السياحة المورد المُهْمَل

 


 

 

 

(1)

صحيفة التيار 31 يوليو 2020

من علامات الجهل بقدر السياحة الاقتصادي والتنموي والثقافي والدبلوماسي، جعلها جزءًا من وزارة، تضم أقسامًا أخرى غيرها، تجد عناية أكبر منها. لقد ظلت الحكومات الوطنية المتعاقبة، منذ الاستقلال، وإلى اليوم، قليلة الاهتمام بالسياحة. رغم أن السياحة موردٌ اقتصاديٌّ لا يقل قيمة عن أي موردٍ اقتصادي آخرٍ، ظلت البلاد تعول على إيراداته بصورة رئيسة. وجميعنا يعلم ما تدره السياحة على مصر في الظروف الطبيعية، كل عام. تتفوق السياحة على بقية الموارد بميزة أن الاستثمار فيها قليل الكلفة، وعوائده بالغة الضخامة. ويتميز السودان بالكثير من عوامل الجذب السياحي وعلى رأسها آثار حضارة مروي حوالي شندي، وآثار حضارة نبتة، في منطقة البركل، وآثار حضارة كرمة في منطقة الدفوفة شمالي دنقلا وفي غير هذه المواقع، مما له صلة بالتاريخ الكوشي القديم. يضاف إلى ذلك المتاحف الموجودة في تلك المواقع الأثرية وفي متحف السودان القومي في الخرطوم.

غطت على هذا التاريخ السوداني العظيم عدة عوامل. من أهمها: إلحاق علماء المصريات الغربيين حضارة كوش بالحضارة المصرية، وعدِّها امتدادًا ثانويًا لها. وهذا أمرٌ جرت مراجعته مؤخرًا، وثبت أن حضارة السودان مستقلةٌ عن الحضارة المصرية، بل وسابقةٌ لها. أما العامل الثاني فهو تبني المصريين لوجهة النظر الغربية الخاطئة هذه، فهي تفيد خطتهم في استتباع السودان وإلحاقه بالقطر المصري. وتجعل، من ثم، الآثار المصرية هي الأصل ومصر هي نقطة الجذب السياحي الأساس، الأمر الذي يُبقى التاريخ الكوشي السوداني في الظل، بحيث لا يمثل أكثر من فرعٍ ثانويٍّ قليل الأهمية. والعامل الثالث الذي عوَّق صناعة السياحة في بلدنا، هو جهلنا بتاريخنا، وانصرافنا عنه إلى التاريخ العربي الإسلامي، وعدَّه التاريخ الوحيد للشعوب السودانية. هذا، في حين أن التاريخ الإسلامي السوداني لا يمثل سوى رافدٍ واحدٍ من عدة روافد، ولا يتعدى عمقه الزمني الخمسة قرون.

رغم أهمية التاريخ الكوشي وغناه وكثرة آثاره المنتشرة في السودان، فإنه لا يمثل سوى عاملٍ واحدٍ من عوامل الجذب السياحي. فالسودان قطرٌ بحجم قارة، حتى بعد أن فقد الجنوب. يتمتع السودان بتنوع مناخيٍّ وطبوغرافي وثقافي يجعل السياحة عديدة الصور. وعلى سبيل المثال، للسودان ساحلٌ على البحر الأحمر يصل طوله إلى 750 كيلومترًا، وتعد مياهه من أصفى المياه وأجملها لونًا، وهو من أنسب الأمكنة لممارسة هواية الغطس. أيضًا يمتاز هذا الساحل بحياة بحرية مدهشة. وللسودان، إلى جانب ذلك، صحراء شاسعة يمكن أن تكون مصدرًا لجذب السياحة الصحراوية التي لها هواة في كل بقاع العالم وكذلك لمنافسات راليات السيارات الصحراوية. أيضًا يتمتع السودان بفصل شتاء جاف مشمس هادئ الرياح، يصلح لرياضة المناطيد الحرارية. وهناك أيضًا محمية الدندر بغاباتها وحياتها البرية وجبل مرة وجبال النوبة. وكل هذه المناطق ذات طبيعة ساحرة ولقبائلها تراث غني بالطقوس وفنون الرقص والمصارعة والأعمال اليدوية. وعمومًا يمكن أن يكون موسم الخريف في عديد بقاع السودان نقطة جذب سياحية كبيرة. وليتنا درسنا تجربة مهرجان الخريف في صلالة في سلطنة عمان الذي أصبح جاذبًا لكل موطني دول الخليج وأسرهم. ما نحتاجه هو بنية تحتية جيدة، وقدرات ترويجية فعالة، ومكافحة الانغلاق والتشدد الديني، ونشر الوعي السياحي والمسلك المتمدين وسط الجمهور.


السياحة المورد المهمل (2)

لكي نتصور ازدهار السياحة في الاقتصادات المتقدمة والمتوسطة التقدم، ربما احتجنا أن نلقي نظرة على بعض الأرقام. ودعونا نأخذ بعض الأمثلة القليلة من الدول الصناعية، حيث تتربع فرنسا على عرش السياحة في العالم بعدد سياح سنوي يبلغ 91 مليون سائح تقريبا، بعائد سنوي يبلغ 54 بليون دولار تقريبا. تليها الولايات المتحدة بعدد 76 مليون بعائد يبلغ 206 بليون. ثم إسبانيا بعدد 75 مليون سائح، بعائد 60 بليون دولار. ثم الصين بعدد 59 مليون سائح بعائد يبلغ 44 بليون دولار. ولا يتفاوت العائد بين دولة وأخرى بناءً على كثرة عدد السياح وإنما بمقدار ما يصرفه الفرد الزائر. ففرنسا يزورها91 مليون سائح، بعوائد سنوية تبلغ 54 بليون دولار، في حين يزور الولايات المتحدة 76 مليون سائح، ولكن بعائد يبلغ 206 بليون دولار.

ولنأخذ أمثلة أخرى من الدول ذات الاقتصادات المتوسطة. فتركيا يبلغ عدد زوراها السنويين، 30 مليونا، بعائد سنوي يبلغ 18 بليون دولار. أما تايلاند، فيبلغ عدد زوراها 32 مليونا بعائد يقدر بـ 48 بليون دولار. ويبلغ عدد زوار ماليزيا 26 مليونا بعائد يقدر بـ 18 بليون دولار. وتأتي دول الشرق الأوسط وإفريقيا في أسفل قائمة القارات التي يزورها السياح. والدولة الأكثر استقبالاً للسياح في المنطقة العربية وتعد استثناء هي الإمارات العربية المتحدة، بعدد سياح يبلغ 14 مليون، بعائد سنوي يصل إلى 19 بليون دولار. ثم المغرب بعدد 10 مليون سائح بعائد سنوي يبلغ 6 بليون دولار. وتونس 5 مليون سائح بعائد سنوي يبلغ 1 بليون دولار. ومصر 5 مليون سائح بعائد سنوي يبلغ 2 بليون دولار. أما السودان فيأتي في المرتبة 130 عالميا من حيث عدد السياح، إذ يبلغ عدد من يزورونه 800 ألف سائح، بعائد بليون دولار. (راجع موقع: worldpopulationreview.com
).

يعد مورد السياحة في السودان، من حيث الإمكانات موردٌ ثرٌّ، لكنه مهمل. فبعض الأقطار التي تجني عشرات البلايين من الدولارات سنويًا من مورد السياحة، أقل في المقومات السياحية الطبيعية والتاريخية، والتنوع البيئي والثقافي، من السودان، لكنها تتفوق على السودان في البنية التحتية للسياحة، وفي سهولة الاجراءات وفي القدرة على الترويج للسياحة وفي الاندماج في المجتمع الدولي. وكذلك، في قبول السياح على ما هم عليه، دون أي مضايقات تضطرهم إلى تغيير أسلوب حياتهم الذي اعتادوه. كان من الممكن للسودان أن يتفوق على كل من الإمارات والمغرب وتونس ومصر، في الجذب السياحي، لولا الأخطاء السياسية الفادحة.

من هذه الأخطاء السياسية الفادحة صدور قوانين سبتمبر عام 1983 في عهد الرئيس الراحل، المخلوع، جعفر نميري. كانت تلك هي اللحظة التي فقد فيها السودان الزوار الأجانب الذين كانوا يقصدونه للسياحة. أما الضربة التي قصمت ظهر مورد السياحة، غير المُطَّور أصلاً، فقد كانت من حكومة الانقاذ، التي أدخلت البلاد في قائمة الدول الراعية للإرهاب. وجعلت من البلاد مزارًا ومقامًا للجماعات الدينية المتطرفة من سائر أنحاء العالم الإسلامي. تسببت العزلة والحروب الأهلية التي انتشرت في سائر أطراف البلاد في جعل السودان دولة مضطربة غير آمنة. كما أن المسؤولين الإنقاذيين المتشرِّبين تزمت الفكر الإخواني التقليدي، أظهروا عداءً للغرب وللغربيين، بل وللحداثة برمتها، فخرج السودان، أو كاد، من دائرة الجذب السياحي. (يتواصل)

 

آراء