعيدا. لقد أطلقناها صرخة من قبل، ونكرر ذلك الآن، إذا ما كانت الإرادة المسيطرة حقا عند كل الأطراف، هي الاستجابة لشعارات ثورتنا المجيدة، فليس هناك سوى اتجاه واحد فقط يجب أن تسير فيه محادثات السلام، وهو الاتجاه المؤدي إلى النجاح.
لا مجال للفشل إطلاقا، لأن الفشل يعني انتكاسة حقيقية لثورة السودان، ويضرب الفترة الانتقالية في مقتل. والسلام، في تصوري، هو البوابة الوحيدة التي من خلالها يمكن أن ننجز مهام الفترة الانتقالية الأخرى. وبالنسبة لنا، فإن فشل محادثات السلام ليس هو فقط انفضاض جولاتها دون اتفاق بين الطرفين، وإنما ابتسارها واختزالها في مجرد اقتسام كراسي السلطة، الإتحادية والولائية، بعيدا عن حقوق وتطلعات شعبنا في مناطق النزاع والحروب. ومن البديهي أن معيار نجاح أي مسار أو منبر تفاوضي ليس هو ما سيحققه هذا المنبر من مكاسب لأطراف التفاوض، وإنما في قدرته على فض حلقات الأزمة الوطنية لصالح الشعب السوداني، أي قدرته على مخاطبة جذور الأزمة، كما يقول الجميع.
وإذا ما رجعنا بالذاكرة إلى الاتفاقات السابقة، سنلاحظ أن ما تم التوافق عليه كان خطوة هامة في اتجاه وقف الحرب. لكن، قطاعات واسعة من الشعب السوداني كانت تصر على أن محصلة اتفاقية السلام الشامل جاءت تعبيرا عن الرؤى السياسية للحركة الشعبية وحكومة الإنقاذ، في حين القضايا ذات الصبغة القومية الشاملة جاءت كناتج ثانوي لهذه الرؤى. وأن منابر أبوجا والدوحة والشرق لم تتناول قضية التهميش في دارفور وشرق السودان وفق المنظور السياسي القومي، بل اختزل الأمر في اتفاق فوقي حول اقتسام كراسي السلطة. وأن اتفاق القاهرة بين التجمع والحكومة، رغم بنوده الثلاثة عشر التي تغطي معظم حلقات الأزمة السودانية، تلخص في محاولة لزيادة نصيب أحزاب التجمع في كعكة السلطة! وغض النظر عن الاتفاق أو عدمه مع أي من هذه الرؤى، إلا أنها، في تقديري، كانت تحتوي على بعض الجوانب الموضوعية.
أما الملفت للنظر، والمزعج في آن، بالنسبة لعملية السلام الجارية الآن، هو أن المحادثات بين الحكومة والحركة الشعبية لتحرير السودان/شمال بقيادة عبد العزيز الحلو، تعثرت فتوقفت منذ البدايات الأولى.
تقول الحركة إنها أرسلت للحكومة منذ عدة أشهر موقفها من قضايا التفاوض، ولكن حتى اللحظة لم يصلها رد، بينما أروقة الحكومة تقول إنها ترى في طرح العلمانية من جانب الحركة خروجا على نص قضايا التفاوض.
ومباشرة نحيل هؤلاء إلى الاتفاق الموقع بين الحزب الاتحادي الديمقراطي، وقع عنه نائب رئيس الحزب السيد جعفر الصادق محمد عثمان الميرغني، والحركة الشعبية لتحرير السودان/شمال، وقع عنها زعيم الحركة عبد العزيز آدم الحلو، بتاريخ 29 يناير/كانون الثاني 2020، مشددين منذ البداية على أن لا أحد يمكنه أن يزايد على القامة الدينية لزعامات الحزب الاتحادي الديمقراطي وطائفة الختمية، ولا على التوجه الإسلامي العام للحزب، والذي ضرب مثلا في كيفية تطويع مبادئه وتوجهاته لخدمة وقف الحرب وبسط السلام والحفاظ على وحدة البلاد.
وهذا المسلك ليس بالجديد على الحزب، فقد كان حاضرا في اتفاقية الميرغني قرنق، نوفمبر/تشرين الثاني 1988، وفي توقيع الحزب على قرارات مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية، يونيو/حزيران 1995، والتي تضمنت قرار فصل الدين عن السياسة.
أكد اتفاق الميرغني الحلو على تفهم الحزب الاتحادي الديمقراطي لدوافع مطالبة الحركة الشعبية بالعلمانية وتقرير المصير، والتزامه بالعمل مع الأطراف السودانية لمعالجة الأمر سعيا لوقف الحرب ودرءا للفتنة الدينية. كما أكد الالتزام بوحدة السودان الطوعية المؤسسة على الديمقراطية والتعدد الديني والعرقي، والثقافي، ورفض قيام الأحزاب السياسية على أساس ديني. ونادى بإلغاء كافة القوانين المقيدة للحريات وتلك التي تميز بين المواطنين بسبب العرق أو الدين أو الجنس أو الثقافة، والرجوع لقوانين سنة 1974، إلى حين التوافق على الدستور الدائم. كما دعا لصياغة قوانين بديلة تضمن المساواة الكاملة بين المواطنين دون تمييز تأسيسا على حق المواطنة، وتتطابق مع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان ويبطل أي قانون يصدر مخالفا لذلك، ويعتبر غير دستوري.
وشدد الاتفاق على محاكمة كل من ارتكب جرما في حق الوطن والمواطن، كشرط لإفساح المجال لتحقيق العدالة الانتقالية.
أعتقد أن اتفاق الميرغني الحلو، وكما جاء في متنه، يمثل نموذجا للحكمة السودانية في معالجة القضايا العصيبة التي تجابه الوطن، ويمكن أن يشكل أساسا لمصالحة وطنية شاملة، تداوي مرارات الصراع، وترمم الشروخ الاجتماعية.
نقلا عن القدس العربي