تابعت بالأمس قناة "الغد" وهي تقدم برنامجًا حواريًا عن المفكر الراحل، محمد أركون. قبل نهاية البرنامج بدقائق، قطعت القناة الإرسال وانتقلت إلى وزارة الخارجية السودانية لتنقل المؤتمر الصحفي الذي عقده وزير الري السوداني، حول آخر تطورات المفاوضات المتعلقة بسد النهضة. وقد واصلت القناة النقل المباشر لذلك المؤتمر حتى نهايته. كان من الممكن أن تصور القناة المؤتمر الصحفي وتورد خبره ضمن أول نشرة إخبارية تأتي عقبه، مصحوبًا بلقطات منه. لكنها بدلا عن ذلك نقلته كاملاً، من ألفه إلى يائه. لقد كانت هناك أكثر من عشرة محطات تلفزة ما بين عربية وناطقة بالعربية، حاضرةً في المؤتمر. ولا أدري كم منها نقل المؤتمر نقلاً مباشرا. المهم أن نقل المؤتمر كاملاً، وقت حدوثه، من قبل قناة الغد، كان لافتا. عقب نهاية النقل المباشر للمؤتمر اتصلت القناة بمراسلها في الخرطوم ووجهت اليه مجموعة من الأسئلة أجاب عليها. وفي أول نشرة أخبار أعقبت المؤتمر، أوردت القناة خبر المؤتمر مرة أخرى، واتصلت بمراسلها في الخرطوم طالبةً المزيد من الايضاحات.
أورد القناة في نشرتها، أيضًا، خبر المحادثة التي جرت بين السيد رئيس الوزراء عبد الله حمدوك ووزير الخزانة الأمريكي ستيفن مونشين. وقد أشاد مونشين بجهود السودان، وسعيه لحث أطراف النزاع حول سد النهضة للوصول إلى اتفاق عبر التفاوض. وما من شك أن قنوات كثيرة قد اهتمت بهذا المؤتمر وبمبادرة السيد رئيس الوزراء، وبما قدمه السيد وزير الري في هذا المؤتمر، الذي عكس موقفا متزنًا متسمًا بالحكمة، وباستقلالية القرار. شعرت من كل ذلك، أن صورة بلادنا وصورة مسؤولينا قد بدأت تتغير. وأن العالم قد بدأ ينظر إلى بلادنا باحترام. ولقد كان اللافت في كل هذه المادة الخبرية غياب المكوِّن العسكري في الشراكة الجارية حاليًا. وأحب أن أضيف إلى علامات التحول التي عكسها نقل قناة الغد، الذي كان أمينًا ومحايدًا، ما سيجري اليوم من في مؤتمر شركاء السودان في برلين، عبر تقنية الفيديوكونفرس، لمناقشة سبل دعم الفترة الانتقالية والتحول الديموقراطي في السودان. فاشتراك الأمين العام للأمم المتحدة، وممثل الاتحاد الأوروبي، وغيرهم فهذا أيضًا حدثٌ كبيرٌ يدل على تبلور الصورة الجديدة، التي بدأت تتشكل في العالم عن السودان.
ما من شكٍّ، أن عهد إمساك العسكريين بمقاليد الأمور في دول العالم النامي قد انقضى. لذلك، لا ينبغي أن يفكر أيٌّ عسكري، الآن، في أن يكون واجهةً لبلاده. فلعالم لم يعد يستسيغ التعامل مع العسكريين الذين يحكمون. بل، إن الحكومات الغربية التي كانت تدعم في الماضي الأنظمة العسكرية، وتتدخل مخابراتها، أحيانًا، لتغيير الأنظمة بالانقلابات العسكرية، كفَّت عن ذلك. فالشعوب في كل العالم أصبحت أكثر وعيًا، وأكثر إحكاما للرقابة على حكامها. لقد جربنا الواجهة العسكرية في الحكم في السودان ثلاث مرات، امتدت لاثنتين وخمسين عامًا، اتسمت بحروب مستمرة، إلى اليوم، وبفقدان البلاد ثلث مساحتها، وأكثر من 50% من مواردها الطبيعية. ولم تعد في أقطار العالم النامي، اليوم، أنظمةٌ عسكرية، سوى في بلدانٍ قليلةٍ جدا. لقد تساقط أغلبها، ولن يلبث المتبقي منها أن يسقط. هذا هو تيار التاريخ، ومن يسبح ضده في أوج فيضانه، سيغرق حتما.